التحولات التركية استعصاءات «إسلامية» وعربية ماجد الشيخ يبدو أن التجربة التركية في المجال السياسي اكثر تميزا من تجارب شهدناها سابقا أو تجارب قد تليها، خصوصا في بلادنا العربية الغارقة قي تذرر مكوناتها المتنازعة على السلطة، ولو الما قبل دولتية؛ سلطة القبيلة والعشيرة و«الفرقة الناجية» والفرق الاخرى «المدنسة» في فضاء سياسوي تدينت فيه السياسة وتسيس فيه الدين، في وقت تشهد فيه تركيا المعاصرة ان العلمانية ليست بديلا للدين، أو ان الدين ينبغي ان لا يكون بديلا للعلمانية، في الوقت الذي يمكن للدين والعلمانية ان يتعايشا في ظل دولة علمانية تشهد هي الاخرى تحولات هامة نحو التخلص من شوائب الشوفينية القومية التي مازجت بين العلمانية والعسكرة بصيغة متطرفة، الى الحد الذي كان صعبا اختراقها حتى وقت قريب. بعد كل هذه التحولات والتجربة الطويلة في العمل السياسي، هل كف حزب العدالة والتنمية عن ان يكون حزبا اسلاميا ليتحول الى حزب ليبرالي؟. وهل يمكن لهذه التجربة وفي ظل مزيد من التحولات ان تكرس تحويل تركيا المعاصرة الى دولة ثنائية القومية او دولة متعددة القوميات باخراج رأسها من الرمل واعلان ذلك على الملأ، مع كل ما يستتبع ذلك من اعتراف حقوقي وقانوني وواقعي بحقوق القوميات والأقليات التي يعج بها الواقع التركي؟ في مطلق الاحوال لا يبدو ان تركيا المعاصرة بحاجة للعودة الى الماضي لتأكيد انتمائها الحداثي او الحداثوي ، بقدر ما تريد اليوم وعبر تجربتها الديموقراطبة ان تمازج بين هوية متعددة (اقلها ثنائية القومية التركية والكردية) وهي هوية حداثية، وبين هويتها التاريخية التي اعتمدت «الاسلام» مرجعية لها منذ الخلافة السلطانية التي طبعت الدولة بطابعها، مرورا بالدولة القومية الأتاتوركية بطابعها الشوفيني، وصولا الى الآن حيث الدولة الليبرالية التي استطاعت ان تحول حزبا ذا طابع «اسلامي» الى حزب ليبرالي ذي مرجعية «اسلامية» ثقافيا، مقبول اوروبيا واميركيا بغض النظر عن قبوله اسلاميا. لقد شكلت تجربة حزب العدالة والتنمية داخل تركيا بمثابة هوية سياسية بينية، تمحورت حول ثقافة «اسلامية» اصلاحية معولمة، وثقافة ليبرالية، فكان ان ظهر الحزب كحزب ليبرالي ذي مرجعية «اسلامية» ثقافيا، وذلك ناتج تطور نخب «اسلامية» ليبرالية معولمة، كفت عن الانتماء الى فضاء «الاسلام» الايديولوجي، الذي مثلته تجارب الاحزاب «الاسلامية» المؤدلجة ( الرفاه، الفضيلة والسعادة ) وهي التي انبثق منها حزب العدالة. مبتعدا عنها في شبه قطيعة معها ايديولوجيا وسياسيا وثقافيا في ما بعد، ما أتاح له الخروج من الدوائر الضيقة لحلقات النقاش والتجادل الايديولوجي، نحو التركيز على صناعة السياسة، بل التركيزعلى المساهمة في صنع سياسات وطنية هامة، صقلت التجربة الديموقراطية من جهة، وكرست خبرة ثقافة سياسية شعبية وطنية أقرب الى الحفاظ على العلمانية والاقتراب منها ثقافيا، بدلا من الوقوف في مواجهتها او الاصطفاف خلف مسيرة العداء لها او تكريس نهج محاججتها على قاعدة الرفض السلبي لها. تبقى دولة «اسلامية»، لكنها في أعين الكثيرين من الاتراك أنفسهم هي دولة علمانية أكثر منها «اسلامية» وان كان طابعها اسلاميا. ومن هنا عدم التعارض في انتمائها «الاسلامي» او الاوروبي مع هويتها العلمانية. وفي الانتخابات التشريعية الاخيرة أثبت الناخب التركي رغبة عميقة في اشراك كافة الاحزاب السياسية في العملية السياسية واختيارها بنسب متفاوتة لتمثيله في البرلمان، وذلك على خلفية من حقيقة كون الديموقراطية ينبغي ان تكون العامل الرئيسي الدافع الى حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى القومية او الاثنية التي تقف في طليعتها المسألة الكردية. وهكذا بالديموقراطية الجديدة المتحررة من ضغوط العسكر، وضغوط واملاءات وابتزازات الخارج، استطاعت شعوب تركيا ان تبلور صورة جديدة لتركيا الجديدة المختلفة عن تركيا العسكر وانقلاباتهم. وفي العملية الانتخابية مؤخرا يمكن قراءة مدى نجاح المؤسسة العسكرية وعلمانيي هذا البلد في غض الطرف عن عملية المزج بين «الاسلام» والقومية والعلمانية، مزج تتحدد في ضوئه الآن آمال الغد التركي، حيث «الاسلام» كمرجعية ثقافية يشهد تغيرا واصلاحا جريئا يتخطى عقبات ومعوقات الاحزاب «الاسلامية» القديمة التي أخفقت في أن تقدم أي نوع من المقاربة لانجاح هذا المزج الذي نجح بدوره في وضع حد للعداء للعلمانية كمفهوم وكممارسة تضع المصلحة الوطنية العليا فوق اعتبارات معاداتها ايديولوجيا. من هنا كان نجاح العدالة والتنمية في وضع النقد الذاتي داخل الحزب ومراجعاته التي قادت وتقود الى الايمان بالاصلاح وترجمته، والانتقال نحو تبني سياسات ليبرالية، وقد أثبت الحزب انه كلما كان هناك في البيئة السياسية مؤشرات متزايدة تدفع نحو الانفتاح والاصلاح والمشاركة في صنع السياسات الوطنية، كلما تجسد ذلك بأشكال من النضج الفكري والسياسي في سلوك الحركات «الاسلامية» المعتدلة، ودفع بها الى الخروج من منطقة التباس العنف والسياسة وسط هذا التماهي المطبق بين الحركات الدينية والعنف على مستوى العالم كله. لقد دللت التجربة الوطنية التركية حتى الآن خصوصا في قطوع الانتخابات الاخيرة وفي ضوء نتائجها، ان النظام السياسي الناجح هو النظام الذي يتيح لكل القوى السياسية المشاركة في العملية الديموقراطبة من دون قيود دستورية أو قانونية أو عملية، بحيث يتاح لكل القوى والاحزاب ابراز اهتماماتها العملية بصناعة السياسة أو مجموع السياسات الوطنية، بدلا من الاهتمام بالمسائل الايديولوجية. من هنا سوء الفهم الناشئ أو الذي قد ينشأ في بلادنا تجاه تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا الذي لم يخف تأييده للعولمة ولليبرالية الاقتصادية، في ظل سعيه ومساعيه للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، حيث استطاع تطبيق العديد من الاصلاحات، سواء على صعيد بنيته الداخلية التنظيمية والسياسية والفكرية، أو على صعيد بنى المجتمع والاقتصاد والدولة، واحراز نجاحات لا يستهان بها في كل هذه المجالات التي وضعت حدا لالتباسات الدين والسياسة وتماهي الدين والعنف والسياسة. وأوضحت التخوم بين ديموقراطيي تركيا واللاديموقراطيون الذين يسوؤهم نجاح الديموقراطية كعملية وممارسة، وقبلا كثقافة في خلق وايجاد المخارج العملية لمشكلات الواقع التركي، وفي مقدمتها تحديد مسائل الهوية والمواطنة والنجاح في حل المسائل القومية عبر الحوار وتبادل الآراء والاعتراف بالمصالح والحساسيات الخاصة بالقوميات والأقليات التي تشكل اليوم بتمازجها تركيا المعاصرة. فهل يمضي اردوغان وحزبه في العمل على تطبيق وعد الحل الديموقراطي للمسألة الكردية حتى النهاية؟ وذلك بالاعتراف بحقوق الاكراد والتساوي والتشارك مع الشعب التركي والاقليات الاخرى في بناء دولة حديثة متعددة ديموقراطية علمانية حقا، ومتحررة من هيمنة الغلبة القومية والعسكرة والعلمانية العنصرية وتعصباتها الشوفينية؟. هكذا تفتح التحولات التركية على فضاءات واعدة، فيما تفتح الاستعصاءات «الاسلامية» والاسلاموية في الوضع العربي على انسدادات في أفق التحولات الممكنة في ظل نمو وانماء بنية الاستبداد السلطوي، حيث تتجلى مسؤولية النخب العربية، حتى التي تدعي العلمانية فيما هي لا تؤمن فعليا بالديموقراطية، عن غياب الطابع التعددي السياسي والحزبي في فضاء العمل السياسي ومجالاته العامة.