28 سبتمبر عام 1970.. يوم وفاة الزعيم.. مصر كلها لا تصدق الخبر.. الزعيم مات.. ناصر مات.. أبوخالد راح. ومصر بدون إعداد أو تنظيم من الاتحاد الاشتراكي العربي أو غيره تخرج إلي الشوارع في جنازات شعبية في كل مكان لوداع الزعيم حيث انطلقت وترددت الأغنية التي وضعت كلماتها الجماهير في تلقائية وتجاوب جماعي رائع.. الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين. وكنا صغاراً ونحن نسير مع الآلاف في الشوارع نردد الأغنية ونشارك في أكبر وداع شعبي لزعيم احتل في القلوب مكانة لن يشغلها غيره ومنحه الله أعظم الهدايا متمثلة في حب الناس له وإيمانهم به. فقد كان جمال عبدالناصر الذي تحل ذكري وفاته بعد أيام قليلة هو مصر وأمل مصر وقيمة مصر وأحلام مصر.. وكل شيء في مصر. ولم يحدث في تاريخ البشرية كلها أن خرجت الملايين تناصر قائداً عسكرياً مهزوماً وتطالب بالبقاء بدلاً من المطالبة بإقالته أو محاكمته.. ففي 9 و10 يونيو 1967. بعد أيام قليلة من هزيمة الخامس من يونيو وتدمير الطائرات المصرية وضياع سيناء. فإن عبدالناصر ألقي خطاباً يعلن فيه مسئوليته عن الهزيمة والتنحي عن الحكم والعودة جندياً في صفوف المقاتلين.. وما إن ألقي ناصر بخطابه الحزين إلا وكان شعب مصر كله في الشوارع يطالب بالبقاء ويحمله المسئولية في أن يأتي لنا بالانتصار. *** أياً ما كانت وجهات النظر حول عبدالناصر وعن السياسات التي أدت إلي هزيمة 1967. فإن عبدالناصر العظيم قدم أعظم سنوات نجاحه واستيعابه لتوازنات ومتغيرات العصر عندما نجح في الفترة من 1967 إلي 1970 في إعادة بناء الجيش المصري بشكل وأسلوب مختلف وبتقنيات عسكرية متطورة وبعزيمة جديدة لتخطي الهزيمة. فكان هو الجيش الذي نجح في ملحمة عبور القناة في أكتوبر 1973 واستعادة الأرض والكرامة. ولأن عبدالناصر خلال هذه السنوات بذل جهداً غير عادياً في إعادة البناء واستعادة الثقة للحرب فإن قلب عبدالناصر لم يتحمل كل هذه الضغوط والمتاعب فسقط البطل ضحية لذبحة صدرية أودت بحياته.. ومات وماتت معه كل الأحلام الكبار والآمال العظام في الانتصار وعودة الأرض. وجاء أنور السادات الذي كان نائباً لعبدالناصر.. وكانت المقارنة ظالمة بين زعيم ذو شخصية طاغية وكاريزما هائلة. وبين آخر يتلمس معالم الطريق ويجد نفسه محاطاً بأعوان الزعيم الذين أرادوه مجرد أداة لتنفيذ سياساتهم وتلقي أوامرهم وتوجيهاتهم. وأعتقد الناس أن السادات لن يصمد طويلاً ولن يكون قادراً علي اتخاذ قرار بالحرب وأن عبدالناصر قد راح وكل الأماني أصبحت خيالاً وسراباً. ولم يكن هناك من يتوقع أن السادات سوف يتغلب علي كاريزما ناصر بالدهاء والمكر.. وأن نائب الرئيس الذي كان علي هامش الصورة سوف "يفرم" ويعصف بكل مراكز القوي وأعوان عبدالناصر في حركة تصفية مباغتة أطلق عليها ثورة التصحيح في مايو 1971 لينفرد بعدها بالحكم والقرار. وكان قرار التخلص من نظام عبدالناصر هو بداية حوار تتوارثه الأجيال إلي يومنا هذا حول عبدالناصر وسياساته وحول السادات الذي كان في كل خطاب له يشيد بالزعيم وفي الوقت نفسه "يمسح" كل سياساته..! *** وهي معركة فكرية بدأت ولن يكون لها نهاية أو نقاط للتلاقي والاتفاق. فالذين يحبون عبدالناصر يتعاملون معه بحب جارف ولا يرون فيه أي أخطاء أو سلبيات وينقضون انقضاضاً علي من يجرؤ علي الاقتراب من عبدالناصر أو تشويه صورة الزعيم. وهم قادرون حتي الآن علي تحطيم من يقلل من ناصر ومكانته. وقد يصلون في ذلك إلي توجيه اتهامات تصل لحد الخيانة والعمالة لمن تسول له نفسه أن يتعرض لناصر ويتحدث عن أخطائه. ولقد كان عمرو موسي وزير الخارجية السابق آخر ضحاياهم عندما ذكر وتحدث عن واقعة صغيرة تتحدث عن استيراد عبدالناصر لأنواع خاصة من الطعام من سويسرا للحمية الغذائية. وليس فيما قاله عمرو مصيبة ولا إساءة لزعيم ورئيس دولة مريض بالسكر وسمع عن دولة ابتكرت وأنتجت بعض الأغذية البسيطة الخالية من السكر فقرر أو طلب أن يأتوه ببعضها..! إن عبدالناصر لو كان حقاً قد فعل ذلك فإن هذا لا ينقص من مكانته وانحيازه للغلابة والفقراء ومن تناول الجبن والخيار. فهذه الأطعمة الخالية من السكر هي بالنسبة لمريض السكر مثل الدواء وهي علاج وليست ترفيه..! ولكن لأنه عبدالناصر فإنهم لا يسمحون بالاقتراب منه أو معاملته كرئيس عادي يريدونه مقدسا محاطاً بهالة خاصة تمنع إظهار عيوبه أو نقاط ضعفه أو إظهاره علي أنه كان بشراً مثلنا.. هم صنعوا منه أسطورة يضيفون إليها من خيالاتهم وينسبون إليه المعجزات ليظل رمزاً وتاريخاً وحاضراً ومستقبلاً. *** ولذلك سيظل الجدال دائراً والقضية تتوارثها الأجيال وتختلف حولها دون مرجعية حقيقية للتقييم بموضوعية وعقلانية ودون وجود كتابة منصفة للتاريخ والوقائع والأحداث. ومازلنا نتعامل في الحكم علي عبدالناصر والسادات بنفس الطريقة التي نتعصب بها للأهلي والزمالك.. فهناك حب جارف للفريق الذي تقوم بتشجيعه وكراهية عمياء للفريق الآخر تدفع البعض لتشجيع الخصم حتي ولو كان منافساً أجنبياً. ولكن يبقي مع هذا أنه من الضروري أن يكون هناك حد أدني للاتفاق والتلاقي. فعبدالناصر كان زعيماً وطنياً.. حاول في حدود إمكانياته والدور المرسوم له أن يبني دولة مصرية قوية وأمة عربية موحدة.. ولكنهم اغتالوا أحلامه بالقضاء عليه في 1967 التي كانت الهزيمة فيها نهاية لكل التطلعات. وأنور السادات كان زعيماً وطنياً.. حاول وحاول.. وبعد أن استطاع محو الهزيمة وبدأ في هجوم السلام والبحث عن دور آخر لمصر في المنطقة فإنهم تركوه فريسة للتطرف الديني وضحوا به في لعبة الأمم والنفوذ في المنطقة. وعندما أتي مبارك فقد تركوه 30 عاماً لأنه كان قد استوعب درس ناصر والسادات.. واكتفي بأن يكون رئيساً وملكاً يستطيع توريث ابنه.. وهي نقطة الضعف التي أطاحت به..!