تكشف الوسائل التى تستخدمها السلطة، أى سلطة، فى السيطرة على جمهورها عن طبيعتها ومدى تطورها الاجتماعى. تستخدم السلطات حسب تطورها أيضاً السبل الممكنة للسيطرة والإخضاع، إنها حسب هذه الطبيعة، وطبقاً لكفاءتها تنتقى وتعتمد الوسيلة الأكثر ملاءمة لها والناجعة فى إخضاع الجماهير، وتُوجَز هذه الوسائل فى طريقتين هما إقناع الجماهير أو إكراه الجماهير، والطريقتان تتمان إما باستخدام العقل وإما باستخدام المادة، أى الإقناع من خلال الأفكار والحوار أو الإجبار والفرض باستخدام القوة المادية، لا يخلو الأمر من الاثنتين وغيرهما ولكن لا مناص من سيادة إحداهما وغلبتها وتميزها واعتمادها كسلوك للسلطة ومن ثم الكشف عن بنيتها العقلية والفكرية. الحالة فى الجماعات والمجتمعات لا تختلف فى حقيقتها عنها فى حالة الأفراد والأسرات مثلاً. إنسان هنا هو إنسان هناك، وهو فى أغلبه قابل للخضوع الاجتماعى والمسالمة وقبول السيطرة من أجل الأمن والحلول الجاهزة المقدمة له، ولكن هذه الثنائية «الفكر - الإكراه» تعتمد أيضاً على الجمهور المطلوب إخضاعه ومقدار استقلاله وقوة وجدانه ومدى نضوجه الفكرى وتميز وعيه، ومدى معايشته لحالة الكسل العقلى التى تعوق الأفراد عن التحرى عن حقيقة المجتمع والسلطة التى يحيون فى ظلها ومعرفة ما قد يضر بحياتهم وحرياتهم ومصالحهم ثم مدى استعدادهم للخروج من حالة الخوف التى تمنعهم من المطالبة بما لهم والاحتجاج على ما يدبر لهم. إننى أتحدث عن وعى بالمصلحة وبالحرية، وهى مسألة لا ترتبط بالتعليم على وجه اليقين، وإن كان التعليم يساعد عادة فى زيادة الوعى وتحريكه اللهم إلا إن كان يعلّم الطالب الخضوع فى كل الأحوال وعدم إعمال العقل والطاعة العمياء فى الحق والباطل، مثل هذا التعليم يؤدى وأدى إلى كوارث يمكن ملاحظتها ببساطة. إن دور الواعين أياً كانت درجة تعليمهم هو المساعدة فى كشف حيل ونواحى الاستلاب والاستغلال والقمع، وفى الأوقات التى تصعب فيها ممارسة القوة للإخضاع والإكراه وعندما تفشل وسائل الإقناع العقلى بالأفكار، فقد تُنفذ السلطة أو الجماعة أو الطائفة هدفها بتقديم دعم مالى بأشكال مختلفة، مثلما يفعل أثرياء مناطق ما أو كما يحدث فى الريف أو حتى مؤسسات، كما تكرر ذلك مراراً منذ وقت حكم المجلس العسكرى بعد ثورة يناير وحتى الآن، أو كما كانت تفعل جماعات الإخوان والسلفيين فى المناطق الشعبية الفقيرة والقرى، هذه إحدى وسائل الإخضاع وضمان الولاء وعدم المقاومة «اطعم الفم تستحى العين»، الرغبة فى السيطرة لا يعلن عنها مباشرة ولا يحدد الهدف هنا صراحة بل يختفى تحت شعار وستار عمل الخير، ولكن الهدف والنتيجة واحدة.. الإخضاع. وأذكر أن إحدى المؤسسات العالمية ذهبت لدعم فقراء إحدى المناطق التى يسيطر عليها السلفيون بمنحهم آلات يعملون عليها ويسترزقون منها، فتصدى لهم السلفيون بشدة ومنعوهم من تقديم رحمة ربنا، ومن عمل الخير الذى يدعونه، وما فعلوا هم ذلك إلا ليقينهم أن هذا يسحب المواطنين الفقراء من بساطهم ومن تبعيتهم، خاصة أن الآلات قد تغنيهم عنهم، إن الدعم المادى المقدم للفقراء المرتبط بإخضاعهم وعدم حل مشاكلهم هو إكراه مادى وإن لم يستخدم الشكل المباشر للقوة المادية، إنه لا يندرج تحت بند الإقناع وإنما الإكراه، لأنه يبطل عمل العقل برشوته أو شرائه لإخضاعه، وهذا يبطل الفعل المنطقى الذى قد ينجم من عمل العقل الذى تم إيقافه لتحقيق السيطرة والاستلاب، هل يتصرف العقل بإرادة حرة وخالصة بعد هذا التبادل الخسيس والنفعى كما يفعل مرشحو البرلمان الأنانيون الوصوليون مثلاً؟ مطلوب خضوعهم وسكوتهم وحاضرهم ومستقبلهم مقابل هبات هى أصلاً من حقوقهم لو أنصفنا.