حين تحاول أن تجري تحقيقا صحفيا حول ملامح العيد في غزة، ومنذ آخر ليلة في رمضان تتواصل مع الأهالي هناك، في حين لا ينتهي التحقيق؛ هل تعرفون لماذا؟ لأن اللحظة التالية للتواصل مع الأهالي يكون فيها حدث جديد يرسم أجواء أكثر حزنا وأشد ألما، ففي الليلة الأخيرة وقبيل حلول صبيحة يوم الفطر الأول، أكد الأهالي هناك أن الأجواء العامة تتسم بألم الفراق والنزوح، في حين أن المعنويات تناطح السماء نظرا للثقة واليقين بعدالة القضية والنصر الموعود من رب العالمين بإذن الله، كذلك فرغم أجواء الحرب المخيمة حاول البعض رسم ملامح بهجة ولو عابرة بإعداد بعض من الكعك العيد مشاعر العيد تتسرب ولو بالقليل إلى الأطفال. وبعد فجر أول يوم للعيد أكد الأهالي أنهم سيقضون عيدهم في مواساة ذوي الشهداء والنازحين وفي البحث عن الجثامين تحت الركام؛ ولكن ما هي إلا ساعات قليلة إلا وقد تبدل الحال، فالعيد الذي حاول البعض أن يرقبوا أيا من ملامحه اغتالته أيادي الاحتلال الغادرة الآثمة، وصارت تتنقل من مذبحة لأخرى دون مراعاة لحرمة وقت أو لشعائر وعبادات وأحوال إنسانية.
وحتى كتابة تلك الكلمات يصعب حصر كافة جرائم الاحتلال في يومي العيد فقط، ولكن المقاربة مع حديث الأهالي تثبت مشاعر التحدي والصمود رغم الألم والجراح، وهو صمود لا يمنع الحزن والبكاء حين تزكم الأنوف رائحة البارود بدلا من عطر يوم العيد، وحين ينشغل الأطفال والكبار في البحث عن الجثامين من تحت أنقاض البيوت المهدمة، وكذلك حين يركض الأطفال خلف بعضهم ليس لهوا أو مرحا في العيد وإنما خشية أن تصيبهم قذيفة أو صاروخ صهيوني. ولأنه من الصعب حصر كافة أعداد الشهداء والجرائم الصهيونية المتتالية المتتابعة على قطاع غزة في يومين فقط، فيكفي للإشارة عليها القول إنه وفي أول أيام عيد الفطر فقط استشهد 47 فلسطينيا، بما في ذلك شهداء المجزرة التي راح ضحيتها عشرة أشخاص بينهم ثمانية أطفال في غارة صهيونية على متنزه بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، وقد كانت سيارات الإسعاف والسيارات المدنية قد نقلت الأطفال عبارة عن أشلاء ممزقة إلى مستشفى الشفاء. وتتوالى الجرائم والغارات التي استهدفت على سبيل المثال محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، وأيضا مقر قناة الأقصى وإذاعة الأقصى، بخلاف المنازل والمقار الحكومية، وكذلك مجمع دار الشفاء الطبي.
غزة ترقب عيد النصر ليلة العيد كتب "براء الرنتيسي" عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي -فيسبوك- واصفا الوضع لديهم من غزة فقال: "أنقل لكم أحبتي جزءا من صورة ما يحدث الآن استعدادًا للعيد في غزة!!" وأضاف: "في مدارس وكالة الغوث والتي أصبحت مأوى لمئات العائلات التي هجرت من بيوتها بسبب تدميرها على الحدود الشرقيةلغزة، الشباب يقومون بتزين المدارس وقاعات الدراسة "غرف النوم" استعدادًا للعيد، والأمهات تصنع كعك العيد في الممرات، والآباء ينصبون ألعاب الأطفال "المراجيح" في ساحات المدارس لكي يلهوا بها الأطفال، وبعض الحلاقين المتطوعين نقلوا محلاتهم إلى المدارس حيث يقومون بحلاقة شعر الصغير والكبير تزينًا لقدوم العيد، بعض أهل الخير يقومون بتوزيع الملابس الجديدة على الأطفال لكي يشعروا بفرحة العيد !!" وأنهى حديثه قائلا: "ولذلك غزة عيدها ليس كأي عيد!!". في إشارة إلى أن أجواء الفرح تلك، يصنعها أهالي غزة كلون من التحدي والصمود رغم الألم ومرارات الحرب. أما الصحفية من غزة "روان الطهرواي": فقد نقلت بداية صورة لأرجوحة وقالت عنها: "الصورة من بيت حانون جنوب قطاع، هذه اللعبة كانت من المفترض أن تحمل أطفالنا في فرحة؛ لكنهم ذهبوا شهداء"، وبعد عدة ساعات كتبت عن مجموعة أخرى من الصور التي التقطتها بنفسها: "بكيت وأنا ألتقط هذه الصور .. مجموعة أطفال كانوا يلعبون في منتزه وباغتتهم صواريخ الاحتلال واستشهدوا".
ومن جانبه "أبو إبراهيم" من أهالي غزة قال ل"الحرية والعدالة": "العيد أصلًا ليس موجودا إلا في غزة، فغزة اليوم تحتفل بالعيد وهي تحقق انتصارات استراتيجية على هذا المحتل". وأضاف مؤكدا: "نعم.. العيد في غزة؛ فرغم الألم يحتفل الأطفال والنساء والكبار والصغار، حديثهم ذكريات الشهداء، طعامهم الكرامة وشرابهم العزة؛ غزة اليوم تقاتل لتنتصر وعيدها الحقيقي يوم انتصارها، ففي كل شارع وزقاق هناك بيت لشهيد أو منزل مدمر". وعندما طلبت من "أبو إبراهيم" أن يصف لنا أجواء صلاة العيد فاجأنا بقوله: "الحقيقة لم نصلِّ العيد في كثير من المناطق بسبب العدوان المتواصل وترقب القصف في أي وقت، ولكن فقط بعض المساجد صلت على عجل؛ خاصة أن هناك أكثر من 40 مسجدا تم قصفه". وأردف: "أما عن الملابس والحلوى فهي غير موجودة، فقط رائحة البارود في كل مكان، أما عن الأطفال فهم يحاولون اللعب؛ في حين أن الملاهي والملاعب خالية تمامًا، كذلك فهناك أطفال في حالة صدمة، وإن كان يمكننا القول إن كل الأطفال في حالة صدمة على درجات متفاوتة، وبعضهم ذووهم يساعدونهم على الخروج من الصدمة، ولكن بشكل عام هناك خشية وحذر شديد من الخروج من البيوت". وماذا عن بيوت الشهداء قال أبو إبراهيم: "بيوت الشهداء التي ما زالت منازلهم قائمة ولم تهدم فقد أصبحت بيوت استقبال؛ حيث يستقبلون المهنئين وتوزع الحلوى والمشروبات فرحا بارتقاء الشهداء، أما من هُدم بيته، فلا يزال في مناطق الإيواء، في مدارس الأونروا".
ومن جانبه أسعد حمودة -إعلامي من غزة- قال: "لم يتبق من العيد في غزة إلا الاسم؛ ربنا يعوضنا خيرا ويلهمنا الصبر والنصر"، أضاف: "لا توجد احتفالات مطلقا لا زينة ولا حلوى ولا لباس جديد، الكل يعزي ويواسي في أهالي الشهداء والجرحى وأصحاب البيوت المدمرة، وإذا كان هناك من حاول صناعة الكعك أو وضع زينة فربما كان هذا بيت أو حتى عشرات من آلاف البيوت". أردف "حمودة": إننا حين نتحدث عن عيد في غزة نتحدث عنه فقط لنقهر المحتل ونتحداه بابتسامتنا وبإحيائنا لهذه الشعيرة الدينية؛ لكن الواقع مرير، صبيحة أول يوم العيد، فهناك انتشال الآن لسبعة جثث حتى اللحظة شرق خزاعة، وشهداء بقصف قبل ساعتين بجباليا واشتباكات على الحدود حتى اللحظة وقصف مدفعي شرق حي الزيتون".
وقال "حمودة" عن أهالي الشهداء خاصة من الأطفال:"حالهم ألم وحسرة واشتياق، ومرارة للفراق وأمل في النصر واللقاء بجنة السماء، ومن بين الحالات التي رأيتها أثناء تغطيتي الإعلامية في إحدى مستشفيات غزة فهناك امرأة ودعت ابنيها وزوجها، وآخر ودع زوجته تاركة أطفالها الخمسة". وعن مائدة العيد ذكر حمودة "العادة أنها سمك الفسيخ؛ لكن هذا العيد قلما اشترى أحد بسبب الظروف، ويأكلون فقط ما تيسر كيوم عادي وككل يوم، أما الخضراوات واللحوم فلا توجد سوى بشكل شحيح جدا جدا، كما أنها ليست بحالة جيدة في الغالب إن وجدت، والكثير من الطعام ما بين البقوليات والمعلبات والأرز". وفي السياق نفسه رأى محمد عز الدين -أحد الأهالي بغزة- أن: "العيد تجسد في أمر واحد؛ وهو أن كل الشعب يدعو للمقاومة ويساندها من جهة، ويؤازر عائلات الشهداء والجرحى ويساعد الأطفال والعائلات المشردة بما يمتلك من الخير ليرسم بسمة على وجوههم وهم في أماكن لجوئهم". يضيف: "غزة بخير رغم الدم والقتل والهدم لأن الله معها والقسام حامي حماها والله مولاها". وحول وصفه لأماكن اللجوء والحال فيها يقول "عز الدين:"لا طعام ولا أثاث مناسب؛ فهي عبارة عن مدارس لوكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وطعام اللاجئين هناك ما تقدمه حركة حماس وأهل الخير لهؤلاء، أما ملابسهم فهي التي خرجوا بها من بيوتهم؛ فهناك 250 ألف لاجئ خرج من بيته من أصل 2 مليون إلا قليلا، وباختصار فالحقيقة أنه لا عيد لدينا، فعيدنا يوم انتصارنا، وقهر عدونا والمنافقين".
وعن أهالي الشهداء يقول عز الدين: لا تعليق سوى أنهم يريدون من المقاومة أن تثبت على موقفها وألا تتنازل، كذلك فهم يستقبلون التهاني وليس التعازي في أبنائهم هم يستقبلون خبر الاستشهاد بالزغاريد والتكبير، والجميع هنا ينتظر عيد النصر، وبالأمس كانت هناك أم شهيد توزع الحلوى عن ابنها الشهيد، وتقول:"باركوا لي وجدت من يشفع لي عند ربي من أبنائي، وهذه حلوى وزعتها عن روحه، أنا لا أقبل التعازي أنا أقبل التهاني بابني". ومن جانبها تؤكد هدى نعيم -نائب المجلس التشريعي-: "سنعيش ما نستطيع من شعائر ومراسم العيد رغما عن الصهاينة الذين عملوا جاهدين أن يحرموا شعبنا أي فرحة". أما الإعلامي صابر أبو الكاس: فذكر أن "وضع العيد يأتي وهناك آلاف من الأسر في المدارس نازحون، ومن واقع مشاهداتي فالأطفال في أوضاع النزوح تلك يتغلبون بإصرار على كل المرارات؛ فحينما ذهبت إلى إحدى تلك المدارس وعندما رآني الأطفال –كإعلامي- أخذوا في التهليل والتكبير، وأظهروا فرحتهم، فهم تعودوا أن يتجاوزوا كل الجراح". يتابع "أبو الكاس": "هذا مع أنه لا توجد للأطفال بشكل عام لا ملابس جديدة ولا حلوى ولا ألعاب..!! أما عن أوقات العيد فمن المحتمل أن يكون قضاؤها في مواساة أهالي الشهداء والجرحى ومن هدمت بيوتهم، ولكن كل ذلك لا يعني عدم الثبات والصمود؛ فالمعنويات تناطح السماء".