مصطفى بكري يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة.. ومفاجآت المجموعة الاقتصادية    بعد استشهاد العالم "ناصر صابر" .. ناعون: لا رحمة أو مروءة بإبقائه مشلولا بسجنه وإهماله طبيا    جامعة الدلتا تشارك في ورشة عمل حول مناهضة العنف ضد المرأة    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    زرعنا 12 مليون شجرة.. البيئة تكشف أسباب قطع الأشجار من الشوارع    بشرة خير.. تفاصيل الطرح الجديد لوحدات الإسكان الاجتماعي    لبنان.. أنباء عن اغتيال هاشم صفي الدين الرئيس التنفيذي ل«حزب الله»    "القاهرة الإخبارية": أنباء عن اغتيال مسؤول بحزب الله في القصف الإسرائيلي على بلدة جناتا    بايدن يحدد العائق الأكبر أمام تنفيذ خطة وقف إطلاق النار في غزة    جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 عمليات عسكرية بالصواريخ خلال ال 24 ساعة الماضية    الخارجية الأمريكية: مستعدون لزيادة الضغط على إيران في حال عدم تعاونها مع الوكالة الذرية    ناتشو يقترب من اتحاد جدة السعودى براتب 20 مليون يورو سنويا    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    قائد سلة الأهلي يرفض مصافحة رئيس الاتحاد بعد خسارة دوري السوبر    مباراة الزمالك وسيراميكا كليوباترا في الدوري المصري.. الموعد والقنوات الناقلة والتشكيل المتوقع    مصطفى فتحي يكشف حقيقة البكاء بعد هدفه في شباك سموحة    شوبير: وسام أبو على يغيب 3 أسابيع.. وخارج مباراة الأهلي والزمالك    المدير التنفيذي لنادي الزمالك يكشف خطة تطوير النادي.. وآخر تطورات أزمات الأبيض    استعجال تحريات شخص زعم قدرته على تسريب امتحانات الثانوية بمقابل مادي بسوهاج    تحذير جديد من الأرصاد بسبب الموجة الحارة.. 48 درجة على هذه المناطق    مصرع شخص وإصابة 5 في حوادث تصادم بالمنيا    السيطرة على حريق "غية حمام" فى أوسيم بالجيزة    قبل عيد الأضحى 2024 .. تعرف على مواعيد مترو الأنفاق خلال الإجازة    أوس أوس: وافقت على عصابة الماكس بسبب أحمد فهمي    حظك اليوم وتوقعات برجك 14 يونيو 2024.. «تحذير للأسد ونصائح مهمّة للحمل»    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    5 أعمال للفوز بالمغفرة يوم عرفة.. تعرف عليها    هل تمثل مشاهد ذبح الأضاحي خطورة نفسية على الأطفال؟    ماذا تفعل لتجنب الإصابة بنوبات الاكتئاب؟    يورو 2024 - الملك أوتو .. مدرب المستضعفين في أوروبا    سفير السعودية بالقاهرة يشكر مصر لتسهيل إجراءات سفر حجاج فلسطين    3 مليارات جنيه إجمالي أرباح رأس المال السوقي للبورصة خلال الأسبوع    رئيس "مكافحة المنشطات": لا أجد مشكلة في انتقادات بيراميدز.. وعينة رمضان صبحي غير نمطية    عناوين مراكز الوقاية لتوفير تطعيم السعار وعلاج حالات ما بعد عقر الحيوانات    عماد الدين حسين يطالب بتنفيذ قرار تحديد أسعار الخبز الحر: لا يصح ترك المواطن فريسة للتجار    أماكن ذبح الأضاحي مجانا بمحافظة القاهرة في عيد الأضحى 2024    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق الجمعة 14 يونيو 2024    سعر ساعة عمرو يوسف بعد ظهوره في عرض فيلم ولاد رزق 3.. تحتوي على 44 حجرا كريما    عماد الدين حسين: قانون التصالح بمخالفات البناء مثال على ضرورة وجود معارضة مدنية    احتفالًا باليوم العالمي.. انطلاق ماراثون للدراجات الهوائية بالمنيا ورأس البر    حملات مكثفة على محال الجزارة وشوادر الذبح بالقصاصين    لإيداعه مصحة نفسية.. ضبط مريض نفسي يتعدى على المارة في بني سويف    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    دواء جديد لإعادة نمو الأسنان تلقائيًا.. ما موعد طرحه في الأسواق؟ (فيديو)    نقيب "أطباء القاهرة" تحذر أولياء الأمور من إدمان أولادهم للمخدرات الرقمية    القبض على سيدة ورجل أثناء تسليم مخدرات بإدفو في أسوان    دعاء يوم التروية مكتوب.. 10 أدعية مستجابة للحجاج وغير الحجاج لزيادة الرزق وتفريج الكروب    حدث بالفن| مؤلف يتعاقد على "سفاح التجمع" وفنان يحذر من هذا التطبيق وأول ظهور لشيرين بعد الخطوبة    محافظ الإسكندرية: قريبًا تمثال ل "سيد درويش" بميدان عام في روسيا (صور)    «انتو عايزين إيه».. إبراهيم سعيد يفتح النار على منتقدي محمد صلاح    محمد صلاح العزب عن أزمة مسلسله الجديد: قصة سفاح التجمع ليست ملكا لأحد    تراجع سعر السبيكة الذهب (مختلف الأوزان) وثبات عيار 21 الآن بمستهل تعاملات الجمعة 14 يونيو 2024    دعاء يوم «عرفة» أفضل أيام السنة.. «اللهم لا ينقضي هذا اليوم إلا وقد عفوت عنا»    حزب الحركة الوطنية يفتتح ثلاثة مقرات في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري (صور)    محافظ شمال سيناء يعتمد الخطة التنفيذية للسكان والتنمية    الأنبا تيموثاوس يدشن معمودية كنيسة الصليب بأرض الفرح    آداب عين شمس تعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني    لبيك اللهم لبيك.. الصور الأولى لمخيمات عرفات استعدادا لاستقبال الجاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ج‮. ‬م‮. ‬كويتزي عن‮ "‬اضطرابات التلميذ تورلس‮":‬روبرت موزيل والأزمنة الملعونة

‮ ‬وُلد روبرت موزيل عام‮ ‬1880‮ ‬في كلاجِنفورت،‮ ‬عاصمة إقليم كارينثيا النمساوي‮. ‬كانت والدته المتحدرة من الطبقة البورجوازية العليا،‮ ‬امرأة نزقة مرهفة الحس ذات اهتمام بالفنون‮. ‬كان والده مهندساً‮ ‬في الإدارة الإمبراطورية،‮ ‬كُوفئ علي تفانيه في الخدمة خلال مسيرته المهنية فتمّت ترقيته إلي طبقة النبلاء الصغري‮. ‬ودونما احتجاج ارتضي موزيل الأب بعلاقة‮ ‬غرامية بين زوجته ورجل يصغرها سناً،‮ ‬هو هاينريش رايتر،‮ ‬بدأتْ‮ ‬بعد ولادة ابنه بوقت قصير‮. ‬لاحقاً،‮ ‬استقرّ‮ ‬رايتر مع الزوجين موزيل في علاقة ثلاثية الأطراف استمرّت ربع قرن‮. ‬
كان روبرت موزيل وحيد أبويه‮. ‬كان يصغر أقرانه في المدرسة سناً‮ ‬وقامة،‮ ‬فحرص علي صلابته البدنية التي دامت طوال حياته‮. ‬وعلي ما يبدو،‮ ‬عصف الاضطراب بحياته في البيت؛ إذ نزولاً‮ ‬عند رغبة أمه‮ -‬ولا بد من القول،‮ ‬مشفوعاً‮ ‬بالموافقة المتحمسة للصبي‮- ‬أرسلوه في عمر الحادية عشرة للسكن في مدرسة إعدادية عسكرية تقع خارج فيينا‮. ‬ومن هناك انتقل عام‮ ‬1894‮ ‬إلي المدرسة الثانوية في ميريش فايسكيرشن،‮ ‬قرب برنو عاصمة مورافيا حيث أمضي ثلاث سنوات أخري‮. ‬أصبحت هذه المدرسة نموذجاً‮ ‬لمدرسةW ‮ ‬في رواية‮ »‬‬اضطرابات التلميذ تورلس‮».‬
قرر موزيل دراسة الهندسة عوضاً‮ ‬عن إكمال ما بدأه في السلك العسكري،‮ ‬وفي عمر السابعة عشر تم تسجيله في المعهد التقني العالي في برنو حيث كان والده يحاضر آنذاك‮. ‬وهنا استغرقته دراساته العلمية،‮ ‬مبدياً‮ ‬نفوره من العلوم الإنسانية وذاك الصنف من الطلبة الذين تجذبهم دراستها‮. ‬تكشف يومياته أنه كان مأخوذاً‮ ‬بمسائل الجنس،‮ ‬ولكن بطرق تأملية‮ ‬غير عادية‮. ‬استصعب القبول بالدور الجنسي الموصوف له كشابٍّ‮ ‬استناداً‮ ‬إلي تقاليد طبقته،‮ ‬فراح يخوض مغامرات وعلاقات جامحة مع المومسات والعاملات ريثما يحين الوقت لعقد قِران برجوازي‮. ‬بدأ علاقة مع فتاة تشيكية اسمها هيرما دِيتس كانت تعمل في منزل جدته؛ وعاش مع هيرما في برنو ثم لاحقاً‮ ‬في برلين،‮ ‬رغماً‮ ‬عن اعتراض والدته،‮ ‬ومجازفاً‮ ‬بخسارته أصدقاءَه‮. ‬شكّل اختياره هيرما خطوة كبري في كسر السحر الإيروتيكي لأمّه‮. ‬كانت هيرما مركز حياته العاطفية بضع سنوات،‮ ‬وقد صارت علاقتهما الصريحة من جهة هيرما،‮ ‬والأشد تعقيداً‮ ‬وتذبذباً‮ ‬من جهة روبرت‮- ‬أساساً‮ ‬بني عليه قصة تونكا في مجموعته ثلاث نساء‮.‬
‮ ‬
كان التعليم الذي تلقاه موزيل في مدارسه العسكرية،‮ ‬من ناحية المضمون الفكري،‮ ‬أدني شأناً‮ ‬بشكل مقصود من التعليم الذي كانت تقدّمه الثانويات التقليدية‮. ‬فبدأ في برنو بحضور محاضرات عن الأدب،‮ ‬والذهاب إلي الحفلات الموسيقية‮. ‬لكنّ‮ ‬ما بدأه كمشروع للِّحاقِ‮ ‬بمعاصريه الأفضل تثقيفاً‮ ‬منه،‮ ‬لم يلبث أن تحول إلي مغامرة فكرية استغرقته تماماً‮. ‬فالسنوات الممتدة من‮ ‬1899‮ ‬إلي‮ ‬1902‮ ‬تمثل المرحلة الأولي لبواكير موزيل الأدبية‮. ‬لقد تماهي تحديداً‮ ‬مع كتّاب ومثقّفي الجيل الذي بلغ‮ ‬أوجَهُ‮ ‬في تسعينيات القرن التاسع عشر،‮ ‬ونشط في مجالات متنوعة من الحركة الحداثية‮. ‬لقد سُحِر بمالارميه وماترلينك؛ كما رفض نهج كتّاب المذهب الطبيعي الذي يقول بوجوب أن يعكس العمل الفني واقعاً‮ ‬مسبَق الوجود‮. ‬وبحثاً‮ ‬عن سند فلسفي عاد إلي كانط وشوبنهور و(لاسيما‮) ‬نيتشه‮. ‬طوّر في يومياته شخصية فنية سمّاها‮ "‬السيّد مُشرّح الأحياء‮"‬،‮ ‬مستقصياً‮ ‬حالاتِ‮ ‬الوعي والعلاقات العاطفية بمشرط عقله،‮ ‬مطبّقاً‮ ‬مهاراتِه علي نفسه وعائلته وأصدقائه علي السواء‮.‬
لم ينقطع موزيل عن خططه بشأن مهنة الهندسة،‮ ‬علي الرغم من طموحاته الأدبية،‮ ‬فاجتاز امتحاناته بامتياز،‮ ‬وانتقل إلي شتوتغارت ليعمل كباحث مساعد في المعهد التقني العالي‮ ‬Technische Hochschule المرموق‮. ‬إلا أن عمله هناك أضجره‮. ‬وفي أثناء كتاباته لمقالات تقنية،‮ ‬واختراعه لآلة تستخدم في التجارب البصرية‮ (‬حصل علي حقوقه في براءة اختراع هذا الجهاز،‮ ‬آملاً‮ -‬علي نحو يفتقد إلي الواقعية‮- ‬أنه سيوفر له ما يكفي من النقود لتأمين عيشه‮)‬،‮ ‬شرع بكتابة روايته‮ «اضطرابات التلميذ تورلس‮»‬ ‬كما بدأ بالتمهيد لتغيير وجهته الأكاديمية؛ ففي عام‮ ‬1903‮ ‬ترك الهندسة أخيراً،‮ ‬وغادر إلي برلين كي يدرس الفلسفة وعلم النفس‮.‬
‮ ‬
اكتملت رواية التلميذ تورلس في مطلع عام‮ ‬1905‮ . ‬وبعد رفضها من قبل ثلاثة ناشرين أرسلها موزيل إلي ألفريد كير،‮ ‬وهو ناقد له مكانتهُ‮ ‬في برلين‮. ‬كير دعم موزيل،‮ ‬واقترح عليه بعض التنقيحات،‮ ‬وبكثير من الحماسة راجع الكتاب عند صدوره عام‮ ‬1906‮ . ‬لكن علي الرغم من نجاح التلميذ تورلس،‮ ‬وعلي الرغم من الأثر الذي بدأ بإحداثه في الأوساط الفنية البرلينية،‮ ‬كانت ثقة موزيل بموهبته مزعزعة للغاية مما منعه من تكريس حياته للكتابة‮. ‬واصل دراساته الفلسفية ونال شهادة الدكتوراه عام‮ ‬1908‮ .‬
إبان هذه الفترة التقي بمارتا ماركوفالدي،‮ ‬وهي امرأة يهودية الأصل تكبره بسبع سنين،‮ ‬وكانت منفصلة عن زوجها الثاني‮. ‬كانت مارتا فنانة ومفكّرة مستقلّة عنه،‮ ‬مطَّلِعة علي الحركة النسوية المعاصرة‮. ‬أقام موزيل معها علاقة حميمة ومحمومة جنسياً‮ ‬استمرت باقي حياته‮. ‬تزوّجا عام‮ ‬1911،‮ ‬وقرّرا الاستقرار في فيينا حيث قبل موزيل بوظيفة في أرشيف المعهد التقني العالي‮ ‬Technische Hochschule. ‮ .‬
في السنة نفسها أصدر موزيل كتابه الثاني اتحادات،‮ ‬ويتضمن روايتيه القصيرتين إتمامُ‮ ‬الحبّ‮ ‬وَ‮ ‬غوايات فيرونيكا الهادئة‮. ‬ألّف هذين العملين القصيرين في جوٍّ‮ ‬من الوساوس الاستحواذية التي بدت له‮ ‬غامضة الأسباب؛ فانهمك بالكتابة والتنقيح ليل نهار طوال عامين ونصف‮.‬
عندما نشبت الحرب أدي موزيل خدمته بامتياز علي الجبهة الإيطالية‮. ‬بعد الحرب،‮ ‬مضطرباً‮ ‬لإحساسه بأن السنوات الأفضل في حياته الإبداعية تفلت من بين يديه،‮ ‬وضع الخطوط العريضة لما لا يقلُّ‮ ‬عن عشرين عملاً‮ ‬جديداً،‮ ‬بما فيها سلسلة من الروايات الساخرة‮. ‬مسرحية الراؤون‮ ‬1921،‮ ‬ومجموعة قصص ثلاث نساء‮ ‬1924،‮ ‬فازتا بجوائز‮. ‬وانتُخب نائباً‮ ‬لرئيس الفرع النمساوي لمنظمة الكتاب الألمان‮. ‬لقد كان حاضراً‮ ‬علي الخارطة الأدبية،‮ ‬وإن لم يكن مقروءاً‮ ‬علي نطاق واسع‮.‬
‮ ‬لم ينقضِ‮ ‬وقت طويل حتي تخلي عن مشروع الروايات الساخرة أو أدرجها ضمن مشروع ألمعيّ‮: ‬رواية تدور حول الطبقة الراقية لمجتمع فيينا المتناسية للغيوم السوداء التي تدلهمّ‮ ‬وتحجب الأفق،‮ ‬بينما هي مستغرقة في مناقشة الشكل الذي ستعتمده لاحتفالها التالي بكامل الرضا عن النفس‮. ‬كانت الرواية مصممة بحيث تعطي رؤية‮ "‬غروتسكية‮" (‬والكلمة لموزيل‮) ‬عن النمسا علي مشارف الحرب العالمية‮. ‬كرّس طاقاتِه كلَّها لكتابة الرجل الذي لا خصالَ‮ ‬له‮ (‬رجل بلا صفات‮)‬،‮ ‬بعد أن تلقّي الدعم المالي من ناشره وجمعية من معجبيه‮.‬
صدر المجلد الأول عام‮ ‬1930،‮ ‬واستُقبل بحفاوة بالغة في النمسا وألمانيا كلتيهما،‮ ‬فاعتقد موزيل وهو رجل متواضع في جوانب أخري‮- ‬أنه قد يفوز بجائزة نوبل‮. ‬ثم تبين أن مواصلة الكتابة مستعصية‮. ‬بإلحاحٍ‮ ‬من ناشره،‮ ‬سمح بظهور جزء آخر اشتغل علي إطالته بوصفه المجلد الثاني عام‮ ‬1933،‮ ‬وإن تنازعته الشكوك حول جدوي ذلك‮. ‬وبدأ يخشي أنه لن يُكمِل هذا العمل أبداً‮.‬
لم يكتمل رجوع موزيل إلي الوسط الثقافي الأكثر حيوية في برلين،‮ ‬إثر وصول النازيين إلي السلطة،‮ ‬فعاد مع زوجته إلي أجواء فيينا المحفوفة بالتهديدات؛ وبدأ يعاني من الاكتئاب واعتلال صحته‮. ‬عام‮ ‬1938‮ ‬ضمَّت النمسا إلي الرايخ الثالث‮. ‬انتقل الزوجان إلي سويسرا‮. ‬كان المأمول هو أن سويسرا مجرد محطة علي الطريق إلي بيت قدمته لهما ابنة مارتا في أمريكا،‮ ‬غير أن دخول الولايات المتحدة في الحرب ألغي ذلك المخطط،‮ ‬ليجدا نفسيهما محتَجَزَين علي‮ ‬غرار عشرات الآلاف من المنفيين‮.‬
لاحظ برتولت بريشت إن‮ "‬سويسرا تشتهر بالحرية التي يمكنك الاستمتاع بها هناك،‮ ‬شريطة أن تكون سائحاً‮". ‬تعرضت أسطورة سويسرا بوصفها أرض اللجوء لأذي بليغ‮ ‬جرّاء معاملتها للاجئين خلال الحرب العالمية الثانية،‮ ‬عندما وضعت عدم معاداة ألمانيا في صدارة أولوياتها،‮ ‬ضاربة عرض الحائط بكافة الاعتبارات الإنسانية‮. ‬مشيراً‮ ‬إلي منع كتاباته في ألمانيا والنمسا،‮ ‬تقدم موزيل بطلبٍ‮ ‬للجوء في سويسرا،‮ ‬لأنه ما كان ليكسب عيشه ككاتب في أي مكان آخر سواه من العالم الناطق بالألمانية‮. ‬لم يشعر قطّ‮ ‬بأن سويسرا بلده،‮ ‬رغم حصوله علي إذن الإقامة‮. ‬كان معروفاً‮ ‬علي نطاق ضيق هناك؛ ولم تكن لديه أية موهبة في الترويج لنفسه؛ وأهانَتْه شبكة المتنفّذين السويسريين‮. ‬فعاش هو وزوجته علي المعونات‮. "‬إنهم يتجاهلوننا اليوم‮. ‬وحالما نموت سيتبجّحون بأنهم قد منحونا اللجوء‮"‬،‮ ‬أشار موزيل بمرارة إلي ذلك في حديثه مع إيغناتسيو سِيلونه‮. ‬مكتئباً،‮ ‬لم يستطع الاهتداء إلي أي طريق للتقدم في عمله علي الرواية‮. ‬عام‮ ‬1942،‮ ‬في عمر الواحدة والستين،‮ ‬وإثر جولة مجهِدة من تمارين القفز علي الترامبولين،‮ ‬دهمته سكتة دماغية ومات‮.‬
‮"‬كان يعتقد أن الحياة طويلة أمامه،‮ ‬وأسوأ ما في الأمر هو هذا الكمّ‮ ‬الهائل من المواد التي تركها من بعده مسوّدات،‮ ‬ملاحظات،‮ ‬شذرات،‮ ‬فصول روايات،‮ ‬يوميات‮- ‬وهو الوحيد القادر علي فهم خفاياها‮"‬،‮ ‬قالت أرملته التي قامت بطباعة جزء ثالث وأخير من الرواية علي نفقتها الخاصة،‮ ‬بعد رفضها من قبل الناشرين،‮ ‬ويتألف هذا الجزء من مقاطع رُتّبت علي عجل وكيفما اتّفق‮.‬
‮ ‬
ينتمي موزيل إلي جيل من المثقفين الألمان الذين اختبروا المراحل المتعاقبة لانهيار النظام الأوروبي بين عامي‮ ‬1890‮ ‬و1945،‮ ‬وقد اختبروا هذا الانهيار بتلقائية شديدة الخصوصية‮: ‬أولاً‮ ‬أزمة الفنون التي تنبأوا بها وأسفرت عن شتّي الحركات الحداثية؛ ثم الحرب والثورات التي تمخّضتْ‮ ‬عنها الحرب ودمّرتْ‮ ‬المؤسسات الليبرالية والتقليدية علي السواء؛ وأخيراً‮ ‬سنوات التخبُّط التي أعقبت الحرب وتوِّجت باستيلاء الفاشيين علي السلطة‮. ‬الرجل الذي لا خصال له‮ -‬وهي كتاب مأخوذ إلي درجة معينة بالتاريخ أثناء كتابته‮- ‬تشرع بتشخيص هذا الانهيار الذي راح موزيل شيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬يراه ناجماً‮ ‬عن فشل النخبة الأوروبية الليبرالية،‮ ‬منذ سبعينيات القرن التاسع عشر،‮ ‬في إدراك أن المعتقدات السياسية والاجتماعية الموروثة عن عصر الأنوار لم تكن تفي بمتطلبات الحضارة الكبري الجديدة التي بدأت بالنموّ‮ ‬في المدن‮.‬
بالنسبة لموزيل كانت السمة العُضال الأكثر انحطاطاً‮ ‬للثقافة الألمانية‮ (‬التي كانت الثقافة النمساوية جزءاً‮ ‬منها‮ ‬إذ لم يأخذ علي محمل الجد فكرة وجود ثقافة نمساوية مستقلة‮) ‬هي نزوعها إلي التجزئة بين العقل والشعور،‮ ‬وتفضيلها لحماقة العواطف من دون أي تأمل‮. ‬لقد رأي هذا الشرخ بوضوح أكبر بين العلماء الذين عمل معهم،‮ ‬وهم رجال الفكر الذين يعيشون حياة جافة من الناحية العاطفية‮. ‬تراءي له أن تربية الحواس من خلال تهذيب الحياة الإيروتيكية هي ما يعِد بأجزل الوعود وأسرعها للارتقاء بالمجتمع إلي مستوي أخلاقي أسمي‮. ‬لقد تأمل الأدوار الجنسية الصارمة التي فرضتها الأعراف البورجوازية علي الرجال والنساء،‮ ‬وكتب قائلاً‮ ‬إن‮ "‬عوالم روحية بأسرها قد ضاعت واندثرت جرّاء ذلك‮".‬
غالباً‮ ‬ما يُعتبر موزيل فرويدياً،‮ ‬بسبب تركيزه في أعماله‮ -‬بدءاً‮ ‬من التلميذ تورلس فصاعداً‮- ‬علي الآليات الأكثر‮ ‬غموضاً‮ ‬للرغبة الجنسية‮. ‬غير أنه شخصياً‮ ‬لم يقرّ‮ ‬بمثل هذا الدَّين‮. ‬لم يحبّ‮ ‬التعصّب لمدرسة التحليل النفسي،‮ ‬ولم يوافق علي مزاعمها التعميمية ومعاييرها‮ ‬غير العلمية في البرهنة علي الوقائع‮. ‬لقد آثر شكلاً‮ ‬آخر من علم النفس يهتمّ‮ ‬بما سمّاه ساخراً‮ "‬التنوع الضحل‮"‬،‮ ‬أي التنوع التجريبي‮.‬
في الواقع،‮ ‬كان كلٌّ‮ ‬من فرويد وموزيل جزءاً‮ ‬من حركة أكبر في الفكر الأوروبي‮. ‬كان كلاهما مشكّكين في قدرة العقل علي تسيير سلوك الإنسان؛ وكان كلاهما مشخّصين لأمراض حضارة أوروبا الوسطي واستياءاتها عند نهاية القرن التاسع عشر؛ واعتبر كلاهما القارة المظلمة للنفس الأنثوية مجاله الخاص للاستكشاف‮. ‬بالنسبة إلي موزيل،‮ ‬لم يكن فرويد مرجعاً‮ ‬بقدر ما كان ندّاً‮.‬
كان دليله المختار في عالم اللاوعي هو نيتشه‮ (‬أو كما سمّاه‮: "‬أستاذ الحياة المتقلّبة في الداخل‮"). ‬لدي نيتشه عثر موزيل علي مقاربةٍ‮ ‬للأسئلة الأخلاقية التي تتجاوز ثنائية الخير والشر البسيطة؛ كما وجد لديه برهاناً‮ ‬علي أن الفن بحد ذاته قد يكون شكلاً‮ ‬من الاستكشاف الفكري؛ إضافة إلي نمطٍ‮ ‬من الفلسفة يقوم علي الشذرات أكثر من المنهجية يلائم ريبيّة مزاجه‮. ‬لم يكن هناك تقليد راسخ للواقعية الروائية في ألمانيا؛ ومع تطور موزيل ككاتب أصبحت رواياته علي نحو مضطرد تتخذ شكل المقالة في بنيتها،‮ ‬ولا تتخلّلها إلا تلميحات فاترة إلي السرد الواقعي‮.‬
‮ ‬
اضطرابات التلميذ تورلس رواية مبنية علي قصة تدور حول الاضطهادات السادية في إحدي أكاديميات النخبة للفتيان‮. ‬أو هي،‮ ‬بتخصيص أكثر،‮ ‬وصف لأزمة واحد من هؤلاء الفتيان،‮ ‬وهو تورلس‮ (‬لا يذكر اسمه الأول أبداً‮) ‬الذي يمر بهذه الأزمة نتيجة مشاركته في الاعتداء المتعمَّد علي أحد زملائه ومن ثم انهياره،‮ ‬وهذا الطالب هو بازيني الذي يضبَط متلبّساً‮ ‬بالسرقة‮. ‬إن المادة الأساسية للرواية مستمدّة من استكشاف هذه الأزمة الداخلية،‮ ‬من الناحية الأخلاقية والنفسية وأخيراً‮ ‬المعرفية،‮ ‬مستخلصَةً‮ ‬في القسط الأكبر منها عبر وعي تورلس‮. ‬
في النهاية يتعرض تورلس للانهيار بدوره،‮ ‬فيُنقل من المدرسة خلسة‮. ‬تورلس مقتنع بأنه قد تجاوز المحنة ونجا‮. ‬لكننا لا نعلم بشكل واضح إلي أي مدي سنصدق ثقته الجديدة بنفسه،‮ ‬لأنها تبدو مؤسسة علي قرار يري أن الطريقة الوحيدة لمواكبة العالم هي الامتناع عن التحديق المطوَّل بالهاويات التي تنفتح في داخلنا إثر التجارب القصوي،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬التجربة الجنسية‮. ‬التلميح الوحيد المتاح لنا عما جري في حياة تورلس اللاحقة يشي بأن الفتي لم يصبحْ‮ ‬أكثر حكمة بالضرورة،‮ ‬ولم يصر رجلاً‮ ‬أفضل من ذي قبل،‮ ‬وإنما ازداد حذراً‮ ‬لا‮ ‬غير‮.‬
أنكر موزيل في وقت لاحق أن التلميذ تورلس تدور حول تجاربه في صباه،‮ ‬بل رفض القول بأنها تتناول المراهقة عموماً‮. "‬الواقع الذي يصفه المرء ليس إلا تمهيداً‮ ‬علي الدوام‮"‬،‮ ‬قاصداً‮ ‬بقوله‮ (‬علي ما نفترض‮) ‬إن الفِعل في الرواية هو مجرد واسطة نقل بسيطة تسمح للكاتب باستكشاف حالة ذهنية معينة‮. ‬ومع ذلك يمكن التعرف بكل سهولة إلي شخصيات تطابق بازيني ومعذِّبَيه‮: ‬باينبرغ‮ ‬ورايتنغ،‮ ‬وسط الفتيان الذين عرفهم موزيل في ميريش فايسكيرشن،‮ ‬أما أحد أعمق اضطرابات تورلس المتعلق بطبيعة مشاعره تجاه أمه‮- ‬فيتجلّي في يوميات موزيل المبكرة‮. ‬إن الهوة الموجودة بين برود تورلس الظاهري والقوي المحتدمة في داخله،‮ ‬بين الحياة اليومية المنتظمة في المدرسة وبين جلسات الجَلْد والضرب الليلية الغريبة في العليّة،‮ ‬تناظر هذه الهوة الموجودة بين الواجهة البورجوازية المرتّبة التي يمثلها والدا تورلس وبين ما يعرفه بطريقة سوداوية عمّا يدور حتماً‮ ‬في خلوة‮ ‬غرفة نومهما‮.‬
الاستعارة الكبري التي يستخدمها موزيل من أجل كل هذه الأمور التي يستحيل قياسها آتيةٌ‮ ‬من دراسات تورلس في الرياضيات‮. ‬فهناك الأعداد العُقَدية الخيالية التي ليس لها أي معادل في العالم الواقعي،‮ ‬وهي موجودة إلي جوار الأعداد الحقيقية،‮ ‬وقد ترتبط معها بشكلٍ‮ ‬من الأشكال عبر عمليات التحليل الرياضي‮. ‬وعلي ما يبدو،‮ ‬ليست هناك مشكلة لدي الراشدين،‮ ‬الممثّلين بمعلّمي تورلس،‮ ‬عند الجمع بين العوالم الواقعية والخيالية‮ (‬هذا الجمع الذي دوّخ تورلس باستعصائه علي التخيّل‮). ‬يزعم تورلس،‮ ‬في نشوة الخطبة التي يلقيها أمام مجمع المعلمين في نهاية الكتاب،‮ ‬إنه قد حلّ‮ ‬هذا الاضطراب الذهني لديه‮ ("‬أعرف أنني كنتُ‮ ‬مخطئاً‮ ‬بالفعل‮")‬،‮ ‬وقد عبَر بأمان باتجاه الشباب الراشد‮ ("‬ما عدتُ‮ ‬خائفاً‮ ‬من أي شيء أبداً‮. ‬أعرف‮: ‬إن الأشياء باقيةٌ‮ ‬علي حالها،‮ ‬وستبقي كذلك إلي الأبد‮"). ‬لا يفهم معلموه شيئاً‮ ‬مما يقوله‮: ‬إمّا لأنهم لم يختبروا تجارب مماثلة لتجاربه،‮ ‬أو لأنهم قد تشدّدوا في كَبْتها‮. ‬استثنائيٌّ‮ ‬هو تورلس في العمق الذي يواجهُ‮ -‬أو اقتيد ليواجهَ‮- ‬به الظلامَ‮ ‬الداخلي؛ وسواء رأينا في تبنّيه اللاحق للموقف الذي يسميه موزيل السارد‮ "‬المثقف المنحاز إلي الجمال‮" ‬خداعاً‮ ‬للذات أو لا،‮ ‬فإن تورلس يمثّل بالتأكيد في شبابه المضطرب‮ ("‬الاضطراب‮" ‬«erwirrung مفردة يستخدمها موزيل بسخرية متواصلة‮)‬،‮ ‬الفنانَ‮ ‬في العالم الحديث،‮ ‬مستكشفاً‮ ‬التجربة حتي أقاصيها ليعود منها بتقاريره‮.‬
‮ ‬
لا تزال الأسئلة الأخلاقية التي تثيرها التلميذ تورلس مستمرة إلي الآن،‮ ‬علي الرغم من لامبالاتها بالأخلاق التي تجعل من هذه الرواية بنت عصرها‮. ‬لدي باينبرغ،‮ ‬وهو الأميلُ‮ ‬إلي المثقفين بين رفاق تورلس،‮ ‬مبرّرات نيتشوية مبتذلة وموالية للفاشية حيال ما يقترفونه في حق بازيني‮: ‬فثلاثتهم ينتمون إلي جيل جديد لا تنطبق عليه القواعد القديمة‮ ("‬لقد تغيّرت الروح‮")‬؛ أما الشفقة فهي واحدة من الدوافع الدنيا ولا بدّ‮ ‬من قمعها‮. ‬تورلس ليس باينبرغ‮. ‬ومع ذلك فإن شذوذه الخاص‮ (‬حين يجعل بازيني يتكلم عما اقترفوه في حقه‮) ‬لا يقلّ‮ ‬سوء،‮ ‬من الناحية الأخلاقية،‮ ‬عن ضربات السياط التي ينهال بها الآخران عليه؛ بينما نراه،‮ ‬في أفعاله الجنسية المثلية مع بازيني،‮ ‬يمنع نفسه بصعوبة من إبداء الحنان تجاه الصبيّ‮.‬
في عالم لم تبقَ‮ ‬فيه أية قوانين أقرّها الله،‮ ‬ويقع علي عاتق الفنان-الفيلسوف مهمة القيادة،‮ ‬هل ينبغي أن تتضمن استكشافات الفنان ترجمة نزواته الشخصية المظلمة إلي أفعال ليري إلي أين ستأخذه؟ وهل يقوّض الفنُّ‮ ‬الأخلاقَ‮ ‬دائماً؟ إن عمل موزيل المبكر هذا يطرح هذا السؤال،‮ ‬ولكنه لا يجيب عليه إلا بأكثر الطرق تردُّداً‮ ‬والتباساً‮.‬
‮ ‬لم يتنصّل موزيل من التلميذ تورلس‮. ‬علي العكس،‮ ‬كان يُدهَش عند استرجاع ما كان قادراً‮ ‬علي إنجازه‮ (‬حتي من الناحية التقنية‮) ‬في مثل ذلك العمر المبكر‮. ‬الاستعارة الرياضية الكبري في الكتاب‮ (‬بما تنطوي عليه من أنّ‮ ‬أساساتِ‮ ‬عالمنا اليومي العقلاني الواقعي ليس لها أي وجود عقلاني أو واقعي‮) ‬يتواصل استكشافها في الرجل الذي لا خصال له،‮ ‬وإن طغت عليها روح المفارقة والسخرية أكثر من الألم،‮ ‬فيقترح أولريش،‮ ‬الشخصية المركزية في الرواية‮: "‬يجب أن يؤمن المرء بأنه أكثر مما هو عليه لكي يستطيع أن يكون حقاً‮ ‬ما هو عليه،‮ ‬فالحاضر ليس إلا فرضية لم يفرغْ‮ ‬المرء منها بعد‮". ‬إن عمل موزيل من مستهله إلي ختامه عمل متماسك‮: ‬إنه يسجل أطوار المواجهة بين رجل يتمتع بحساسية فائقة الذكاء وبين الأزمنة التي أنجبته‮- ‬تلك التي سيكون محقّاً‮ ‬في تسميتها بالأزمنة الملعونة‮.‬
مقدمة كتبها كويتزي للترجمة الإنجليزية لاضطرابات التلميذ تورلس طبعة بنجوين للكلاسيكيات الحديثة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.