"النواب" يوافق على طلب المجلس القومي لحقوق الإنسان بالحصول على منحة بالصحة الإنجابية    «النواب» يوافق على طلب «القومي لحقوق الإنسان» بشأن منحة الصحة الإنجابية    منسق الأمم المتحدة في القاهرة: مصر من أكثر الدول تأثرا بالأحداث الإقليمية    تباين مؤشرات البورصة في ختام تعاملات الإثنين    وزير خارجية اليونان: وساطة مصر مهمة للغاية.. ويجب الوصول لحل الدولتين    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    إحصائية .. الأهلي لا يعرف الخسارة من الترجي في مصر    رسميا.. غياب إيدرسون عن كوبا أمريكا    إجراءات عاجلة من السكة الحديد بشأن حركة القطارات مع ارتفاع الحرارة    استفسارات المواطنين حول مواعيد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    بعد تحسن حالتهم.. خروج 8 مصابين في حادث «الأتوبيس الطائش» بدائري بهتيم    تأجيل محاكمة المتهم بالشروع فى قتل زوجته ونجله بالتجمع ل 18 أغسطس    كواليس جلسة معارضة المتسبب فى وفاة الفنان أشرف عبد الغفور    ضبط 4 متهمين بتجميع خام الذهب الناتج عن تنقيب غير مشروع بأسوان    حسن الرداد يحيي ذكرى الفنان الراحل سمير غانم.. «اللهم ارحمه واغفر له»    حصريًا على dmc.. موعد عرض مسلسل "الوصفة السحرية"    مهرجان المسرح المصري ينظم 5 ورش فنية ضمن فعاليات دورته ال17    «النواب» يحيل مشروع قانون جديد للتأمين الصحي الشامل إلى لجنة مختصة    تغلب على حرارة الجو الشديدة بالبطيخ والكنتالوب.. واحذر اللحوم المصنعة والمخللات    تظاهرة للمركبات في شارع أيلون بتل أبيب تطالب بصفقة تبادل الأسرى فورًا    تشافي ولابورتا.. تأجيل الاجتماع الحاسم في برشلونة    سلمى أبو ضيف تنشر جلسة تصوير لها بفرنسا.. ومنى زكي تعلق (صور)    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    وكر عمليات الإجهاض.. تأجيل محاكمة طبيب نساء وتوليد وآخرين بالجيزة    إطلاق أول استراتيجية عربية موحدة للأمن السيبراني الشهر المقبل    5 نصائح هامة للأمهات الحوامل للتغلب على حرارة الطقس    7 تعديلات مرتقبة في قانون مزاولة مهنة الصيدلة.. أبرزها رسوم الترخيص والورثة    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    نائب رئيس نادى السيارات: مسيرات للدراجات النارية ومسابقات سيارات بالعلمين أغسطس 2024    طلب إحاطة بشأن تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    رئيس النواب: التزام المرافق العامة بشأن المنشآت الصحية لا يحتاج مشروع قانون    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    إكسترا نيوز تعرض تقريرا عن محمد مخبر المكلف بمهام الرئيس الإيرانى.. فيديو    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    ضبط المتهمين بسرقة خزينة من مخزن في أبو النمرس    محافظ أسيوط: التدريب العملي يُصقل مهارات الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل    تطوير المزلقانات على طول شبكة السكك الحديدية.. فيديو    براتب خيالي.. جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    مجلس النواب يستكمل مناقشة قانون إدارة المنشآت الصحية    22 مايو.. المؤتمر السنوي الثالث لطلاب الدراسات العليا فى مجال العلوم التطبيقية ببنها    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    وزير الري أمام المنتدى المياه بإندونيسيا: مصر تواجه عجزًا مائيًّا يبلغ 55% من احتياجاتها    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    معرض لتوزيع الملابس الجديدة مجانًا بقرى يوسف الصديق بالفيوم    بعد وصولها لمروحية الرئيس الإيراني.. ما هي مواصفات المسيرة التركية أقينجي؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    معين الشعباني: تسديداتنا أمام الزمالك لم تكن خطيرة.. ولاعب الأبيض قدم مباراة رائعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [3]
نشر في الوطن يوم 21 - 09 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند.
ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتصنيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
دنو
فيما تلى ذلك شك فيما عنده.
هل جرى ذلك أم شبه له؟ باستطاعته أن يستفسر من المرافق أو الطبيب المصرى عضو فريق الجراحة، كأنه يؤثر بقاء الأمر موضع الشك بمنأى عن الحسم واليقين، عندما استدار به الممرض وعبر بالسرير المتحرك إلى داخل غرفة العمليات التى طالما توقعها، فكر فيها، تطلع إلى اتجاهها، اقترب وابتعد عنها أثناء حركته فى المبنى وتنقله بين الأقسام ومعامل الاختبار وآلات التصوير وأنابيب حفظ العينات، ها هو يدخلها واعياً، منتبهاً، رائياً كل ما يحيطه، كافة ما يمكن لبصره أن يدركه، ما حيره فيما بعد ذلك الهدوء، تلك الحيادية، هدوء غريب رغم أنه لم يتناول أى قرص أو سائل إلا إذا كان طبيب التخدير حقنه بشىء ما أثناء توصيله الأوردة والشرايين بجهاز التنفس، إذن هو فى صميم الحجرة التى طالما طاف حولها وتخيلها منذ المرة الأولى، مستلق تماماً على ظهره، موثق، متصل بأنابيب وأسلاك تسرى عبرها الأوردة والشرايين.
لا يعرف متى بالضبط، لكنه ذلك الحين الفاصل بين الوعى وانعدامه، بين الحضور والغياب، ما موقع التوقيت الذى شعر خلاله بها، باقترابها، بانحنائها عليه، دنوها من أذنه اليسرى، ملامستها لمعصمه.
أهى موفدة؟ مكلفة؟ جزء من التمهيد لدخول السبات الأعمق؟ أم إنها بادرة منها؟ ربما رأت عنده ما لم تشارفه فى الآخرين؟ لكن.. كيف تواجدت فى العمليات؟ كيف بلغت هذا الحيز؟ أهى من فريق الجراحة؟ لا يمكنه القطع لأنه لم يرَ الكل، لا يعرف منهم إلا الجرَّاح لأنه التقاه أمس فى المكتب، أيضاً رئيس قسم التخدير الذى جاء بسعى حثيث من أستاذه، مصرى الأصل المتقاعد حالياً. كذلك الطبيب الشاب المصرى أيضاً، جاءه فى غرفة العناية، وقال إن اسمه تامر، نسى الثانى، عبثاً حاول تذكره، ما عدا هؤلاء لم يقع بصره عليهم.
من هى؟ من أين وإلى أين؟ تبدو حنونة، رهيفة، ضماد من أنوثة، وقطر من نعومة، فجأة قوى حضورها إلى جواره، انحناءتها باتجاهه، مسكة يدها لمعصمه لا تزال رغم تراجع الأيام، تواليها وابتعادها، مطلع حديثها المهموس بدرجة صوت لم يعرفها من قبل، همس لكنه بالغ الوضوح، قولها بخشية ومصارحة وحنان.
«بالتأكيد ما نقبل عليه شىء مخيف..» ثم قالت «لكن ما من بديل آخر». أثناء دفعه محمولاً صوب العمليات سأله أحدهم أثناء الحركة وكان ممسكاً بدفتر عما إذا كان يحتاج إلى رجل دين.
أومأ شاكراً.. لم يحدث ذلك أول مرة، كاد يسفر عن ابتسامة عندما تذكر عمليات الإعدام، بحضور رجل دين، قبل يوم سأله أحدهم أثناء استجواب طويل عما إذا كان لديه مانع دينى أو عقائدى بخصوص نقل الدم؟
ليس لديه
هل تنتمى إلى أولئك الذين تعاقبوا عليه؟ هل أبصرت فيه أمراً؟ هل وفدت من جهة لا يعرفها؟ هل رآها بمفرده؟ قبل ميلها إليه كان يمر بلحظة غريبة يتعجل خلالها المضى إلى العدم، كان يتمنى انقضاء هذا كله، توارى الموجودات، بما فيها الأجهزة المعقدة التى تمنى الاطلاع عليها، صوتها المغداق بدل حاله، لم يصغِ إلى مثيل له، لا يحتفظ بإيقاع يقربه من أصل طال نسيانه، نابع منها، متجه صوبه، لم تستغرق إلا ثوانى، تحدثت بإنجليزية واضحة، يتذكر معانيها بالعربية، رغم همسها فإنها لغت ما عداه، إذ يغمض عينيه يوشك أن يقف على ملامحها بِطلتها الجانبية، أمومية النسب، كأنها تنطق الآن فيسرى إليه ما كان منها عند التأهب.
شَرَقْ
قال كبير الممرضين إن احتمال الخروج كبير اليوم، إنه يتوقع مكالمة من الطبيب المشرف على المتابعة بعد الجراحة، عندئذ يبدأ الإجراءات.
يصغى صامتاً، لا فائدة من النقاش هنا، ما يتقرر ينبع من النظام المتبع، قال كبير الممرضين إن جهوداً كبيرة بذلت لاختصار الإقامة، والسبب وجود أنواع من البكتريا تهدد صحة المرضى، خاصة أن أجهزة المناعة ينالها الضعف بعد الجراحات لفقدان الأجسام كميات من البروتين.
منذ أربعة عشر عاماً، خلال الجراحة الأولى كان الوضع مغايراً، أمور كثيرة تبدلت، إنه يشعر بالأمان هنا، ثمة متابعة دقيقة على مدار الليل والنهار، قلبه متصل بأجهزة عديدة، الشاشات معلقة هنا فوقه وفى غرف المراقبة الأخرى، فى الفندق سينتهى الالتزام الدائم، إذا جرى أمر مفاجئ سيضطر إلى الاتصال بالطوارئ، ترتيب آخر وإجراءات لا يعرفها، ما زال فى المرحلة الدقيقة التى تقتضى مراقبة، لكنه لا يتوقع إقناعهم بالمجادلة، لهم تقدير وليس عليه إلا الامتثال.
عندما وصلت زوجته وابنته، قال لهما إنه يتوقع الخروج لكن فى أى ساعة؟ لا يدرى، قالت ابنته: إن هذا أفضل، أومأت زوجته مؤمنة، فى تمام الواحدة جاء كبير الممرضين ومعه ملف يحتوى على أوراق عديدة بعضها من صورتين، اقتضى الأمر توقيعات عديدة استغرقت وقتاً، استبدل الرداء المفتوح من الخلف، نفس الألوان، النقوش الصغيرة التى يذكرها جيداً، لاحظ أن التصميم نفسه للرجال والنساء، فقط اللون، الأزرق للرجال، الأخضر للنساء.
وقعت بالعربية فى المواضع التى أشار إليها، استفسرت عن أنواع الأدوية التى تضمنتها القائمة، سيتم صرفها من الصيدلية التابعة، نفس النظام الذى عاينه فى المرة الأولى غير أن المبنى تغير، فى عام أربعة وتسعين كان أشبه بدكان صغير، الآن من طابقين، منفصل، يضم عدة ممرات للوقوف، الانتظار، لا يتم الاستلام فى الحال، قالت الابنة إنها ستقوم بعد وصوله إلى الفندق بصرف الدواء حتى يبدأ تناوله من اليوم.
يجلس الآن مرتدياً ما خرج به ذلك الفجر، ثمة نغم يفد إليه من حيث لا يمكنه التعيين، رغم وجود رفيقة عمره وابنته، غير أن وحدة تلم به، كأنه تُرك فرداً فى زاوية مقصاة عن طريق قديم، يمر به الخلق، لا يرونه ولا يحاورهم، لا ينزع نحو أى منهم، قوة غير مرئية تضغطه، تبقيه هناك تحت، حتى لو انتصب قواماً وتأهب.
ينتظرون فى القاعة المخصصة للزوار عند بداية الممر المؤدى إلى الغرف المعدة، هنا المرحلة التالية لغرفة العناية والثانية بعد العمليات، إنه بعيد، عن ماذا؟، لا يدرى، لا يعرف، عن شىء ما داخله، لزمه طويلاً تماماً كما لا يقدر على توصيف هذا النغم أو تحديد منشئه، جديد عليه، غير مكتمل، مار بسرعة، لا يمكن التحديد، هو كله، عينه، نفسه، فى موضع ما لا يحده حد ولا تؤدى إليه جهة، ولا تشير إليه علامة، رغم مثول كافة الشواهد، جلسته فوق المقعد مغايرة، ورود القديم عليه، الموجودات ألوانها أكثر تحديداً، رغم أنه لا يتوقف عندها، يتجاوزها إلى ما بعدها.
إلى متى الانتظار؟
لا بد من الالتزام بالتعليمات، لا يمكن المغادرة، القواعد صارمة حتى لا تحدث عواقب أو أحداث يترتب عليها مخالفات أو إجراءات قانونية يتحمل نتائجها المستشفى، أخيراً يجىء رجل أفريقى صميم، طويل القامة، يدفع مقعداً متحركاً، أومأ محيياً، يقوم متمهلاً، يصافحه، يجلس، الرجل ينحنى ليحكم رباطاً عريضاً يحيط بالصدر الذى ما زال يبث الألم، هذا لم يعرفه فى المقاعد الأخرى التى اضطر إلى الجلوس فوقها، يبدأ التحرك مدفوعاً صوب المصعد المستطيل الذى يمكنه استيعاب سرير متحرك، إن فنِّيَّة النقل هنا تخصص دقيق، خاصة فى مراحل ما بعد إجراء العمليات، حيث تبدو بعض الأسرة كأنها غرف عمليات متحركة، تحيط به زوجته، ابنته، يتبادل معهما النظر، إنه الصمت الذى يسود غالباً فى حضور الغرباء، رغم أن حديثهم لن يكون مفهوماً للرجل وللآخرين، إنه أميل إلى حد الكفّ عن النطق، أقرب إلى الصمت، إلى لزومه، طلَّاته بديل عن النطق.
الطابق الأول، رغم أنه يعود إليه بعد خطوه فجراً، تسجيل اسمه فى المكتب رقم خمسة، وبدء الإجراءات المؤدية إلى الغرفة القصيّة، التى لا يمكن بلوغها إلا للمعنىّ أمرُه، يرجع إلى المدخل الفسيح شاهق الواجهة، رغم أنه يعرف التفاصيل، يكاد يحفظ مواقع الأشياء لكنه يرى الموجودات أول مرة قادم من اللاأين إلى ما لا يعرف.
يدفعه الرجل إلى حاجز زجاجى يقع فى مواجهة المدخل الزجاجى، الواجهة الشاهقة، لأول مرة ينتبه إليه، خلفه صالة فسيحة بداخلها عدة مرضى فوق مقاعد متحركة ينتظر كل منهم الدفع إلى موضع ما، لا يعرف إلى داخل المبنى أم إلى خارجه، يتجه الرجل إلى الموظف الجالس وراء المكتب الوحيد، يقدم إليه الأوراق، لا يطول الحوار، على أثره يتجه مباشرة إليه، يقول شيئاً لم يلتقطه جيداً، يبدأ تحريك المقعد فى اتجاه الباب، يدفعه، إذن.. ثمة مساء آخر، لا صِلة له بهذا الانتظار، يعود إلى المدخل الرئيسى، تلحق به زوجته وابنته، تقفان بالقرب منه، بين الحين والحين تلمسه الابنة، مرة التفت إليها، تشير إليه مبتسمة، مشجعة، لسبب ما يغيب النطق عنهم، ربما لملامحه بادية الاستغراق، ربما لجهلهم الإلمام بالخطوات التالية، أى وسيلة سيعودون بها إلى الفندق؟
كيفية الترتيب
الرجل يحرك المقعد حتى يلامس ظهره الجدار المصقول، ما بين مكتب الاستعلامات، والمدخل المؤدى إلى ساحة الانتظار، التى دخلها خطأ وخرج منها بسرعة بعد أن ألمّ بما تحويه، لحظة ممتدة، فارقة، ما بين مغادرته السرير، ارتدائه الملابس التى جاء بها فجراً، إنها العودة، لكن.. إلى أى الأشياء؟ لا يدرى كل ما يراه يعرفه، ألمّ به، الجدران، الزجاج، المكاتب، الممرضات، الأطباء، المتخصصون فى نقل المرضى، المعدات، الأنابيب المتصلة، المقاعد الأنيقة، المسرح الصغير المعد لعزف الموسيقى فى أوقات محددة، مدخل معد، كل ما يحتوى عليه هدفه التمويه على ما يخفى المبنى داخله من وسائل كشف، تشخيص، علاج، جراحات، تلك الغرف المغلقة التى تلى الممرات الطويلة، والحجرات الحاوية للمعدات الرقمية وأجهزة الأشعة التى يجب حفظها فى درجات حرارة منخفضة، الحركة الخاصة لبعض ذوى التخصصات الدقيقة، المقاعد، الثابت منها والمتحرك، الأرائك، المكاتب، الحواسب، كل ما يحيط به، يراه الآن، من أين؟ إلى أين؟ ما جوهر هذا الترتيب؟ يستعيد اللحيظات الفاصلة، عندما أمسكت تلك السيدة فى غرفة العمليات بيده وهمست له بما حيّره، هل بادرت لسبب ما منبعث منه، شىء ما لاح لها منه؟ أم أنه جزء من وظيفتها، هى من قالت له إن النوم العميق سيبدأ بعد ثوانٍ، وإن ما سيجرى شىء مخيف، لكن لا بديل له، لا يعرف ما قبل وما بعد، ذلك العبور من خلال حد لا يمكن تعيينه، كان موقناً أنه سيمضى إلى حيث لا رجعة، كل الشواهد كانت تؤكد ذلك، لكنه منذ أن فتح عينيه فى ذلك الليل، على تلك البقعة من الضوء، على حيرته وهو طريح على ظهره حتى رؤيته أول وجه إنسانى، كل ما لديه استفسارات مبهمة بدون أسئلة محددة وبالطبع لا أجوبة.
يحدق البصر متجاوزاً الواجهة الزجاجية إلى الخارج، فى المواجهة نافورة المياه الدائرية الضخمة المصاغة ببراعة شديدة تخفى ما يحدد الماء، لم تكف زوجته تأملها خلال مراحل الفحص الأولى عند المرور بها أو النظر إليها من أعلى المبنى الجديد الذى لم يكن له وجود فى حلوله الأول بالمستشفى منذ أربعة عشر عاماً، ما أسرع انقضاء الوقت المقبل، مرور الزمن المحدد لصلاحية الأجزاء المستبدلة فى صميم قلبه وداخله، لا يدرى ماذا سيحدث عندئذ؟ المهم أن ينتبه، أن يعى منحه فرصة جديدة للسعى، ألا يبدد ما وهب له.
الرجل ينتظر قدوم مركبة سوف تقله إلى الفندق، يبدو أن ذلك سوف يستغرق وقتاً، هنا لكلٍّ وظيفته، مهمته، ثمة ما يبدأ منه، تضييق حدقتيه، تلامس شفتيه، زمهما، ما من سبب يفسر له انبثاق ذلك الدمع، انحدار القطر على وجنتيه، كفه عن أى محاولة لوقفه أو مسحه، أو التمويه على تدفقه، لا ينتبه إلى ما يحيطه، لا يعبأ، لا يصغى إلى ابنته التى بدا فزعها فى نطقها.
«الحقى يا ماما.. بابا بيعيط».
شَرَق وجوده بالدمع مجهول السبب والمقصد، حتى بعد أن بدأ الرجل دفع المقعد متمهلاً فى اتجاه المخرج والعربة المجهزة لاستقباله ونقله بينما الضوء الطبيعى يغمره، كذا الهواء وسعى الناس، ومجمل الأصوات، كل ما أسبغ عليه لا يزيده إلا شَرَقاً.
شىء
ثمة شىء..
لم يستوثق منه بعد، لكنه ماثل، موجود، كل شىء يخفى شيئاً. ربما يدركه وقد يكتمل وقته وما زال فى طور التخمين، لكنه هذه المرة واعٍ لهذا السريان وتلك الفروق وذلك التدفق الهادئ، الخفى، الذى يصير إلى هناك، إلى حيث يوقن بوجود شىء.
يردد دائماً على مسمع من معارفه ويستعيد ما نطقه متفحصاً قبل نومه، أو فى أويقات التأمل التى يمضيها عند النهر، أو خلال مدد المشى المقررة يومياً والتى يحاول الالتزام بها قدر الإمكان، يقول إن المصريين القدماء أدركوا منزلة القلب منذ زمن يصعب تحديده، عند التحنيط يتم إخلاء الجسد من كل الأعضاء، حتى المخ يتم تذويبه بآلات نحيلة مثل المسمار تحوله إلى سائل يشفَط إلى الخارج، عضو واحد فقط يبقى، إنه القلب، هل عرفوا ما أدركه العلم الحديث أنه مستقل العصب، لا يتلقى بل يرسل، إنه مستَقَر المشاعر ومصدرها، لماذا هو فقط؟ لا أحد يعرف ما أدركه أولئك المقيمون فى المعابد طاوين الحكمة والأسرار، بماذا يفسر وجود لوحة توضح الحيوانات المنوية للذكر فى مقصورة أوزير داخل معبد أبيدوس؟ بأى آلة رصدوها؟ بأى مجهر نفذوا إلى صميم السائل الذى لا يفصح للرائى بما يحوى، نطفة الحياة، للقلب مستَقَر مكنون، محفوف بغشاء وسوائل وفراغات وأحجبة بعضها حاجز واليسير منها مؤدٍّ، خلال الجراحتين فارق مرقده، ليس هذا فقط، إنما شقه الجراح ليصل أول مرة إلى الصمام الميترالى، وفى الثانية ليستأصل الصمامين الأساسيين الأورطى والميترالى، ليقصهما، ليفصلهما ويضع بدلاً منهما اثنين من أنسجة الحيوانات، قسم من صميمه أُقصِى عنه، لم يقع هذا فى المرة الأولى، يثق أن أموراً تغيرت، أولاً بفراقه لمرقده، ولعودته منقوصاً مزوداً بجسمين غريبين عنه وعن سائر التكوين، ثمة شىء جرى، غادره، ثمة ما استجد عليه.
ماذا تفرّق بعيداً عنه مع خروج هذا العضو المكنون الذى لم يجترئ عليه أحد، ماذا أضيف إليه مع دخول هذا الجزء المخلّق، الحاوى لأنسجة حيوان يجهله ومواد أخرى لا يعرفها؟
لا يدرى، لكنه يرقب، يصغى لعله يعرف، ولو بقدر ما، منذ أربعة عشر عاماً جرى بعد الإفاقة ما انتبه إليه، اضطراب خفقات قلبه، كأنه يأبى المضىّ قدماً، فينثنى إلى الوراء لكنه سرعان ما ينتظم، قال طبيبه فى مصر إن ذلك سوف يستمر حوالى ستة شهور، يحتاج القلب وقتاً حتى يستقر، إن ما جرى له ليس بالهيّن، قبل سفره الأخير وبدء تقلبه بين الأطباء حتى اتخاذ القرار النهائى ذلك العصر وتوقيعه المعاهدة، الوثيقة، لا يعرف ما مضمونها حتى الآن، فيما بعد، فيما بعد، يعرف أن الإدارة تتحوّط من القضايا التى يرفعها المرضى للحصول على تعويضات قد تصل فى بعض الحالات إلى ملايين، ماذا يعنيه من التفاصيل إذا كان مقبلاً على مواجهة الكليات؟
عندما رأى ضوء الضوء فى مواجهته أغمض عينيه مرة أخرى قبل أن يفتحهما واعياً بأخطر مراحل الوقت، يعرف أن الساعات التالية للإفاقة حرجة جداً، تغير الوضع، لم يعد المريض يقضى أربعاً وعشرين ساعة مغيّباً، كانوا يحتاطون لأى مضاعفات، عندئذ يعودون به إلى حجرة العمليات، الآن اختُصرت المدة، فقط ساعتان بعد انتهاء الجراحة، بخلفية التجربة الأولى ظنه اليوم التالى، لكن عندما استفسر مع سريان حركة بدء اليوم وقيل له إنه الخميس، عرف أن ما مضى ليلة واحدة لا غير، لم يكن متأكداً من ملامح الوقت.
ربما من بواكير ما حيّره، ما طرأ عليه، ذلك الإدراك المقترن بالدهشة والتساؤل، ما جعله يتوقف عن الاستفسار الداخلى الذى لم ينطقه لأحد المحيطين به، لقد وعى انزلاقه إلى العدم، تماسّه مع الضفاف غير المرئية، دائماً كان يستفسر: كيف ستكون اللحظة الفاصلة، الواصلة؟ أىّ صورة ستلوح فى بيان وعيه؟ أى فكرة؟ عرف هذا كله، عاناه وخبره متجهاً إلى اللاوجود، فهل يعود ليمثل مرة أخرى، ألم يفرغ؟
ما حيّره وجعله يشك فيما عنده، أنه بعد الإفاقة لم يقارب فكرة جديدة خارقة ولم تتجسد له حقيقة من الملموس المعاين، ما شغله أمر تافه جداً، شىء متعلق بتفاصيل تخص عمله رغم أنه لم يكفّ فيما سبق دخوله العمليات عن استدعاء المشمولات، والحومان حول حركة الفلك، غير أن ما يشغله الآن بدأ بعد حوالى شهرين، وربما بعد عودته إلى موطنه وتمضيته الساعات الطوال منفرداً وإعماله النظر فيما يخصه، ما يتعلق به، ما يطرأ عليه، أصعب الأمور أن يرقب المرء نفسه، أن يتفحص حاله، أيقن من وجود شىء.. شىء يتخفى وراء شىء، ما يعنيه الرؤية والقدرة على النفاذ، سواء عبر ما يلوح له، ما يدركه بالبصر والبصيرة، أو ما يَكَلّ عن انبعاث مشارفه، المؤكد وجود شىء داخله، حوله، فوقه، تحته، هنا وهناك، شىء، شىء مستعصٍ عليه تماماً.
رؤى
لم يستطع القول بأنها أحلام
لم تكن أحلاماً بالضبط، لذلك عندما يستعيدها أو يتمثلها، يصفها بأنها رؤى، وإن بقى غير مستوثق أو متمكن، فما شاهده غريب، بالتأكيد لم يعهده من قبل، رغم هذا لم تواته أى رغبة فى الإفضاء بما خبر إلى أحد الأطباء الذين تعامل معهم، سواء مَن باشره بحكم موقعه، خاصة ذلك اللبنانى الذى تعرف عليه وبذل الجهد لمعاونته وبث الراحة إلى نفسه، كان يتحدث العربية وكأنه قادم من الجنوب الذى ولد وعاش به، أيضاً صاحبه عالم التخدير المصرى الذى تقاعد من الخدمة، لم يُطلع زوجته أيضاً.
منذ الليلة الأولى أفردوا له الغرفة ذات السريرين حتى لا يزعجه أحد، ابنه سافر بعد الظهر، بقيت ابنته وزوجته، بعد الإفطار الرمضانى أدارتا جهاز التليفزيون الذى كان يضم عدة محطات عربية، منها الفضائية المصرية، أغلقتا الباب الفاصل وخفضتا الصوت إلى أدنى حد، تعرفان حساسيته وقلقلة هجوعه وأيضاً كوابيسه، لكن ما لم يتوقعه تلك الرؤى.
سرير المستشفى كان مهيأً، مجهزاً لاستيعاب حركته، فقط ما يحتاج إليه ضغط الأزرار، بدقة، مجرد لمسها، خفف هذا عنه ضيقه بنومه على ظهره، الوضع الأمثل أن يتمدد على جانبه الأيمن ويده تحت دماغه، بالطبع الوسادة ضرورية، سرير الفندق وثير، لذلك لم يتوافق مع اضطراره التمدد على ظهره، حاول الميل جهة اليمين، لكن اندلاع الآلام حال دونه، القفص الصدرى المفتوح للمرة الثانية لم يلتئم بعد، يحتاج إلى ستة أسابيع، خلالها يجب أن يحذر حمل ما يتجاوز وزنه عشرة كيلوجرامات، محدقاً إلى السقف، غفا، لا يعرف التوقيت الذى استيقظ فيه، يوقن أنه لم يكن نائماً، ما أثار انتباهه شق الضوء الذى يحدد إطار الباب، قادم من الخارج، يعى سهر زوجته وابنته، الفندق هادئ، بارد، محايد، مثير للاكتئاب، أكثر الأماكن ألفة داخل الغرف، لكن.. الباب يبدو من خلال إطار النور المتسرب أكبر حجماً، لكن الأغرب أن الإطار يمتد إلى أعلى ثم ينخفض بدون أن يفقد جزءاً من مساحته، كأنه مواجه بإعلان غامض، يحاول مناداة زوجته لكن شفتيه تظلان مطبقتين، لا يمكنه تحريكهما.
إنه يعى ملامح ذلك الرجل مرتدى القبعة، يتمدد، بموازاته، لكنه يكاد يكون ملتصقاً بالحائط، بكامل ملابسه، حُلة سفارى ذات أربعة جيوب، قبعة لا يعرف حتى الآن كيف احتفظت بوضعها مستقيماً كأنه يراها من أعلى، غير متأثرة بالضجعة، لم يتوقف عند النظرة الثابتة، المتطلعة إليه بانتظام، إنما ما أثاره إلى حد الخشية والتوجس الخفى درجات الألوان، خبرته بدرجاتها قديمة، ليس لأنه درس وأتقن صباغة الصوف والقطن، وإنما لكونها شاغله منذ زمن قديم، أطيافها وتوهجاتها وإرسالها، كذلك تلقيها.
الأحمر لون الصديرى لم يعرفه من قبل، يتقن أكثر من مائتى درجة للأحمر دم الغزال، ومثلها للشفقى، وأكثر من ذلك للياقوتى، لكنه لم يعرف مثل هذه الحمرة، بل إن عينى الرجل كأنهما صبغتا من زجاج، ومع ذلك تترجرجان بالحياة وتفيضان بالمعانى الغامضة، عندما أرهقه وضع الرجل وتجسده التام، شرع فى الصراخ حتى ينبه آله إلى ما يحدق به، غير أن صوتاً لم يخرج، حتى الأنين الذى يصدره عن أنفه لم يَلُح، أما الوثاق الخفى المانع له من أى طرف فازداد حبكة.
تفرق
فى الأيام الأولى لعودته والتى أمضاها محاولاً استعادة بيته، مكتشفاً أن المنزل يحاول أيضاً استرجاعه، ما أبلغ المجهول القائل إن البيوت ناسها، فى تلك الأيام صار إلى استعادة الشهرين اللذين أمضاهما بصحبة أسرته، غير أنه تذكر إفطاراً رمضانياً فى الفندق الذى أوى إليه بصحبة زوجته منذ مجيئهما معاً قبل أن يصل الابن وشقيقته صباح إجراء العملية، جاءا من المطار إلى المستشفى رأساً، بحقائب سفرهما، ولأن الجراحة تأخرت، بدلاً من دخوله أولاً تم تأجيله إلى الثانى، تمكناً من رؤيته والجلوس إليه والحديث معه بعض الوقت، لم يكن تجهيزه قد بدأ بعد، كان هادئاً، دائم التطلع إلى الجميع، خاصة أسرته، متسائلاً بغير نطق: أين سيكون غداً فى مثل هذا الوقت؟
ها هو يتأهب لتناول طعام الإفطار الرمضانى بصحبتهم، أجّل غذاءه إلى الموعد المقرر رغم أنه متأخر جداً هنا لأن الشمس تغرب حوالى العاشرة فى هذا الوقت الصيفى، أراد أن يدخل قدراً من السرور على رفيقة وقته، والتى تمر بفترة دقيقة بعد جراحة تلت مرحلة قاسية من العلاج الكيماوى، وقفت الأسرة على الحافة منذ عام عندما اكتشفت ذلك الورم صدفة ثم جرى ما جرى له، ذروة راحتها فى اكتمالهم هم الأربعة، خاصة حول مائدة طعام، سيتظاهر بالأكل، إذ يعانى فقداناً للشهية لفت نظر المشرفة على التغذية فى أيام المستشفى، كانت الأطباق تعود كما جاءت، فى اليوم الأخير عادت بإناء كبير كشفت عنه محدقة إليه، وسطه قطعة بروكلى صغيرة مسلوقة، قال إنه يعانى مرارة فى حلقه تحول بينه وبين الطعام، لا يمكنه المضغ، الطعام متقن، لكنه يفتقد الشهية، المشكلة منه هو، كان يعتذر بشكل ما عن إعراضه والذى ضايقها بالتأكيد، نظرتها تجاهه تعاوده بين الحين والآخر، ربما تبقى معه إلى حين، تطل نافذة الصالون الملحق بغرفة النوم التى تضم سريرين على حديقة خلفية، تطال الطابق رؤوس الأشجار الباسقة، قديمة الغرس، ما من أصوات، المدينة هادئة، بل يمكن القول إنها هامدة، أكثر المناطق حركة وحيوية المستشفى، مبانيه المتعددة والفنادق الملحقة به والمنشآت المستجدة، يبدو أن الأزمة الاقتصادية نالت من الأنشطة الاقتصادية، عندما نزل بصحبة الطبيب المصرى وتجول بهم فى المدينة تذكر السويس زمن الحرب بعد إخلائها من سكانها، شوارع خالية ممتدة، أبراج لا يدرى من يشغلها، سرعان ما تتحرك الرغبة فى مغادرتها، تذكّر مروره بمجالها الجوى ليلاً فى مارس العام الماضى، استدعى أوقات وجوده الأول، كان صعباً تحديد مكان المستشفى، أو المبنى الذى أجرى فيه الجراحة، لم يكن يعلم بإزالته وضم مساحته إلى الأحدث، زجاج الواجهة المقوسة تماماً، يتحاور مع نافورة المياه الدائرية اللافتة، المحيرة، كل شىء تغير، لم يكن يعرف أثناء تحديقه أنه سيرجع إلى نفس الموضع، ولكن فى ظروف مغايرة هذا الفندق لم يكن موجوداً، بناية محيرة، كأنه فندق متخفٍّ، رغم وجود مطعمين لكنه لم يرَ أحداً فيهما، صوانى الأكل الفارغة أمام الغرف، كل المقيمين أو معظمهم إما قبل العلاج، جراحياً كان أو من أى نوع، أو بعده، لم ير أحداً من المقيمين إلا ذلك الرجل المحدق، اتخذ له جلسة أمام الفندق، لم يلمحه خارجاً أو داخلاً من غرفته إنما أمام المدخل، يرتدى الجلباب الأبيض.
عندما بدأ ابنه يصغى إلى محطة عربية تبث القرآن الكريم تمهيداً لحلول أذان المغرب بدأ ينتبه إلى هذا الحال، حار أولاً فى توصيفه، أو إسناده إلى مرجعية ما عنده، لكنه لم يستطع، ما من سابقة، كان يطيل النظر إلى أسرته، خاصة، فكأنه يطل عليهم من بعد سحيق، وافد مستجد، كلما اجتهد فى تدقيق القرب تزايد البعد، شىء ما يحول بينه وبين استئناف الأيام المتراكمة فى ذاكرة كل منهم، يجلس معهم، لحظة رمضانية تذيب الشتات، لكن ما له وكأنه يتمنى شد الرحال إليهم؟ قوة غامضة تحول بينه وبينهم، تفرقه عنهم، لا.. بل تفرقه عن نفسه، عن وجوده المستأنف، عما كان منه، بداية إدراكه ذلك الغروب، لكنه لن يقتصر على أهله، إنما لاحظ شموله له عند وجوده فى جمع، عندما تضمه جلسة أو مأدبة، سرعان ما يتفرق، وبالقياس إلى ما بدا فيما تلا ذلك، لم يكن ما أدركه إلا سفور الحال.
الحلقات السابقة:
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [1]
الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [2]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.