(1) هو كاتب نابه، معروف بالاستقامة، ووضوح القصد، ومنطقية الطرح. قال لى، بكثير من الأسى، إنه بات مضطراً إلى كتابة مقالات معارضة، تسلط الضوء على جوانب الخلل والارتباك والتردى فى مجالات الأداء العام، بأكثر مما يكتب عن جوانب إيجابية، يمكن أن تمنح الأمل. سألته: وما الذى دعاك إلى هذا؟ أجاب: ألا تلاحظ أن المقالات المعارضة باتت هى الأكثر قراءة منذ فترة. إن الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعى لا يحفلون بأى مقال يعكس تأييداً للنظام، أو يركز على جانب من الجوانب الإيجابية فى الأداء العام. أنا مضطر إلى مجاراة هذا المزاج. أى مقال مهما كان متهافتاً أو ضعيفاً سيحظى برواج أكبر طالما كان معارضاً، والعكس صحيح بطبيعة الحال. (2) هو صحفى شاب، يعمل فى صحيفة خاصة، يعرف الجميع أنها مؤيدة للنظام. تجتهد تلك الصحيفة، عبر أدوات مبتكرة فى تغطية التفاعلات التى يشهدها المجتمع بصورة إيجابية، تعكس وقائع وسياسات حقيقية من جانب، وتعزز دعائم النظام من جانب آخر. قال لى بأسى أيضاً إنه بات حريصاً على ألا يضع اسمه على موضوعات كثيرة يقوم بإعدادها أو بالمساهمة فى إنتاجها، طالما أنها كانت تصب فى خانة تأييد النظام. وأخبرنى أن هذا الأمر لم يعد قاصراً عليه وحده، وأن زملاء آخرين له باتوا يفضلون عدم وضع أسمائهم على موضوعات يشاركون فى إعدادها اتقاء لهجمات عبر وسائط التواصل الاجتماعى، أو تقريع من جانب زملائهم من الصحف الأخرى. يقول هذا الصحفى الشاب إن بعض الموضوعات تكون مستوفاة من الجانب المهنى، لكن مدلولها الإيجابى المعضد للسلطة بات قيداً خشناً غليظاً عليه وعلى بعض زملائه. وبعبارة موجزة رأى أن أتفه الموضوعات وأكثرها ابتعاداً عن المهنية تحظى باهتمام معظم القراء وناشطى «السوشيال ميديا» واحترامهم، بينما تحصل أهم الموضوعات وأكثرها استيفاء للموضوعية على التوبيخ والشتائم، إذا كانت تعكس صورة إيجابية عن أداء السلطة. (3) معد تليفزيونى شاب يقظ وعقله يعمل باستمرار، قال لى إنه كان يعانى غداة 30 يونيو 2013 من أن قائمة مصادره التى تضم آلاف الأسماء لم تكن تسعفه باسم يمكن تصنيفه فى خانة «المعارض». وأوضح هذا المعد، الذى عمل فى بيئات احترافية عدة، أن هذا الأمر كان يحد من قدرته على إعداد تغطيات متوازنة، وأنه اضطر أحياناً إلى الضغط على بعض المصادر للعب أدوار معارضة للسياسات التى انتهجتها الحكومة آنذاك، ليمنح تغطياته قدراً من التوازن. يقول هذا المعد إن هذه المشكلة اتخذت اتجاهاً معاكساً منذ هذا التاريخ، وظلت قائمة الأسماء المؤيدة باستمرار تتناقص باطراد، فى وقت تتزايد فيه الأسماء فى قائمة المعارضين. يؤكد زميلنا المجتهد أنه بات يجد صعوبة واضحة فى توفير مصادر يمكن أن تمثل «الطرف المؤيد» فيما يخص السياسات الحكومية، وأن عدداً من عتاة المؤيدين صدموه بالتحول المفاجئ إلى موقع المعارضة على الهواء مباشرة. لكنه يوضح أن قائمة المؤيدين «المطلقين» الآخذة فى التقلص ما زالت تحمل عدداً من الأسماء التى لا تتغير، وتلك الأسماء تخص «خبراء أمنيين»، أى ضباط سابقين يتحدثون فى الشئون العامة. ويعبر هذا المعد الشاب عن قلقه من دلالة أن يقف النظام متجرداً من المساندة النخبوية الواسعة، ومكتفياً فقط برجال المؤسسة الأمنية «الذين ما زالوا قابضين على الولاء». إن تلك الروايات الثلاث تعكس وقائع حقيقية جرت فى مطبخ صناعة الإعلام، وهى وقائع يمكن أن تلهم باحثين وكتاباً، ليستخلصوا منها عبراً ودروساً، لكنها فى الوقت نفسه تقرع أجراس الإنذار، وتفرض على مؤسسة الحكم أن تبحث عن الأسباب التى أدت إلى هذه الأوضاع، وعن الوسائل التى تمكنها من تجاوزها.