تتنافس تركيا وإيران على ملء الفراغ الذى يعيشه العالم العربي بسبب خروج العرب من التاريخ وتدهور الدور المصري وعدم قدرة بقية الدول العربية على القيام بما يجب عليها نظرا لافتقاد الرؤية والاستراتيجية والاستسلام للضغوط الأجنبية .وبينما تغرق إيران فى مشاكلها مع الغرب ودول المنطقة المجاورة لها وتتدخل فى ملفات كثيرة دون قبول الأطراف المعنية وتجد صدودا نجد على العكس ترحيبا بتركيا كلاعب جديد ووسيط مقبول وهى فى نفس الوقت تصنع تاريخا جديدا للبلاد فى الداخل التركي بينما توقفت إيران عن تطوير نظامها السياسي ولم تراجع نفسها حتى الآن. ويمكننا القول بثقة أنه ببدء مناقشة حزمة الإجراءات والقوانين التي يعتزم حزب العدالة والتنمية وإقرارها فى البرلمان التركي بشأن المسألة الكردية تكون تركيا قد دخلت عهدا جديدا يطلق عليه المراقبون "الجمهورية الثانية" هذه المناقشات بدأت فى يوم ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية الأولى "كمال أتاتورك" مما أدى إلى صخب شديد وعراك بالأيدي بين ورثة أتاتورك من غلاة العلمانيين وأعضاء حزب الشعب اليساري وبين أغلبية النواب المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية المحافظ ذي الجذور الإسلامية، ولا شك أن اختيار اليوم يحمل دلالة رمزية لا تخفى على المراقبين وهو يعنى انقطاع مع سياسة قديمة والبدء فى سياسة جديدة أو نهاية الجمهورية الأولى وبداية الجمهورية الثانية. الحزمة المقترحة من القوانين والإجراءات تتعلق بأحد أهم وأخطر القضايا التي توارثتها الحكومات المتعاقبة وهى "المسألة الكردية" وتسببت فى مواجهات دامية بين "حزب العدالة الكردستاني" بقيادة "عبدالله أوجلان" الذى يقبع فى زنزانة انفرادية فى جزيرة منعزلة بعد عملية ناجحة للقبض عليه فى "كينيا" وبين الجيش التركي على مدار عقود من الزمن سالت فيها أنهار الدماء وراح ضحيتها مئات الأتراك من الجانبين وتم تدمير عشرات القرى فى جنوب شرق تركيا وتسببت فى توتر دائم على الحدود بين تركيا وبين سوريا والعراق وأصبحت أحد أهم العقبات التي تواجه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي لأنها من جهة عظّمت دور الجيش التركي بصورة ضخمة جدا مما أدى إلى سيطرته على الحياة السياسية وتدخله الدائم فى حل الحكومات والقيام بعدة انقلابات على الحياة الديمقراطية ضد الحكومة اليمينية واليسارية معتدلة كانت أو إسلامية، وأيضا تشوّه سجل تركيا فى ملفين هامين جدا بالنسبة إلى أوربا يتعلقان باحترام حقوق الإنسان واحترام الخصوصيات الثقافية وكذلك احترام القواعد الديمقراطية. لقد سار حزب العدالة والتنمية بخطوات ثابتة وعزز مكانته الشعبية والإقليمية والدولية خلال السنوات القليلة الماضية مما يؤذن ببداية عهد جديد فعلا فى تركيا الحديثة. لقد حافظ الحزب على ثقة الشعب به ونجح فى اجتياز اختبار الانتخابات المحلية والعامة رغم تراجعه الطفيف فى المحليات. السبب الرئيسي فى ذلك هو زرع أمل واقعي فى نفوس الشعب التركي لتحقيق الاستقرار والأمن ومعه الازدهار الاقتصادي والسعي جديا لتحقيق حلم الأتراك القديم فى الانضمام إلى الاتحاد الأوربي. كل ذلك تحقق وفق خطة مدروسة وبحكمة شديدة وبخطوات وئيدة بطيئة لكنها متلاحقة. أفشل الحزب كل خطط خصومه من العسكريين والسياسيين لإخراجه من الحكم أو الانقلاب عليه أو إثارة الجمهور العلماني ضده وضد سياساته واستخدام الحزب أغلبيته البرلمانية القوية والتي تعززت فى الانتخابات البرلمانية الثانية بذكاء شديد لإجراء تعديلات دستورية وقانونية تحجم دور الجيش وتغل يد المحكمة الدستورية العلمانية عن حل الأحزاب الذى تسبب فى تعويق الحياة الديمقراطية وإفساد الحياة السياسية وقطع الطريق دوما على الأحزاب ذات الجذور الإسلامية. لم يستدرج الحزب إلى معارك داخلية إيديولوجية مثل قضية الحجاب بل تعامل معها بحكمة مثيرة للإعجاب وتراجع عن مشروع قانون ولو إلى حين ولم ينظم مظاهرات ضخمة لمواجهة مظاهرات العلمانيين حتى لا يتسبب فى توتر داخلي يؤدى إلى تدخل الجيش بذريعة القلاقل والاضطرابات. وها هو الحزب يلجأ إلى الشعب لتنوير الرأي العام بجولات فى أربعين مدينة تركية كبرى لمواجهة الحملة ضد مشروعات القوانين الجديدة ويتحرك قادته ورموزه بقيادة اردوغان لشرح أهمية السياسة الجديدة ويدل ذلك على خطورة ما تحمله من تغيير فى مستقبل تركيا. فى ملف الانضمام إلى الاتحاد الاوروبى نجح الحزب فى كسب تأييد خارجي هام فى أمريكا وبعض أوربا رغم معارضه فرنسية شديدة وتمنع ألماني وكان شعاره أنه يقدم حلا وسطا بين العلمانيين المتطرفين وبين الخوف الشديد فى الغرب من الإسلاميين (الاسلاموفوبيا)، فطرح ما سماه "العلمانية المؤمنة" وهو ما يجد صداه فى أمريكا نفسها وبعض دول أوربا مثل بريطانيا التي للدين دور رئيسي فيها، وهذا ما يجعله محل دراسة المهتمين بالظاهرة الإسلامية كحل وسط لإشكالية دمج القوى والتيارات الإسلامية فى الحياة السياسية وإمكانية مشاركة الأحزاب الإسلامية فى الحكم أو تولى الحكم تماما، وهى تجربة ما زالت فى بدايتها وفى ظروف خاصة جدا لتاريخ تركيا وعلاقاتها مع أوربا والتطرف العلماني الذى رسخّه "كمال أتاتورك" وورثته ضد كل مظهر إسلامي إلا انه لم ينجح فى اقتلاع العقيدة والدين من قلوب ونفوس الأتراك. اليوم يصنع الأتراك بقيادة حزب العدالة والتنمية ورجاله تاريخا جديدا لتركيا، فى حين يتدهور الوضع العربي من بلد إلى بلد، ويخرج العرب تدريجيا من التاريخ بعد فشل ذريع لمشروع الدولة الوطنية القومية الذى بدأ بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية لغياب الرؤية وفقدان البوصلة وانعدام الحريات العامة والتردد فى إرساء حياة ديمقراطية. فهل كان السبب كما يقول البعض هو علمانية تركيا أم ديموقراطيتها ؟ وهل العلمانية كما يدعى البعض شرط لازم لحياة ديموقراطية؟ هذا سؤال هام يحتاج إلى بحوث معمقة ودراسات واسعة إلا اننى وبسرعة ضد أن السبب هو علمانية تركيا وقد أثبتت تجارب عديدة انه لا ارتباط بين العلمانية والديموقراطية وإلا فإننا بذلك نضع عقبة كبيرة جدا ضد التحول الديموقراطي فى بلاد المسلمين التي لا يمكن لها أن تتخلى عن دينها أو عقيدتها وستظل تطالب بتطبيق كامل لشريعتها الإسلامية. فى خطوات ثابتة راسخة قام الأتراك خلال الشهور القليلة الماضية بالتالي: • فتح الحدود الجنوبية مع سوريا وتوقيع عدد ضخم من الاتفاقيات مع الحكومة السورية مما يمهد لاتفاقية تعاون استراتيجي بعد أن كادت المشاكل تهدد بنشوب نزاع مسلح مع سوريا قبل شهور، بل أصبحت تركيا هي الوكيل الحصرى للوساطة بين سوريا والعدو الصهيوني. • توقيع اتفاق تاريخي مع أرمينيا بعد عداوة تاريخية بسبب ما يتذرع به الأرمن من مذابح فى عهد الخلافة العثمانية ضد السكان الأرمنيين. • تهدئة الأوضاع على الحدود الجنوبيةالشرقية مع العراق وزيارة تاريخية للبصرة وأربيل وفتح قنصلية بالبصرة والتمهيد لأخرى فى اربيل وفتح الحدود لعودة اللاجئين الأكراد إلى قراهم فى جنوب تركيا فى إطار الخطة الموضوعة لإنهاء المسألة الكردية باحترام الثقافة الكردية والسماح بقيام أحزاب كردية وتعليم اللغة الكردية كلغة ثانية فى المناطق الكردية والسماح بإذاعات وتليفزيونات كردية... إلخ. • زيارة إيران والإقرار بحق إيران فى امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، بل تم طرح تركيا كبديل مقترح لإرسال الوقود النووي المخصب من إيران إليها بدلا من روسيا وفرنسا. • زيارة باكستان والاعتراض على السياسات العربية والأمريكية فيما يتعلق بالأمن والاستقرار فى أفغانستانوباكستان رغم قيادة تركيا لحزب "الناتو" فى هذه الآونة. • السعي الجاد للقيام بأدوار إقليمية فى كثير من الملفات الشائكة كما سبق بيانه. • التوتر الحاصل فى العلاقات شبه الاستراتيجية مع العدو الصهيوني وإلغاء المناورات المشتركة والاعتراض العلني على السياسات الصهيونية وفى غزة والقدس مما أدى إلى شهادات متتالية من حركات "حماس" ثم "حزب الله" وإشادة بالدور التركي مما أدى للاستنجاد بهم للتدخل حيث يغيب العرب أو يتواطئ بعضهم ضد المصالح والثوابت الفلسطينية. كانت تلك المشاكل والتوترات من ميراث الجمهورية الأولى التي أرساها أتاتورك عام 1923م عندما ألغى الخلافة الإسلامية العثمانية والسلطنة وزرع بذرة القومية التركية المتطرفة وحاول إغلاق تركيا على حدود متوترة مع كل أو معظم دول الحوار من اليونان إلى روسيا رغم انه رفع شعار (سلام فى الوطن سلام فى العالم) بينما يعلن قادة حزب العدالة اليوم أنهم يطبقون هذا الشعار فى الواقع. الحسنة الوحيدة إن كان له حسنات هي أن أتاتورك بذر بذرة نظام ديمقراطي فى جو علماني صارم، صحيح أنها كانت ديمقراطية متعثرة بسبب تدخل الجيش باستمرار فى انقلابات متتالية عليها إلا أن نزاهة الانتخابات وحرية تشكيل الأحزاب ووعى ونضج الشعب التركي وتمسكه بجذوره الإسلامية ورسوخ العقيدة الإسلامية فى قلوب الأتراك وتصميم وعزم آباء الحركة الإسلامية باختلاف فصائلها من "سعيد النورسى" و"نجم الدين أربكان" و "فتح الله كولن" وانتهاء ب "عبدالله جل" و "رجب طيب أوردغان" على الاستمرار فى العمل والتقدم خطوة بعد خطوة رغم كل العثرات والمشاكل، كل ذلك أدّى إلى تطورات هامة وعظيمة نشهدها اليوم فى تركيا التي يمكن أن تكون جسرا بين العالم الإسلامي وبين الغرب لإنهاء عداوة تاريخية ما زالت قائمة بسبب الحروب المتتالية فى العراق وأفغانستان والاحتلال الصهيوني للمقدسات الإسلامية وأرض فلسطين والنزاعات المستمرة التي تشتعل بفعل التدخلات الغربية فى بلادنا والاستنزاف المستمر لثرواتنا والتأييد المتواصل للديكتاتوريات الجاثمة على صدورنا. نجحت تركيا فى حل معظم مشاكلها الحدودية تمهيدا لانضمامها إلى الاتحاد الأوربي بحيث أصبحت حدوده المتوقعة آمنة، كما نجحت فى رسم معالم واضحة لنظامها الديمقراطي، فهل تصبح تركيا النموذج الذى يتعلم منه العرب والمسلمين ؟ أم أصبح العودة إلى الشرق الأوسط القديم هو الأمل والحل بعد أن فشلت الدول الوطنية وفشلت كافة المشاريع الأخرى كالشرق الأوسط الجديد ولم ينجح أحد من المتقدمين لوراثة العثمانية القديمة فأصبحنا أمام جمهورية ثانية فى تركيا وعثمانية جديدة فى المنطقة. الدرس البليغ هو أن الأتراك ينظرون إلى المستقبل ويعملون من اجل بناء تاريخ جديد بينما يغرق آخرون فى الماضي ويسعون خلافاته ومراراته والرس الابلغ هو أن وجود نظام ديمقراطي ولو فى ظل علمانية صارمة يفتح أبواب الأمل فى التغيير والإصلاح.