يخترع المصريون أفراحا حين تضيق الدنيا عليهم، فيواجهون المأساة بالملهاة، ويواجهون القهر بالنكتة والقفشة، لكنهم لا يعدمون أفراحا أصلية، أفراح الجماعة الشعبية حين تمارس طقس العبور من زمن إلي زمن أو من مكان لمكان، وكلاهما يقترنان كاللحمة والسدي في دورة الحياة بدءا من الميلاد وانتهاء بالموت، وطقس العبور يراوح بين الحزن والفرحة، الحزن علي فراق مرحلة وزمن، والفرحة باستقبال عالم جديد تتهيأ فيه الروح لتسمية جديدة ومكانة مختلفة، والنصوص الشعبية تعكس هذه الحالة بجدارة، بداية من أغاني الطفولة التي كنا نرددها وانقطعت عن زيارة بناتنا وأولادنا، فهل تذكرون : حج حجيجه يا حاجه/ سمنه وبيضه ونتغدي/ حج حجيجه لبيت الله/ والكعبه ورسول الله/ بدِّي أزورك يا نبي/ ياللي بلادك بعيده/ فيها أحمد وحميده/ وحميده جابت ولد/ سميته عبد الصمد/ مشيته ع المشايه/ خطفت راسه الحدايه/ حد يا حد يابوز القرد/ انت ولد ولا بنت/ إنها أولي بشارات الطفولة حين تجتمع الأمنيات راجية زيارة النبي "بدي أزورك يانبي .. ياللي بلادك بعيده"، وظل الأغنية تتوالد وتتقافز فرحة بالجمع ، لكننا نتركها أو تتركنا لنعبر الأمنيات إلي أخري جديدة، و لايبرح الحزن أغاني الفراق أو بالأحري طقس العبور بإيقاعها كما سنري في أغاني الحنة، كما يتجلي الحزن في أغاني الفراق التي تصاحب أغاني حنون الحجاج ووداع الأرض وترك الديار، والوداع في الميناء، والحج علامته عيد الأضحي، حيث تواكب فرحة العيد قيام البنات و السيدات بترتيب البيوت وتزيين حجرات الاستقبال وإعداد أواني الطهي, كما تستقبل بعض الأسر العيد بقراءة القرآن من خلال بعض المقرئين كنوع من العبور إلي زمن آخر يستهله المصري بآيات الذكر الحكيم. ومنذ إطلالة العيد تبدأ عبارات التهنئة بين الأقارب والأصدقاء والجيران, وكذا يقوم الإخوة المسيحيون بتبادل التهنئة مع المسلمين, وتكثر الزيارات خاصة في الريف. ومن أهم المظاهر الجمالية عند المصريين ما يتعلق بفن جداريات ورسوم الحج, فقد برع المصريون في توثيق الحج بداية من الإعداد له, فضلا عن الكتابات الخطية التي تعد توثيقا لرحلة كل حاج وتكثر في ريف مصر حيث تعكس مظاهر الابتهاج بالحاج والترحيب والتهنئة بسلامة وصوله، وتنتشر عناصر نباتية وحيوانية ووسائل المواصلات، فضلا عن الكتابات الخطية التي تتضمن آيات قرآنية، وعبارات مسجوعة، والرسوم الجدارية تقوم بعدة أدوار منها الإعلان عن قيام أحد أفراد الأسرة بالحج ، وبالتالي تغير صفه من شخص عادي إلي حاج بما يستتبع ذلك من تغير في المعاملة وتقدير خاص يكتسبه الفرد من قيامه بالحج وزيارته للرسول، فضلا عن إبرازها لعناصر الجمال عند أبناء الجماعة الشعبية التي نري أن سمات الفن الشعبي حاضرة في الرسوم الجدارية المتعلقة بالحج أو بتزيين البيوت وبفن الأيقونة الشعبية فكلها تجمعها مجموعة عمق الثقافة المصرية. كما يقوم المصريون بتلطيخ جدران المنازل أو واجهتها بدماء الأضاحي اعتقادا بأن الدماء لها قدرة علي درء الحسد ومنع العين الشريرة وإبطال مفعولها، كما أنها فداء لأهل البيت من اي أذي قد يلحق بهم ، وترتبط هذه الممارسة في التراث الشعبي بالخمسة وخميسة. وفيما يتعلق بتوزيع الذبيحة فإنه يتم تقطيعها تمهيدا لتوزيعها ويحدث ذلك في بعض المناطق الحضرية ومازالت عادة توزيع جزء من الأضحية علي الأقارب والفقراء وقد يوزع جزء من الذبيحة علي الجيران المقربين ويعد الرقاق الذي يستخدم في عمل الصواني أحد أصناف الطعام الرئيسية في العيد, كذلك الفتة من الأكلات الرئيسية والسمات الثقافية السائدة في عيد الأضحي ويفضل البعض شواء اللحوم منزليا. إن احتفالات المصريين بالأعياد تأخذ دائما شكلا احتفاليا، بدءا من زفة المحمل علي الجمال يسبقها طبول النقرزان و حمل البيارق ، كما تتميز احتفالات عيد الأضحي بالولائم، وكان ولاة الأمور في مصر الفاطمية يمدون الأسمطة ويعلقون الزينات في الشوارع وعلي الحوانيت ، كما كانت تضاء القناديل علي المساجد والبيوت إيذانا باحتفالات العيد, ويقول ابن بطوطة في رحلاته ان أهل مصر كانوا يعلقون القناديل علي المساجد في ليلة الأضحي من أجل تعريف الناس بأن هذه الليلة هي ليلة العيد, وتبدأ في نفس الليلة في كل مساجد مصر خاصة المساجد الكبري الأحتفالات بالتكبير والتهليل وتستمر حتي الصباح.. وبمجرد أن تعلق الزينات علي المساجد إيذانا باحتفالات العيد حتي تبدأ الحمامات الشعبية في استقبال المحتفلين باطلاق المباخر ونشر العطور واستقدام المغنيين من باب البهجة بمطلع العيد. ولأن العيد الكبير أو عيد الأضحي يرتبط بالحج فإن أبهي مظاهره هو أغاني الحج التي يتداولها أبناء الجماعة الشعبية قبل بدء الرحلة وساعة الوداع وأثناء الرحلة والفرحة بالعودة، وتقوم المرأة بدور مهم في هذا الطقس الغنائي الحاشد بكثير من المشاهد والمواقف التي تصف مشاعر الحج ومشاعر المحيطين بها وأمنياتهم له وطلباتهم منه، "والقعدة ديه في حرم نبيه محبة جمعية ياعيني في حرمك يانبي يا فاطمة يا فاطمة يا بنت نبينا افتحي البوابة با فاطمة.. أبوكي داعينا يا فاطمة يا فاطمة يابنت التهامي افتحي البوابة يا فاطمة.. أبوكي دعاني.. رايحة فين يا حاجة يا أم الشال قطيفة رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة رايحة فين يا حاجة يا أم الشال سماوي رايحة أزور النبي محمد وارجع ع القناوي، وقد بدأ بعض الأصدقاء في تذكر بعض هذه الأغاني علي صفحات التواصل الاجتماعي، حيت وضعت الكاتبة أسماء هاشم صورة لها وهي ممسكة بدف كبير متذكرة هذا النص: رايحه وين يا حاجه/ بالشال القطيفه/ رايح أزور النبي/ والكعبه الشريفه. رايحه وين يا حاجه/ بالشال اللبيني/ رايح أزور النبي/ واتفرج يعيني وصارت الصفحة ميدانا للجمع الميداني فكتبت الشاعرة عليه طلحة : علي بير زمزم .. نصبنا الخيامِ .. وتحت الخيام .. رجال كرام .. ومنهم مليح .. فصيح اللسان.. اسمه محمد.. عليه الصلاة.. عليه السلام ، وواصل الكاتب مراد محمد حسن تذكر النصوص التربيعية الأسيانة . وصلتني بنتي/ لحد العوينه/ ارجعي يا بنتي/ جميلك علينا أما أبو محمد المالكي سيد العريان فقد أضاف نصا بديعا يكمل به منظومة النصوص الرباعية التي يشتهر بها حنون الحجاج: رايحه فين يا حاجه/ يا ام شال لموني/ رايح أزور النبي/ واكحل عيوني ويتبعه ابن أسوان الجالس محمود بنص أخر ليكمل الطريق : والله يا حاجه / ما عايزه قطايف/ عايزه سلامتك/ وعمارة السقايف. أما الفنان والإعلامي علي المريخي فينقلنا من النوص الرباعية لحنون الحجاج إلي النصوص الممجدة للرسول الكريم والتي تؤدي احتفاء واحتفالا بزيارة الرسول : يا مسلم صلي ووحد/ اوعي تخلي قلبك جاحد/ دا رب العباد واحد/ يا زاير مكه والحرم وقد قمنا بتدوين عدد هائل من أغاني حنون الحجاج لعدد من الفنانين الشعبيين منهم جابر العزب، وسيد إمام، وجميعها تسرد الرحلة ووسائلها وتجلي محبة المصريين للرسول وآل بيته، ورغبتهم وشوقهم للزيارة، فضلا عن تخصيص عدد من النصوص لبئر زمزم وحكايته : زمزم .. زمزم/ يا اللي علي طه ناوي/ بلغه مني السلام/ قول له مشتاق محبك/ حرم عينه المنام/ عن قصة مية زمزم/ اسمع مني الكلام سيدنا إبراهيم / م المقدس يوم هاجر/ إلي أن وصل بمكه/ ومعاه ابنه وهاجر/ وتركهم الاتنين/ وعاد للمقدس مهاجر/ زمزم .. زمزم سيدنا إسماعيل / ابنه وهاجر أمه/ الاتنين مكثوا بمكه/ وبتحضن فيه وتضمه/ وفي لحظه بكي عطشان/ والميه دي حاجه تهمه/ زمزم .. زمزم أمه تهرول في الصحرا/ وتعاود ع العياط/ وتهيأ ليها بحره/ أو مية محيطات بين الصفا والمروه/ قطعت سبع أشواط/ زمزم .. زمزم سيدنا إسماعيل بعيونه يقول يا أمي / الميه تحت اقدامي/ حاوطيه بجسمي ولمي/ وتحاوطه السيده هاجر/ وتقول لها زمي زمي/ زمزم .. زمزم وبعد فإن العناصر الشعبية الخاصة بعيد الأضحي خاصة رحلة الحج تحتاج إلي جمع ميداني، خاصة لأغاني حنون الحجاج التي بدأت تذوي من الذاكرة، فضلا عن العادات والتقاليد والمعتقدات التي ترتبط بالزيارات والأضاحي وجمع ما تبقي من رسوم جدارية مازالت حية علي جدران البيوت المصرية في ريف الدلتا وصعيد مصر.