يتقدم بنا العمر فنرتد صغارا. تجنح مشاعرنا نحو الطفولة. ببرائتها وصدقها الساذج وخبثها البريء. تكفينا نظرة حب وضمة حنون وطبطبة يد مهدهدة لتسكين الأوجاع. نتعلق بهم مصدرا وحيدا للسعادة والأمان. نتلهف لسماع أصواتهم لتدب في قلوبنا الحياة. نترقب نجاحاتهم فتعوضنا عن إخفاقاتنا وعسرتنا في دروب الدنيا الوعرة. لانفكر إلا بهم ولاتؤرقنا إلا همومهم ولا تبهجنا إلا سعادتهم. يصبحون سببا وحيدا يمنحنا الرغبة في الاستمرار والوجود. نتبادل أدوارنا معهم دون أن ندري. نتلهف بفرحة لطلتهم ويقتلنا الحنين لغيابهم حتي وإن بدا قصيرا بحسابهم وتقديرهم وظروفهم. ونكاد نموت كمدا من كلمة قاسية انفلتت في لحظة غضب منهم. أو لهجة حادة خرجت تحت ظروف صعبة مرت بهم. أو أياما كثيرة بتقديرنا مضت دون أن نراهم ونضمهم ونستمتع بضجيجهم وصخبهم وقلقهم الأثير المحبب. نشعر وكأن قلوبنا بالفعل تنفطر عليهم شوقا ولهفة وحباً بينما تبدو قلوبهم في لحظة كالحجر. لحظة أن نشعر أننا خارج اهتماماتهم وأولوياتهم. نغضب من انشغالهم وننسي غضبنا بمجرد وجودهم بجانبنا كالأطفال. نشكو بعدما يستبد بنا الشوق إليهم. نكاد نتهمهم بالجحود. وفي لحظة صدق أخري نعود ونلتمس لهم الأعذار. نتذكر يوم أن كنا مثلهم تطحننا رحي الحياة القاسية الصعبة . نجري .. نلهث .. تؤرقنا متاهاتها .. تعتصرنا همومنا وتفاصيل حياتنا فتنسينا أنفسنا وتلهينا أحيانا حتي عن أقرب الناس إلينا. أو تجعل تواصلنا معهم روتينيا جافا يفتقد اللهفة والبهجة والحنين. كنا نؤذيهم رغما عنا ودون أن نتعمد ذلك لكننا كنا نفعل ودون أن ندري. ربما بفعل تدليل لم نشعر بقدره ولا قدرهم إلا بعد غيابهم ورحيلهم. تيقنا أنهم مصدر شعورنا بالأمان والراحة والسكينة. مشاعر غابت عنا لا نلمسها إلا بعدما تزورنا أرواحهم حلما أو نشعر بقربها وضمتها يقظة وعلما. هكذا كنا وهكذا صار أولادنا وهكذا يصبح أحفادنا وكله سلف ودين.