يُعَدُّ "ثيودور أدورنو" (1903-1969) مفكرًا مفتاحيًا ل "مدرسة فرانكفورت" ونظريتها الاجتماعيَّة النقديَّة، وقد لاقت أطروحاته رواجًا في ألمانيا ما بعد الحرب، وأيضًا، وإن على نحو متأخر، في الولاياتالمتحدة شأنه في ذلك شأن "هوركهايمر وماركوز وهابرماس"، ومؤخرًا "نانسي فريزر"، وبشكل أقل كثيرًا "أوسكار نغت" تلميذ "أدورنو"، لكنَّه لم يحظ برواج ملفت في فرنسا. لقد لاقت مقولات النظرية النقدية، منذ السبعينيات، عند بعض الكتاب والمفكرين العرب أرضًا خصبة، ومن بين هؤلاء المنظِّر والناقد الأدبي السوريّ جورج طرابيشي الذي ترجم، في طور من أطواره الفكرية، كتاب ماركوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مع مقدِّمة مطوَّلة، كما تناصّت كتابات أستاذ الأدب والباحث المصري عبد الوهاب المسيري (1938-2008) مع منتج هذه المدرسة، خصوصًا الكلاسيكي منه، وتخصص فيها بشكل موسَّع الجزائري كمال بومنير، وتناولها بالشرح والترجمة اللبناني جورج كتوره وبعض اليساريين العرب مثل: المصري خليل كلفت، والسوري ثائر ديب. وفيما يخص "أدورنو" تحديدًا فقد تمَّ التركيز عربيًا على دراساته في الاستطيقا، من قِبل بومنير والتونسية أمُّ الزين بنشيخة وغيرهما. تُعَدُّ مقولة "أدورنو": حياة خاطئة لا يمكن أن تُعَاش على نحو صائب، من بين أهم مقولاته وأكثرها جدلًا. وقد وردت في كتابه: الأخلاق الصغرى أو الأدب الصغير Minima Moralia وعنوانه الفرعي: تأملات من حياة معطوبة، والعنوان الأساسي معاكسة لأرسطو الذي وضع الأخلاق الكبرى أو الأدب الكبير Magna Moralia، والكتاب من ثلاثة أجزاء كتبت في الفترة من 1944 إلى 1947، وصدر في 1951. توجد عبارات كثيرة في الكتاب تؤكِّد نفس معنى المقولة السابقة، من بينها "السُكنى، بمعناها الصحيح، مستحيلة الآن"؛ "لقد مرّ منظورنا للحياة في إيديولوجيا ما حيث أُخفيَت حقيقة أنه لم تعد هناك حياة ممكنة"؛ "لم يُترك [لنا] شيء غير مؤذ"؛ "الكامل زائف". من هنا سيعطي "أدورنو" دلالةً مختلفة لكلمة الفلسفة، فهي لم تعد محبَّة الحكمة، ولا تعلُّم فن العيش، وهي ليست علمًا مرحًا كما ادَّعى "نيتشه"، ولا وقوفًا على باب الوجود كما نظَّر "هيدغر"، بل هي علم حزين وكئيب لا يملك أكثر من استعراض الضمور والدمار الذي لحق بنا. وستصبح هذه الدلالة عنوانًا لفلسفته، حتى أن الفيلسوفة البريطانية "جيليان روز" حين ستكتب مؤلفًا مهمًا عن "أدرونو" ستضع "العلم الحزين The Melancholy Science" عنوانًا له (1978). يرى "ج. م. برنشتاين" في كتابه عن "أدورنو" (2001) أنَّ تصور الأخير عن الأخلاق يقوم على اعتبار الفكر الأخلاقي انعكاسًا للتجربة التي تتبين من خلال الممارسات الأخلاقية، بمعنى أن التجربة الأخلاقية للفرد محددة بحالة العالم الأخلاقي الذي يعيش فيه، ومن ثمَّ فالحياة الخاطئة (حال العالم الأخلاقي) لا يمكن أن تُعَاش (أو أن تفتح ممكنًا لأن تعاش) على نحو صائب. ويرى "برنشتاين" أنَّ "أدورنو" يؤسس منظوره على بعض الطروحات الفبرية والماركسية حول المجتمع المعاصر، والتي ترى أن مؤسسات المجتمع قد تمت عقلنتها عن طريق احتياجات وميكانزمات الإنتاج والتراكم الرأسمالي، ومن ثمَّ فمن غير الممكن أن تصير فضاءات للممارسة الأخلاقية، ف "أدورنو يؤمن أنَّ الاقتصاد والعقلانية الاقتصادية قد قاموا بغزو، أو، لنستخدم مصطلح يورغن هابرماس، "استعمروا" الوجود الخاص". لا ينتهي "أدورنو" إلى "السوبر مان"، مثلما هو الحال مع "نيتشه"، ولا إلى الصمت أمام الوجود كما هو أمر "هيدغر"، ولكن إلى تعرية انعكاسات هذا الوجود علينا، ومن ثمَّ تبقى رؤيته مقاومةً ومناهضةً على الرغم من كل شيء، ومن خلال هذا يمكننا موضعة كتاباته عن التنوير وتصنيع الثقافة والشخصية التسلطية.