ذكرنا في المقال السابق، أنه قد صار من المعتاد أن يستيقظ البعض من ثباتهم الشتوي كل عام في ذكري ثورة يوليو لكيل الهجوم علي الثورة بوجه عام، وعلي زعيمها الراحل جمال عبد الناصر بوجه خاص سواء من خلال كيل الهجوم عليه بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر من خلال تشبيه حسن نصر الله (زعيم حزب الله) به كزعيم للأمة العربية. وقد تناولنا في مقال الأسبوع الماضي قضية علاقة عبد الناصر بالحريات (نموذج قضية حقوق الإنسان). وفي هذا المقال، نتعرض لعلاقة عبد الناصر بقضية الحرية الدينية.. (خاصة في علاقته بأقباط مصر) كمرحلة مهمة من تاريخ مصر. إنها المرحلة التي شهدت متانة العلاقة بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والبابا الراحل كيرلس السادس.. كعلاقة مباشرة لا يدخلها وسطاء ولا تدخلها حساسيات، وذلك في ظل وجود مشروع قومي للجميع، وفي ظل التركيز علي الخطاب السياسي الوطني وتأكيده، وليس الخطاب الديني.. للدرجة التي جعلت الرئيس جمال عبد الناصر يتفق مع البابا منذ التقاه للمرة الأولي بعد انتخابه بطريركاً علي أن يكون الاتصال بينهما مباشراً بحيث أعطي له الحق في أن يطرق باب رئيس الدولة في أي وقت يشاء. وإذا كان مشروع جمال عبد الناصر الفكري والسياسي كما يظهر من مجمل مفردات خطابه الفكري هو أن تكون مصر محور الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، ودائرة دول عدم الانحياز؛ فإنه كان قد بدأ العمل علي الدائرة المسيحية أيضاً. ويظهر ذلك من خلال تبرعه المادي وتدعيمه المعنوي لبناء أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط وإفريقيا لتكون مركزاً للمسيحية الأرثوذكسية، ومقراً للبابا القبطي.. القطب الموازي دينياً للمسيحية الغربية (الفاتيكان) والأقدم تاريخياً منها. وهي الدائرة التي لم تكتمل في عهده. ونذكر هنا، أنه أثناء وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الجديدة بالعباسية في حضور الإمبراطور الأثيوبي هيلاسلاسي والبابا كيرلس السادس، قال جمال عبد الناصر: (نادي الدين المسيحي ونادي الدين الإسلامي بالمساواة وتكافؤ الفرص واستنكر الاستغلال بكل معانيه.. وإحنا كحكومة وهيئة حاكمة وأنا كرئيس جمهورية مسئول عن كل واحد في هذا البلد مهما كانت ديانته، ومهما كان أصله وحسبه ونسبه.. ومسئوليتنا دي إحنا مسئولين عنها قدام ربنا يوم الحساب). علي هذا النحو، نجد أن السمة الأساسية لمرحلة الزعيم جمال عبد الناصر كان لها طابع التكامل الوطني والقومي للمجتمع كله. وكانت القضية الوطنية هي محور اهتمام المواطنين المصريين. وفي هذا الصدد، أتذكر هنا أنني قد قرأت العديد من المقالات التي تتحدث عن علاقة الرئيس جمال عبد الناصر بالبابا كيرلس في إطار من الظواهر الخارقة علي غرار أن البابا قد شفي الرئيس من أزمة قلبية، وفي رواية أخري شفي أحد أبنائه. وهو ما يتكرر إلي الآن من خلال العديد من وعظات الكهنة والمسجلة علي شرائط كاسيت. وقد شغلتني هذه القضية كثيراً، ولم (أستسيغ) تقبل مثل هذه الأطروحات لأنها في تقديري لا تستقيم مع شخصية الرئيس جمال عبد الناصر من جانب، ولا مع توجهاته المدنية إلي حد كبير من جانب آخر. وهو ما جعلني أتناقش مع الراحل الأنبا جريجوريوس (أسقف عام الدراسات اللاهوتية والبحث العلمي) في هذا الأمر حيث أكد لي علي صدق حدثي حينما أسرد لي قصة تؤكد علي أن علاقة الاحترام والتقدير بين البابا والرئيس كانت نتاج تفاعل عقلي وإنساني بعيداً عن الظواهر الخارقة التي لا أجد لها شخصياً محلاً من الإعراب في هذه العلاقة. قال لي الأنبا جريجوريوس أنه أثناء زيارة إمبراطور الحبشة هيلاسلاسي إلي القاهرة ذات مرة، لم يستطع الرئيس عبد الناصر استقباله في المطار. وأرسل له وفداً رسمياً لاستقباله، وكان في مقدمتهم مدير مكتبه. وبعد مراسم الاستقبال أصر الإمبراطور هيلاسلاسي علي أن يتوجه مباشرة لزيارة البابا كيرلس السادس. وبالفعل، ذهب ومعه مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للبابا، وأثناء استقبال البابا له فوجئ مندوب الرئيس عبد الناصر بمدي الاحترام الذي تعامل به الإمبراطور الأثيوبي مع بابا الإسكندرية.. خاصة في انحنائه للبابا. وهي القصة التي نقلت بالكامل للرئيس عبد الناصر. بالإضافة إلي حدث آخر كان له صدي كبير في توطيد علاقة البابا بالرئيس. وهو أن الإمبراطور هيلاسلاسي قد قرر عقد مؤتمر ضخم لرجال الدين المسيحي علي مستوي العالم، وعلي أن يتولي رئاسته البابا المصري كيرلس السادس. وقد فوجئ الإمبراطور باعتذار البابا وإيفاده لوفد رسمي من الكنيسة القبطية. فقام الإمبراطور بتأجيل المؤتمر لحين حضور البابا كيرلس. وهو ما تسبب في تأجيل المؤتمر لفترة من الزمن. ولم تفلح محاولات إقناع البابا بالذهاب إلي أثيوبيا.. آلا حينما تدخل الرئيس عبد الناصر في الأمر بطلب من الإمبراطور هيلاسلاسي. وفي اعتقادي، إن مثل هذه الأمور هي التي نسجت خيوط تلك العلاقة المتينة بين البابا والرئيس علي أسس وطنية من جانب، ومن خلال التقدير والاحترام المتبادل من جانب آخر. إن فترة الرئيس جمال عبد الناصر هي فترة كانت من الممكن أن نجني ثمارها الوطنية في العلاقات بين المواطنين المصريين مسيحيين ومسلمين لو استمر الحال كما هو عليه. غير أن فترة الرئيس أنور السادات بعد ذلك كانت علي العكس تماماً.. حيث تم الترويج لدولة العلم والإيمان.. تلك الدولة التي كان الرئيس السادات هو ضحيتها الأساسية.