كنت أتصور أن هناك ما يُسمى التربية السلطوية فى العالم العربى، وهى تربية تقوم على السلطة الأبوية والمدرسية وتلغى خيارات الأبناء، وتعطى قيمة عليا للطاعة والانقياد، بينما تستنكف التفكير والإبداع والتجديد، وتجعل أقوال الآباء والأجداد مقدسة، بينما أفكار الأبناء والمعاصرين مدنّسة. إلى أن حضرت اجتماعاً لبحث ملف التعليم، وما المطلوب فيه بعد قيام الثورة المصرية فى 25 يناير وحضر الاجتماع خمسة عشر خبيراً وخبيرة فى المجالات النفسية والتعليمية، كلهم من المصريين، إضافة إلى السيدة ليسلى وايتننج (خبيرة تعليم إنجليزية) والسيدة ديدى (خبيرة تعليم روسية)، وتطرق النقاش إلى جذور فكرة التعليم السلطوى ومظاهره وتداعياته. وهذا يعود إلى 1800 ميلادية وما بعدها فى بروسيا، حسب ما رصده «JOHN GATTO» الكاتب وخبير التعليم، الذى رأى أنه بعد الهزيمة المهينة لجيش إمبراطورية بروسيا على أيدى جيوش نابليون، اجتمع جنرالات الجيش لمعرفة سبب الهزيمة، فكان تفسيرهم أن الجنود كانوا يفكرون لأنفسهم أكثر من اللازم وكانوا لا يطيعون الأوامر، لذلك قرر علماء التربية والسلوك، بتوجيه من الخبراء العسكريين، تصميم منظومة تعليمية تهتم بغرس المعلومات المطلوبة، وتنشئة مواطنين ملتزمين بالطاعة للسلطة السياسية، ليكونوا فيما بعد جنوداً مطيعين فى الجيش الإمبراطورى. وكانت الدراسة عبارة عن موضوعات متقطعة ومجزأة تعطى فى صورة حصص يقطعها جرس المدرسة كل ساعة، وكانت المكافآت تُعطى للحفظ، ويتعوّد الطالب على الخضوع لسلطة المدرس والناظر وإدارة المدرسة (كما كان يخضع لسلطة الأبوين من قبل)، وبهذا يمكن تحويله إلى مواطن ذلول تتشكل اتجاهاته وقناعاته بواسطة سلطة الدولة ووسائل الدعاية الموجّهة. وانتقلت هذه السياسة فى التعليم إلى بريطانياوالولاياتالمتحدةالأمريكية بواسطة العلماء السلوكيين الألمان، الذين شكلت أفكارهم جذوراً لمعهد «تافيستوك» (TAVISTOCK) التعليمى فى لندن، الذى تفرّع منه «معهد هندسة المجتمع» (SOCIAL ENGINEERING INSTITUTE). وأصبح معهد «تافيستوك» مسئولاً عن تصنيع الرأى العام وتشكيل الوعى لقبول الأنظمة واللوائح والممارسات، وذلك من خلال وسائل غسيل مخ جماعية، والتحكم فى النشاط العقلى، والبرمجة الاجتماعية، والسيطرة على المجموعات من خلال إحداث حالة من الرعب يسهل على الناس فيها قبول الأفكار المطلوبة. ولهذا المعهد المذكور تأثير هائل فى الولاياتالمتحدة، حيث تسرّبت أفكاره ووجدت أرضاً خصبة من خلال معاهد ومراكز أبحاث شهيرة مثل «كارنيجى» و«روكفلر» و«ستانفورد» و«مورجان»، ولم تكن تلك المعاهد الأمريكية معنية بالجانب العسكرى بقدر ما كانت معنية بزيادة الإنتاج وتكوين الثروات طبقاً لمفاهيم النظرية الرأسمالية الغربية، ووسيلتها لذلك مواطنون مطيعون وملتزمون بتعليمات الإدارة التزاماً حرفياً، ولا مانع من توفير بعض السعادة لهم من خلال الرفاهية المادية وأنماط الحياة الاستهلاكية والترفيهية. وهكذا أصبحت تلك المعاهد هى البوابة الخلفية لتصنيع المقررات الدراسية فى كثير من دول العالم، وهى ترسّخ لوجود نخبة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تحرك الجماهير (المستعبدة فى سعادة أو فى قهر) لتبقى هذه الفجوة بين السيد والعبد فى أشكال عصرية. والنتيجة فى النهاية هى إنتاج «مواطنين صالحين» (بالمعنى السياسى الانتهازى للكلمة) لا يملكون إلا الطاعة والاستجابة لأوامر النخبة، وهم قابلون للإيحاء والاستهواء والاستلاب تحت تأثير آلات الدعاية الإعلامية السلطوية، وهم غير قادرين على التفكير الحر المبدع بعد أن ملأت الآلة التعليمية رؤوسهم بمعلومات وتعليمات محددة تقلص من طموحاتهم وتطلعاتهم، وهم فارغون تماماً من المعانى الكلية على المستوى الأسرى والاجتماعى والإنسانى والأخلاقى والدينى والروحى، هم فقط آلات إنتاجية أو أصوات انتخابية أو كائنات استهلاكية. وأخيراً من فضلك راجع السياسة التعليمية فى مصر والعالم العربى ثم أعد قراءة الموضوع من بدايته.