تُمر مصر بعد ثورة 25 يناير، بالعديد من الأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية، ولكن أخطرها هي الأزمات الاجتماعية التي تعصف بمصر الآن، حيث أن عدم التوافق السياسي قد أدى إلى الاحتقان المُجتمعي الذي تولد عنه العديد من أعمال ومظاهر العنف، فلقد أصبح العنف المُجتمعي والسياسي من أهم ملامح مصر بعد الثورة. وناهيك عن التداعيات السلبية التي يُلقي العنف السياسي والمُجتمعي بظلالها على الاقتصاد حيث تزايد مُعدل هروب رؤؤس الأموال والاستثمارات المحلية والدولية، وإغلاق العديد من المصانع وتزايد مُعدلات البطالة، ومعدلات التضخم، جل ذلك أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع مُعدلات ثقة المؤسسات الدولية والمُستثمرين الدوليين في الاقتصاد المصري، وهو ما جعل التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري يتراجع، فأن هذا الاحتقان والعنف المُجتمعي والسياسي أدى إلى تهديد أمن وسلامة المجتمع. المحور الأول: تعريف المواطنة المواطنة كمُصطلح في العلوم الاجتماعية والسياسية، لا يوجد لها تعريف جامع مانع مُتفق عليه، حيث تتعدد الرؤى والتوجهات في تعريف وتحديد مفهوم المواطنة، وبادئ ذي بدء فأن مفهوم المواطنة في اللغة مُشتقة من كلمة وطن، والوطن هو المكان الذي يُقيم فيه الإنسان، ووطن البلد أي اتخذه وطناً .ارتبط مفهوم المواطنة المُعاصر مع القوانين والدساتير الدولية، سواء الدستور الأمريكي(1789) أو الفرنسي أو من خلال المعاهدات الدولية. فالمواطنة "Citizenship" هي صفة المواطن والتي تُحدد حقوقه وواجباته الوطنية. ولقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها" علاقة بين فرد ودولة يُحددها قانون تلك الدولة مُتضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ عليه حقوقاً" .أذن المواطنة هي علاقة تتضمن الحقوق والواجبات، فهي ليست علاقة أحادية الاتجاه، بل هي علاقة تبادلية حيث يضمن ويكفل الوطن للمواطن الحقوق العامة والشخصية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية،...الخ، وفي الوقت نفسه على المواطن أن يُقدم واجبات تجاه وطنه الذي يحيا فيه ويتمتع بخيراته، ويتمتع بحقوقه. وللمواطنة أبعاد مُتعددة تتكامل و تترابط في تناسق تام: البُعد القانوني: يتمثل في العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم أساسها العدالة والشفافية والمساواة. البُعد الاقتصادي: يُتمثل في مُساهمة المواطن في عملية النمو الاقتصادي لوطنه. البُعد الاجتماعي: يستهدف توفير الحد الأدنى اللازم منها ليحفظ كرامة وإنسانية المواطن. البُعد الثقافي والحضاري: وهو ما يتصل بالجوانب الثقافية والنفسية والمعنوية للأفراد والجماعات على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية والحضارية ويرفض محاولات الاستيعاب والتهميش والتنميط . المحور الثاني: المنظومة المفاهيمية المُرتبطة بالمواطنة المواطنة مُرتبطة بعدة مفاهيم على المستوى الأكاديمي وأيضا على مستوى العملي والممارسة، ومن أهمها: الانتماء وعلاقته بالمواطنةيشير مفهوم الانتماء إلى الانتساب لكيان ما يكون الفرد مُتوحداً معه ومُندمجاً فيه، باعتباره عضواً مقبولاً وله شرف الانتساب إليه، ويشعر بالأمان فيه، وقد يكون هذا الكيان جماعة، طبقة، وطن، وهذا يُعني تداخل الولاء مع الانتماء والذي يُعبر الفرد من خلاله عن مشاعره تجاه الكيان الذي ينتمي إليه . والانتماء للوطن يُعد من أهم الانتماءات المُعاصرة حيث أن الانتماء للوطن جاء في إطار السمو عن الانتماءات الطائفية، والقبلية، والفكرية، والدينية المحدودة لانتماء أكثر شمولاً وأقل تميزًا حيث يسمو الأفراد عن انتمائها الخاصة لكي ينصهرون في بوتقة عامة تضم كافة المُنتمين لهذا الوطن ويشتركون في العيش والتاريخ والأعراف والثقافة التي توارثوها عبر الأجيال. الهوية وعلاقتها بالمواطنة الهوية في اللغة مُشتقة من الضمير "هو". ويشير مفهوم الهوية إلى الذاكرة والمخزون الجماعي لأي تكتل بشري، بما يشمله من قيم وعادات ومُقومات حضارية، وثقافية، وبيئية في إطار الحفاظ على كيانها.وهنا تبرز العلاقة الوثيقة بين المواطنة والهوية، فالعلاقة بينهم تبادلية، فهوية الفرد أو المجتمع تتشكل من خلال مجموعة المبادئ والقيم الاجتماعية، والحضارية، والثقافية، والتاريخية، والجغرافية، الاقتصادية ....فأن المواطنة هي تجسيد لهذه الهوية، حيث أن المواطنة تُعبر عن القواسم العامة والمُشتركة التي جمعت هذا المجتمع الذي يقطن وطن ما وتشارك في العيش والتاريخ والمستقبل. ويزداد الأمن القومي للدولة فعالية كلما تلاحمت كلا من الهوية والمواطنة، حيث أن تلاحم الهوية بالمواطنة يؤدى إلى نسيج مُجتمعي قوي مُتماسك، صعب الاختراق، والعكس صحيح.وعندما يحدث تلاحم بين الهوية والمواطنة يظهر ما يُسمى بهوية المواطنة أي التزاوج بين الهوية والمواطنة، فيكن مثلا ما نطلق عليه الهوية المصرية للمصريين، أي أن المواطنة بانتسابنا كمواطنين لمصر وطنًا ،وحضارة، وجغرافيا، وتاريخ، ومقومات، ومُقدرات عيش مُشترك، أصبح الوطن يُشكل الجزء الأكبر من هويتنا . المحور الثالث: أهمية ووظائف المواطنة تُعد المواطنة منظومة اجتماعية، وقانونية، وسياسية، ساهمت في تطور المجتمع الإنساني عالميًا، وعززت الارتقاء بالدول القومية المُستندة على المساواة والعدل والإنصاف، والديمقراطية والشفافية، والمُسائلة، وإلى الشراكة وضمان الحقوق والواجبات. وعليه ؛ فهي ذات أهمية بمكان لأنها تؤدى إلى: 1. السمو عن الولاءات الخاصة والشخصية والقبلية والدينية ...في إطار حضاري، وتاريخي حيث يتم دمج كافة كل هذه الولاءات في إطار تاريخي، واجتماعي، وثقافي أشمل يشمل كافة المواطنين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية، أو العرقية أو اللغوية ...الخ. 2. تكفل لجميع المواطنين كافة حقوقهم الشخصية والعامة المُختلفة وتوجب عليهم واجبات تجاه دولته، وهو ما يخلق ثقة لدى المواطن والدولة في تجاه أحدهما للآخر. 3. تضمن تحقيق أهم مبادئ تحفظ سلامة الدولة ونسيج المجتمع وهم المساواة والعدل والإنصاف بين المواطنين سواء أمام القانون أو في التكافؤ في الفرص والحقوق والواجبات بغض النظر عن دين أو لون أو جنس ...الخ 4. تقوم على احتواء التنوع والاختلاف العقائدي، والعرقي، واللغوي، والإيديولوجي والسياسي، والثقافي، والطائفي، والاقتصادي، والاجتماعي ...الخ وترتفع عنه في العلاقة بين المواطن والدولة. 5. تجعل المواطن على إيمان بأهمية المشاركة الفعالة في تدبير الشأن العام سواء اتخذ ذلك شكل الانخراط في النظام الانتخابي ناخبًا أو منتخبًا للمؤسسات المنتخبة، أو من خلال العضوية في منظمات وهيئات المجتمع المدني، أو غيرها من أشكال المشاركة الفعالة. 6. تُحدد منظومة القيم والسلوك الأساسي المقبول والمُكتسب للشرعية داخل المُجتمع.تتعدد مظاهر المواطنة ومن أهمها انتماء الفرد إلى وطن معين، والمشاركة الفعلية في الشأن العام للوطن، واحتواء الاختلاف بالحوار، وتقدير الآخر واحترامه مهما كان انتماؤه العرقي أو الديني أو السياسي أو الثقافي ..الخ، والممارسة الفعلية للحقوق وللواجبات . المحور الرابع: مُحددات لتعزيز المواطنة 1.الاحترام والقبول والتقدير للتنوع سواء الفكري، أو الديني، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي...الخ، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال، وحرية الفكر والضمير والمعتقد. 2.الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبًا أخلاقيًا فحسب، إنما هو واجب سياسي وقانوني أيضًا. كما أنه الفضيلة التي تيسر إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الصراع. 3.استكمال بناء النظام الديمقراطي لجميع المواطنين. 4.استكمال بناء المؤسسات الدستورية والقانونية القائمة على تعزيز الانتماء للوطن.كل هذه المُحددات تؤدى إلى تكوين أرضية مُشتركة تُمثل قاعدة للانطلاق في أفاق التعاون لجميع المواطنين لبناء وصيانة الوطن والمواطنة . المحور الخامس : آليات لتعزيز المواطنةمما لاشك فيه أن مصر بحاجة ماسة لآليات لتعزيز ثقافة المواطنة لحماية النسيج المُجتمعي من التقسيم، ومنها: 1.الاهتمام الإعلامي بنشر التوعية بأهمية المواطنة، وأن جميع المصريين هما شركاء في وطن واحد بغض النظر عن الدين، أو اللون، أو العرق، أو ....الخ. 2. تبني الحكومة لسياسات مُتوازنة لا تميزية. 3.تفعيل دور المجتمع المدني والأهلي في تعزيز ثقافة المواطنة وأهميتها لبقاء الوطن وحمايته. 4.تفعيل دور عملية التنشئة الاجتماعية في تعزيز المواطنة والانتماء من خلال الأسرة، والمساجد، والكنائس، والمدارس، والنوادي،.. وغيرها. 5. توزيع الثورات بما يُحقق تكافؤ الفرص والمساواة وعدم التميز بين المواطنين. 6.تفعيل دور المؤسسات التعليمية في تعزيز ثقافة المواطنة من خلال طرح برامج تعليمية تُدعم ثقافة المواطنة. 7. تعزيز سيادة القانون حيث أنها تُمثل تجسيد وضمانه لقيم ومبادئ المواطنة. 8. تجريم خطاب الكراهية وذلك بتفعيل مواد القوانين التي تُجرم خطاب الكراهية وتطبيقها التطبيق العادل مع المحافظة على حرية الرأي والتعبير والنقد العلمي . وختامًا إن المواطنة من المبادئ والقيم الرئيسية للديمقراطية، فلا وجود ولا معنى لأي نظام ديمقراطي بدون تحقيق لمفهوم المواطنة ( فهل هناك ديمقراطية بدون مواطنين؟) إن المُحتوى الأساسي لمفهوم المواطنة نابع من مبدأ الانتماء الوطني الذي يتشكل نتيجة التنشئة الاجتماعية، والقدرة على المشاركة الفعالة في الحكم، والشعور بالإنصاف والمساواة .إن تعزيز ثقافة المواطنة الآن أصبحت من ضرورات الأمن القومي المصري، الذي هو بمفهومه الشامل والعام يضم البُعد الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والثقافي ..، وبالتالي فأن أمن مصر القومي مُهدد طالما أن ثقافة المواطنة تشهد تهديدات سواء من قبل تصاعد معدلات الاحتقان والعنف السياسي والمجتمعي، أو من قبل الاحتجاجات والمُطالبات الفئوية والطائفية التي هي بدوها نتاج للسياسات التهميش التي إتباعها النظام السابق سواء على صعيد توزيع الثروات والمُقدرات فلقد تم تهميش مُحافظات الصعيد وسيناء وأهل النوبة، أو على صعيد التهميش السياسي فما دون الحزب الحاكم كان مهمشًا. وعلى الصعيد الاجتماعي فلقد تركزت معظم مُقدرات وخيرات الوطن في يد النخبة المُقربة من النظام، أو بسبب تصاعد معدلات الفتنة الطائفية مابين نسيج المجتمع المصري مُسلمين ومسحيين، وبالتالي نحن بحاجة لسياسات سريعة ورشيدة لتعزيز ثقافة المواطنة لحماية نسيج وأمن وسلامة المجتمع والدولة المصرية.