ما أثاره أردوغان حول العلمانية وأنها تقف علي مسافة محايدة بين المواطنين جميعا في الدولة يحتاج إلي شئ من التأمل ، فقد كان أردوغان يقصد هنا التعريف النظري للعلمانية وهو كما كنا ندرسه في العلوم السياسية الموقف المحايد من جانب الدولة تجاه مواطنيها في اختياراتهم الدينية والعقدية . بيد إن العلمانية في تركيا قد سجنت أردوغان نفسه حين قال بعض أبيات الشعر التي تشير إلي الدين والمآذن والقباب ، كما أن العلمانية في تركيا أغلقت أكثر من خمسين حزبا سياسيا منها كل الأحزاب الإسلامية التي أسسها أبو الإحياء ا لإسلامي في تركيا " أربكان " من أول حزب النظام الوطني وحتي حزب الفضيلة ، والعلمانية هي ا لتي انقلبت علي الحزب الديموقراطي الذي أسسه عدنان مندريس في الخمسينيات وحكم تركيا حتي نهاية الستينيات وهي التي أسست لانقلاب 1970 وانقلاب 1980 وهي التي وضعت الدستور التركي عام 1982 وهو الذي وضع العلمانية كمرجعية للدولة التركية . إذن العلمانية في تركيا لم تكن علي الإطلاق محايدة ولم تكن تقف علي مسافة واحدة من المواطنين الأتراك بل إن كل الأحزاب الكردية هي الأخري تم إغلاقها ولا يزال الأتراك يعتبرون الأكراد في تركيا أتراك الجبال ولا يعترفون بهم كقومية ، كما أن العلويين في تركيا وهم نسبة كبيرة لا يزالون يطالبون بمطالب دينية خاصة بمذهبهم ولكن الدولة ترفض عليهم ذلك نحن في تركيا أمام دولة قومية من الطراز الأول ، وهي ترفض الاعتراف بالتمايزات العرقية خشية علي البلاد من التمزق والعلمانية التي وضعها" كمال أتاتورك " ليس لها أي فضل علي الإطلاق في تقدم تركيا ونهضتها وإنما يمكن القول إن المراجعات الحاسمة ضد العلمانية الأصولية الأتاتوركية التي وضعها كمال أتاتورك بعد سقوط الخلافة الإسلامية . كان الرفض للعلمانية الأصولية الكمالية التي قيدت المجتمع وخنقته هو السبيل نحو نهضة تركيا ، وكان ذلك الرفض للعلمانية يتجه بالبلاد نحو الديمقراطية والاعتراف بالإسلام كهوية ، يرجع الفضل في ذلك إلي رئيس الوزراء ثم رئيس الدولة التركية الاقتصادي الكبير" طورجوت أوزال " ، فهو أول من نقد علنا كمال أتاتورك وهو أول رئيس دولة يذهب للحج وهو من فتح الباب واسعا لما أطلق عليه " الجمهورية الثانية في تركيا " والتي كان عمادها بشكل رئيسي رفض العلمانية الأصولية ا لكمالية وطرح صيغة ديموقراطية تسمح لكل المواطنين علي قدم المساواة أن يشتركوا في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة . لا بد من القول هنا أن الانفتاح الاقتصادي الذي ذهب إليه " أوزال " فتح الباب واسعا لتكون طبقة وسطي مجتهدة ومتقنة في تركيا محورها الشركات الاقتصادية الكبري ، وفتح الباب واسعا لانطلاق طاقات المجتمع التركي نحو بناء أوقافه وجمعياته في جميع المجالات ومن ثم فإن هناك ديموقراطية وليست علمانية تسمح بتكون طبقة وسطي ومجتمع قوي ومحليات راقية ومنتخبة وأحزاب متعددة ونظام سياسي لا يعرف التزوير . " العلمانية هي التي تحالفت مع العسكر في تركيا ، وهي التي وضعت قيدا علي تحول تركيا "نحو نظام ديمقراطي ، وهي التي أخافت ا لناس وأرهبت الأكراد والإسلاميين وأغلقت أحزابهم وهي التي جعلت من تركيا جسرا للعلاقة بين الشرق والغرب في سياق مشروع حلف الأطلنطي والخطط الغربية . " الديمقراطية " هي التي فتحت الآفاق والأنفس في تركيا وهي التي مكنت العدالة والتنمية من تحجيم دور العسكر وتخليص النظام من الروح الخانقة للعلمانية وتحويل النظام السياسي إلي نظام حقيقي فيه برلمان قوي ورئيس منتخب ومحليات ناهضة وقواعد للرقابة حازمة . بالطبع أردوغان لم يكن يمكنه أن يقول غير الذي قاله في زيارته خارج دولته ، فالعلمانية لا تزال رابضة وقد حاكمت حزبه من قبل وكادت أن تغلقه واكتفت بتغريمه ماليا ، ومن ثم فهو لم يتمكن من الإفصاح عن كل الحقيقة واكتفي بإشارات مهمة نبه فيها المصريين إلي عدم تكرار أخطاء تركيا ... الديمقراطية وليست العلمانية هي التي نهضت تركيا عبرها.
تواصل معنا وشارك بالرأي عبر صفحة "شبكة الإعلام العربية" - محيط على الفيس بوك