حذر الدكتور على القرة داغي- الأمين العام للاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، من مغبة التمادي في الإساءة للدين الإسلامي ورسوله الكريم- صلى الله عليه وسلم- بحجة القيم والحرية، داعيًا إلى القضاء على أسباب الإرهاب مع التركيز على الحل الفكري والثقافي. وخاطب القرة داغي، في رسالة له اليوم الثلاثاء، عقلاء ومفكرى الغرب مطالبًا إياهم بعدم الإساءة إلى الرسول الكريم قائلا:"ليس من الحكمة، أن تتخذ قيم الحرية وسيلة للهجوم على هذا الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم- الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأنه علّم الناس الحرية، ثم ترى الإساءة إليه من خلال الرسوم والأقلام التي لا يقبلها الإنسان العادي لنفسه". جاء ذلك على خلفية أحداث الاعتداء على مقر صحيفة "شارلى أبيدو" الفرنسية الذى خلف 12 قتيلاً، وما حدث خلال المسيرة المنددة بالحادث فى فرنسا منذ يومين من رفع صور مسيئة للرسول والإسلام. نص الرسالة رسالة مفتوحة من الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى عقلاء الغرب ومفكريه، وقادته وشعوبه. بعد التحية والتقدير: فأود أن أضع أمامكم النقاط الآتية: أولاً: لا يخفى عليكم أن معظم علماء المسلمين الممثلين في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والاتحادات والروابط العلمائية، قد شجبوا بشدة ونددوا بجريمة الاعتداء على صحيفة تشارلي إيبدو، وغيرها من الاعتداءات الآثمة التي وقعت على المدنيين الأبرياء في أي مكان، وعلى أماكن العبادة، مهما كان فاعله مسلمًا أو غيره. فهذه جرائم حَرّمتها الشرائع السماوية، وبخاصة الإسلام الذي جعل قتل نفس واحدة بريئة بمثابة قتل الناس جميعًا، فقال تعالى: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) {المائدة: 32 } بل إن الإسلام جعل قتل النفس البريئة أشد عند الله من هدم الكعبة المشرفة، والنصوص الشرعية فيه كثيرة جدًا. ثانياً: إن قيم الحرية ليست خاصة بالغرب، بل هي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قدّسها الإسلام، فمنع مسها حتى لأجل الدين، فقال تعالى: (لا إكراه في الدين) }البقرة: 256{، وقال تعالى: (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر) }الكهف:29{، وعمليًا فإن الرسول محمدً-ا صلى الله عليه وسلم- حينما كان يحكم المدينة، أعطى هذه الحرية لجميع من يعيش عليها من خلال وثيقة المدينة التي تتكون من حوالي 50 مادة، خصص 27 منها لحقوق المواطنة الكاملة لمن يعيش في المدينة من اليهود، والمشركين، بل إن القران الكريم جعل من مبررات الإذن بقتال المشركين العرب: درء الظلم، وتحقيق العدالة، وتوفير الحرية لجميع دور العبادة، فقال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) }الحج: 39-40{ ، لذلك فلا يجوز، بل ليس من الحكمة، أن تتخذ قيم الحرية وسيلة للهجوم على هذا الرسول العظيم- صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأنه علّم الناس الحرية، ثم ترى الإساءة إليه من خلال الرسوم والأقلام التي لا يقبلها الإنسان العادي لنفسه. ثالثًا: إن قيام مجموعة من الصحف، ووسائل الإعلام، بإعادة نشر الرسوم المسيئة والأفلام السيئة حول الرسول- صلى الله عليه وسلم، والهجوم على الإسلام، أو المسلمين، ليس من العقل ولا المنطق، ولا الحكمة، وذلك لأننا إذا اتفقنا بأن هؤلاء المتطرفين (وهم قلة) لا يمثلون الإسلام والمسلمين، وأنهم يقتلون من المسلمين أكثر من غيرهم، إذن كيف يرد على تصرف هؤلاء المتطرفين بتصرفات ليست ضدهم، بل ضد رسول الرحمة للعالمين، ورسول تؤمن به حوالي ملياري نسمة ويحبونه حبًّا جمًّا، وهم مستعدون للتضحية بأنفسهم في سبيله. فهذا ليس من العدل ولا الإنصاف ولا المنطق السليم. ومن جانب آخر، فإن هذه التصرفات الرعناء تساعد المتطرفين من عدة جوانب منها: أ- كأنهم يمثلون الإسلام ورسوله محمدًا. ب- يعطيهم المصداقية بأن الغرب أو غير المسلمين هم ضد الإسلام ورسوله، وضد المسلمين. ج- إنه يساعد التطرف والتشدد، ويزيد من الاحتقان الشديد، والكراهية وعدم الثقة. د- إنه يسد الطريق على جهود المصلحين المعتدلين، لأن عامة الناس لا يصدقونهم، وإنما يصدقون هؤلاء الإرهابيين الذين يستغلون نشر هذه الرسوم والأفلام المسيئة لأفكارهم المتطرفة. رابعاُ: إن لظهور أفكار التطرف والتكفير والإرهاب أسبابا كثيرة، ولكن من أهمها شيئان لا شك أن للحكومات الغربية دورًا فيها، وهما: السبب الأول: الدكتاتورية والاستبداد، وكبت الحريات منذ أيام الاستعمار وما بعده، حيث حكمت الدكتاتورية معظم الدول الإسلامية، ومع ذلك وقفت معها الحكومات الغربية متجاهلة القيم التي تؤمن بها، وهي قيم الحرية والديمقراطية. فلو كانت هناك في هذه البلاد الحريات المتاحة لكانت هذه الأفكار المتطرفة تناقش علنًا، وتنتهي، أو تضعف، لكنها تكونت في السجون حيث إن أول جماعة متطرفة وهي جماعة التكفير والهجرة ظهرت في السجون المصرية، ومن جانب آخر، أن الشعوب العربية حينما ثارت في تونس ومصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، ضد الاستبداد والدكتاتورية والظلم والفقر والجهل والتخلف، وضحّت بأرواحها في سبيل حريتها، أُجهضت هذه الثورات تحت مسمع ومرأى العالم، وبأموال دول محسوبة على الغرب، وسياسات تنسجم مع مصالح الحكومات الغربية، وكان العالم الإسلامي يتوقع أن يثور العالم الغربي، عالم الديمقراطية وقيم الحرية، لأجل هذه القيم فيعيد الشرعية، ويقف معها، كما فعل مع بعض الدول التي انقلب العسكر على الشرعية من غير العالم الإسلامي، حيث أجبرتها أمريكا والدول الأخرى على إعادة الحكومة الشرعية. وقد رأينا أن "القاعدة" ظهرت بعدما قضى العسكر في الجزائر على التجربة الديمقراطية التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، ولا أشك أنها لو نجحت التجربة الديمقراطية في العالم الإسلامي لما كان للقاعدة مكان. وقد سمعنا كثيرًا من المتطرفين الهجوم العنيف على الإسلاميين المعتدلين الذين يؤمنون بالحوار والحرية والوصول عن طريق صناديق الاقتراع، بأنهم لم يحققوا شيئًا خلال سبعين سنة. وقد خفت صوت المتطرفين عندما نجحت الثورة في تونس، وفي مصر، وليبيا، ولكن عندما أفشلت ثورات الربيع العربي عادت "القاعدة" و"داعش" إلى الواجهة بقوة؛ فمثلا لم تكن هناك "داعش"، ولا "القاعدة" في سوريا، حتى بعد الثورة بزمن، ولكن عندما تمادى بشار الأسد في القتل واستعمال جميع الأسلحة المحرمة بما فيها الغازات الكيمياوية وسكوت الغرب عن ذلك قويت شوكة "داعش". كما أن العراق كان خاليًا من الإرهابيين إلى أن احتلته أمريكا فظهرت "القاعدة"، ثم ضعفت بفعل قوة العشائر السنية حتى طردوها من الأنبار، ولكن في ظل السياسات الطائفية للمالكي المدعومة من أمريكا ظهرت داعش بقوة وسيطرت على معظم المناطق السنية العربية من الموصل إلى الأنبار. فلذلك فإن للسياسات الغربية دورًا سلبيًّا في ظهور هذه الجماعات المتطرفة. السبب الثاني: القضية الفلسطينية، التي هي قضية عادلة في جميع الشرائع والقوانين والأعراف الدولية، فهي قضية الاحتلال، ومع ذلك فإن السياسات الصهيونية في الأراضي المحتلة تسير ضد الشرائع والقوانين من إنشاء المستوطنات والجدار العنصري العازل، والاعتداء على المسجد الأقصى، وارتكاب الجرائم ضد الإنسانية في غزة. كل ذلك يمرر بالفيتو الأمريكي، والسكوت الغربي، وعدم الضغط على الحكومات الإسرائيلية.. فلا يمكن أن يهنأ العالم بالأمن والأمان وفلسطين والقدس الشريف يعبث فيها الاحتلال الصهيوني فيدمر المنازل، ويقتل الأبرياء، ويعتدى على المقدسات الإسلامية والمسيحية. خامسًا: لا يخفى عليكم جميعًا أن العالم اليوم أصبح كقرية واحدة، أمنها واحد، وازدهارها واحد، وكذلك الأمر بالعكس. لذلك يجب على عقلاء الغرب والشرق ومفكريهما وقادتهما أن يفكروا تفكيرًا مشتركًا لصالح الجميع، وهذا إنما يتحقق من خلال السعي بجميع الوسائل لتحقيق التنمية الشاملة والعدل الكامل من جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا إنما يتحقق من خلال مؤتمرات وندوات وورش علمية بين المفكرين من الغرب والمفكرين الإسلاميين للوصول إلى ميثاق شرف للتعايش السلمي. ثم يرفع هذا الميثاق إلى القادة السياسيين من الغرب والشرق لتطبيق أهم متطلبات التعايش السلمي، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى بأن خيرات الأرض لجميع البشرية وأنه لا يجوز أن ينفرد بها شعب دون شعب آخر أو أمة دون أمة أخرى فقال سبحانه وتعالى (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) }الرحمن:10{ .. وأخيرًا فقد أثبتت التجارب أن الحلول الأمنية والسياسية والمؤامرات لن تجدي نفعًا، فالحل الحقيقي هو الحوار الصادق الهادئ الهادف الشفاف ثم التطبيق والتنفيذ بصدق وإخلاص، ولأهمية الحوار يفرض الإسلام على المسلمين الحوار بأحسن الطرق مع غيرهم فقال تعالى (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) }النحل: 125{ ، بل إن القران الكريم يطلب من الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- بأن يتحاور مع كل من يبحث عن الحقيقة مهما كان دينه بأسلوب جميل شيق لا يجعل المخالف متهمًا فقال تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) }سبأ: 24{ حيث طالب المخالف بالحوار للوصول إلى الحق الذي يمكن أن يكون معه بل إن القران الكريم ألح على المخالف بالحوار ولذلك قال تعالى (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) }سبأ:25{ حيث وصف نفسه باحتمالية الإجرام حتى يخفف عليه الدخول في الحوار. فنحن نريد حوارًا دون شروط ولا اتهامات، وإنما الحوار لأجل التعايش بالحق والعدل للجميع. وفي الختام أوجه إليكم هذه الكلمة التي وجهها الله سبحانه إلى الجميع حينما قال (تعالوا إلى كلمة سواء) سورة آل عمران – آية 64 ، حيث يقصد بهذه الكلمة دعوة الناس جميعًا إلى أن يكون لديهم السمو الروحي والأخلاقي لتجاوز الأحقاد وكل ما يؤذي الآخر فنحن ندعوكم إلى كلمة سواء تجمعنا وهي ثوابت الفطرة الإنسانية والقيم السامية المعتمدة لدى جميع الأديان . (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) }هود:88{. والله المستعان