تعمد شكسبير فى مسرحيته «هاملت» أن يجعل هوراشيو راويا للقصة، فهوراشيو هو صديق هاملت الذى يعرفه حق المعرفة، وقد راقب من البداية ملابسات أحواله، وتفصيلات مآزقه المعقدة فى مواجهة عمه الفاسد كلوديوس، الذى قتل والد هاملت واغتصب عرشه وزوجته، (أم هاملت). هوراشيو هو المثقف الواعى الذى يقف مع الشعب لكنه يعلو برأسه المفكر الذى قرأ التاريخ الإنسانى وفهم حاضره السياسى، وامتلأ قلبه بالحب نحو البشر وصدره بإدراك قوتهم وضعفهم، فأصبح مزيجا من الحكمة يرسمها، شكسبير فى قول هاملت: «هوراشيو إنك لرجل شريف، لن ألتقى بمثيله.. أنت الذى اختارته نفسى منذ أن بدأت تميز بين الناس، لأنك كالذى عانى كل شىء فأصبح بذلك لا يعانى شيئا، يتلقى من الأقدار الخير والشر بامتنان واحد، وطوبى لهؤلاء الذين يتوازن عندهم العقل والعاطفة، فلا يصبحون مزمارا فى يد الحظ يعزف عليه ما يشاء، اعطنى هذا الرجل الذى يرفض أن يكون عبدا لأهوائه وسوف أضعه فى قلب قلبى.. ». من الفصل الأول نرى هوراشيو بين الحراس ينتظر ليختبر بنفسه ماهية الشبح الذى يشبه الملك السابق، هاملت والد هاملت، فى رداء الحرب ويظهر كل ليلة بعد انتصاف الليل، ليختفى عند صياح الديك فى الفجر، يطالب ابنه الأمير هاملت بالثأر له من قاتله، ويستمر هوراشيو على طول المسرحية وعرضها وعمقها، مراقبا ومحللا وسندا ناصحا لهاملت، فهو الفاهم لأدق مشاعره وآلامه، وحين يتخلى برهة، فى المشهد الأخير، عن عقلانيته ويحاول أن يقتل نفسه لأنه لن يتحمل الحياة بعد رحيل هاملت، يمنعه هاملت وهو يوصيه بأن يستمر على قيد الحياة، مبينا أن بقاءه على قيد الحياة هو التضحية الحقيقية التى يقدمها لصديقه هاملت «آه يا إلهى، هوراشيو، تعلم كم سيجرح اسمى من بعدى، لو ظلت الأشياء هكذا غير معروفة.. تحمل التنفس بصعوبة، فى هذا العالم القاسى، لتحكى قصتى.. ». يتحمل هوراشيو مسئولية رواية قصة هاملت بدوافعها الحقيقية كما أرادها شكسبير، وقد أراد فى بناء شخصية هاملت أن يطرحه ممثلا للحق ضد الباطل؛ الذى تشخصن فى الملك الفاسد القاتل كلوديوس، ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن تتشوه الأحداث لو أنها سردت من خلال كلوديوس وحاشيته لذلك يتعمد شكسبير أن يحكى حكاية هاملت على لسان هوراشيو، لأنها تختلف عما لو كانت على لسان أمه، أو بولونيوس رئيس الوزراء ومستشار كلوديوس وجاسوس السلطة المتلصص المتنصت؛ إن أم هاملت، التى تزوجت عمه قاتل والده، وبولونيوس السياسى الفاسد، طرفان فى القوة المعادية لهاملت، يقفان بمصالحهما وأخطائهما فى معسكر كلوديوس، ولذلك فهما لا بد أن يريا حزن هاملت النبيل اكتئابا مرضيا، ووقفته العنيدة أمام جرائم كلوديوس ميولا انتحارية عبثية، وتأملاته، لإعادة ترتيب أوراقه وامتحان قدراته، ترددا وعجزا عن الفعل، ويحسبان انفجاره جنونا؛ عندما يكتشف أن براءة أوفيليا، حبيبته، تستغل للإيقاع به فيعتبر أن استغلالها لاختراقه ومعرفة خططه، نوع من هتك العفة، ولا يفهمان محاولته انتشال أمه من براثن الإثم الذى ارتكبته بالزواج من قاتل منحل، فيتهمانه بالوقاحة والعقوق والمشاعر غير الطبيعية. قصد شكسبير ألا تكون رواية قصة هاملت بلسان شخصية من شأنها أن تسىء تفسيره فكان من الضرورى أن نرى فى اختياره لهوراشيو «راويا» المفتاح الذى تجاهله، للأسف، كثير من النقاد عن بصر كفيف، أو عن عمد فى بعض الأحيان، مع أنه المفتاح الوحيد الذى علينا أن ندخل به المسرحية لتتوهج أمامنا، بلا لبس أو تشويش الإضاءات الباهرة.