عدت مرة أخرى إلى قلمى ، بعد أن خاصمنى خمس سنوات كاملة ، لأكتب عن فيلم "الخروج من الجنة" ، المأخوذ عن مسرحية للأديب الكبير "توفيق الحكيم" التى نشرت عام 1952، والتى تحولت إلى عمل سينمائى فريد ، إنتاج عام 1967 ، كان من أبدع ما قدمت الفنانة "هند رستم" والفنان "فريد الأطرش" ، والمؤلف الموسيقى "أندريا رايدر" ، والمخرج "محمود ذو الفقار" . أراد "الحكيم" أن يقول إن الألم العظيم هو وحده القادر على خلق إنسان عظيم ، وكلما إزدادت حدة الألم وقسوته ، كلما إزداد قدر عظمته – عفواً لا أدعى العظمة – لكننى واجهت ألماً هادراً ، مؤخراً ، كاد يعصف بى ، لكن مشيئة الله ، وأنبل وأصدق من حولى ، وأخيراً إرادتى ، ساعدتنى على تجاوزه ، لأجد نفسى مرة أخرى ، تستعيد لياقتها ، ورغبتها فى الكتابة ، وتستعيد معهما قيمة كل الأشياء الجميلة حولها . بلا شك إن الأعمال الأدبية العظيمة ، هى قلعة الذاكرة ، هى جواهر المعرفة الصامتة ، الذى يمكن إحياؤها فى أعمال فنية رائعة ، لتصل رسالتها فى خفة وبساطة ، إلى قلوب وعقول كل الناس ، على اختلاف ألوانهم وطبقاتهم وثقافتهم . إن فن السينما بمثابة الروح التى تتجلى فى جسد العمل الأدبى ، فتبعث فيه الحياة . حينما أحبت الصحفية "عنان" "مختار" ، أدركت عبقريته فى الغناء والتلحين ، فهى تعرف قيمة الأشياء الثمينة ، لكنه لم يكن يدرك معنى موهبته ، حتى بعد أن تزوجا ، حاولت – بكل الطرق – أن تجعله يشعر بقيمة ما لديه من كنز ، أن تطلق عنان موهبته السجينة ، أن تساعده على خوض تلك التجربة الفريدة ، إلا أنه لم يعبأ بكل هذا ، فهو يعيش حياة عابثة مترفة ، وهى جلى آماله . كانت "عنان" شاعرة وأديبة ومثقفة ، تعرف أن عبقرية مختار فى صوته وألحانه ، وتعرف أيضاً أن رسالة الله فى خلقه ، هى الطريق الوحيد ، مهما كانت العقبات والأزمات ، وأخيراً توقد ذهنها عن فكرة غير معتادة ، على قدر قسوتها ، إلا أنها كانت الملاذ الوحيد ، وعلى أثرها ، اختلقت متعمدة الخلافات مع "مختار" ، وقلبها ينفطر ويتمزق ، حرمته من أعز ما لديه ، حرمته منها ، وحرمت نفسها من أعز ما لديها ، حرمت نفسها منه ، لكنها اختارت رغبة القدر وإرادته . لم تكن صفعة قاسية ، بل كانت سكيناً حاداً ، ذبح قلبه الرقيق ، حاول معها ، استعطفها ، لكن لم تفلح كل محاولاته وتوسلاته ، أصرت على الطلاق دون إبداء أي أسباب ، ثم تزوجت من رجل سبق أن تقدم لها ورفضته ، حتى يفقد "مختار" الأمل تماماً فى عودتها إليه ، أرادت أن تصيبه بأقسى وأشد درجات الألم . اكتئب "مختار" ، وتدهورت صحته ، وساءت أحواله ، وأخيراً لم يجد أمامه سوى "عوده" ، يرتمى فى أحضانه ، تختلط دموعه بأوتاره ، وبدأت تعزف أنامله نزيف أحزانه ، المحترقة شوقاً ولهفة وغراما، وتجلى صوته طرباً ، بأجمل الكلمات وأعذبها ، ووقف على المسرح ، وواجه الجمهور ، رغم ضعفه وألمه ، بصوته الشجى الجميل ، ولأن نبرات صوته انطلقت من شغاف القلب ، اخترقت كل القلوب والعقول معاً ، وبالفعل أصبح من أشهر وأعظم مطربى عصره . تسعد "عنان" ، وتشعر بالقوة والانتصار والفخر ، لكنها ظلت تراقبه من بعيد ، تطمئن عليه خلسة من آن لآخر ، دون أن ينتبه لوجودها ، هى تحرص ألا يشعر بها ، هى تحبه ، هى تؤمن بموهبته ، ولديها الإرادة الكافية ، لتجبره على النجاح والانتصار ، لأنه يستحق ذلك ، وهكذا تجاوزت كل حدود البشر ، ارتفعت إلى أعلى مراتب الإنسانية، المتجردة تماماً من كل نوازع الأنانية والوصولية ، ذابت ذاتها فى الكون الرحب. عفواً .. إننا نسعى دوماً إلى أعلى المراتب والمناصب ، دون أن نسعى إلى معرفة كل الأشياء الحسية الثمينة حولنا ، كى تثمر فينا ، دون أن ندرك أن الانتصار للقيمة والمعنى والمبدأ، هو من يمنح كل الأشياء الأخرى قيمتها ووجودها .