120 مليار دولار لسد فجوة عالمية ل44 مليون مدرس جديد بحلول 2030.. التنظيم والإدارة يعلن التوزيع الجغرافي ل18886 وظيفة معلم مساعد    وزير المالية يدعو مجتمع الأعمال الياباني للاستفادة من الفرص الاقتصادية التنافسية بمصر    بشار الأسد يؤكد ضرورة تعزيز التضامن العربي والعمل المشترك لتحقيق الاستقرار في المنطقة    وزير خارجية فرنسا: استمرار التصعيد بين إسرائيل وحزب الله لا يصب في مصلحة أحد    شكرى يشارك فى فعالية القادة الاقتصاديين حول تعزيز الأمن والنمو العالميين    البيت الأبيض: إسرائيل طمأنتنا بعدم دخول رفح الفلسطينية حتى نطرح رؤيتنا    جون أنطوي يقود هجوم دريمز الغاني لمواجهة الزمالك بالكونفدرالية    هيئة الأرصاد تعلن تفاصيل الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة غداً الاثنين    تحرير 78 محضرا في حملة للمرافق لضبط شوارع مدينة الأقصر    وزير الصحة: نشهد قفزة جديدة في تطوير وتحديث برامج علاج سرطان الكبد الأولي    "القوات المسلحة" تكرم الضباط المتميزين المبعوثين إلى الدول الشقيقة والصديقة    أخبار الأهلي: الصفاقسي التونسي يكشف حقيقة عودة علي معلول    أرسنال يتخطى توتنهام بثلاثية في الدوري الإنجليزي    عاجل| البيت الأبيض: إسرائيل طمأنت واشنطن بأنها لن تدخل رفح الفلسطينية حتى يتسنى لنا طرح رؤانا ومخاوفنا    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    إكليل وخواتم وصلبان.. مظاهر استقبال مبهجة لأقباط بورسعيد احتفالا ب"أحد الزعف".. صور    لابورتا يحسم مستقبل كوبارسي مع برشلونة    منتخب مصر يرفع رصيده ل 8 ميداليات في ختام بطولة مراكش الدولية لألعاب القوى البارالمبي    أهم القرارات الحكومية اليوم في العدد 94 بجريدة الوقائع المصرية    توقف ضخ مياه الشرب عن الأحياء مساء.. مواعيد تطهير خزانات المياه بمدينة طور سيناء    رضا حجازي: زيادة الإقبال على مدارس التعليم الفني بمجاميع أكبر من العام    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    الجامعة المصرية الصينية تحتفل باليوم العالمي للغة الصينية    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    صدى البلد يكرم منة فضالي بعد نجاحها في موسم رمضان الدرامي.. صور    أخبار الفن.. ميار الببلاوى فى مرمى الاتهام بالزنا وعبير الشرقاوى تدافع عنها.. الكينج وشريف منير يكذبان حسن شاكوش    الأونروا: أنباء عن وفاة طفلين على الأقل بسبب الحر في غزة    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    مساعد وزير الصحة: انخفاض نسب اكتشاف الحالات المتأخرة بسرطان الكبد إلى 14%    حسام غالي يكشف مفاجأة لأول مرة عن لاعبي الأهلي أثناء توقف النشاط الرياضي    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    وزير العمل يعلن موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    استعدادا لشم النسيم.. الزراعة: طرح رنجة وفسيج بالمنافذ بتخفيضات تتراوح بين 20 و30%    تفاصيل لقاء هيئة مكتب نقابة الأطباء ووفد منظمة الصحة العالمية    فيلم «أسود ملون» ل بيومي فؤاد يحقق المركز الرابع في شباك التذاكر    بحضور محافظ مطروح.. «قصور الثقافة» تختتم ملتقى «أهل مصر» للفتيات والمرأة بالمحافظات الحدودية    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو في حالة اضطراب كامل وليس لديها رؤية    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    أفضل أوقات الصلاة على النبي وصيغتها لتفريج الكرب.. 10 مواطن لا تغفل عنها    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    أهم الأيام في التاريخ القبطي.. الكنيسة تحتفل بأحد السعف وسط فرحة عارمة وإقبال كبير|شاهد    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    مواعيد أهم مباريات اليوم الأحد 28- 4- 2024 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السورية ومسارات التدويل .. (13-2)..حين تستأسد « الهررة»!!!
نشر في الأيام المصرية يوم 20 - 03 - 2013


د. أكرم حجازي
كنا قد أشرنا في الحلقة 12 « الاختراق - 18/11/2012» إلى تصريحات وزير الدفاع الأمريكي السابق، ليون بانيتا، وكذا زميلته وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، حول رفض الولايات المتحدة الأمريكية لحل مؤسسات الدولة في سوريا كالجيش والأمن والمخابرات والشرطة وما إلى ذلك، بدعوى عدم الوقوع بخطأ العراق!!! وهي دعوى كاذبة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العراق كان دولة سنية الحكم بخلاف سوريا المؤسسة أصلا على الحكم الطائفي « النصيري»، وهو ما ذهبت إليه حتى صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور - 29/12/2012 » في معرض حديثها عن أثر الثورة السورية في « تمزيق العراق» حين أشارت إلى أن: « العراق كان قبل عقد من الزمان تحت سيطرة السنة و هذه الأيام تحكمه حكومة شيعية موالية للجارة إيران».

وكما أشرنا أيضا في الحلقة 13 من السلسلة موضع المتابعة « إما إبل الثورة أو خنازير أوباما - 23/11/2012) إلى مآلات العملية السياسية التي يسعى « المركز» إلى إخراجها في سوريا عبر سلطة طوائف تحت غطاء الدولة المدنية الديمقراطية. وقبلها في الحلقة 9 قلنا أن سوريا تتجه « نحو الوصاية العسكرية – 25/8/2012 » حتى بعد التوصل إلى حل سياسي. ومن لا يريد أن يستوعب الأمور كما هي على حقيقتها فهذا شأنه، لكن هذا واحد من أخطر التصريحات وأحدثها، والتي تؤكد ما ذهبنا إليه. ففي جلسة لمجلس الشيوخ الأمريكي في 6/3/2013 ( يوم الثلاثاء)، وردا على سؤال وجهه السيناتور، جاك ريد، إلى رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي، الجنرال جيمس ماتيس، يقول: « هل ستخطط الولايات المتحدة لاحتمال انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد؟» فأجاب « الجنرال» بالقول حرفيا: « إن تخطيطا هادئا يجري مع جيوش في المنطقة لاحتمال القيام بعمليات استقرار إذا اقتضت الحاجة بعد انهيار نظام الأسد، مشيرا إلى أن الوضع في سوريا ما زال يتسم بالضبابية». و « عمليات الاستقرار» هذه تتطلب، بالنسبة لمربط دولي بحجم سوريا، نزول قوات قتالية على الأرض لمواجهة كل ما تعتبره « عمليات فوضى» يمكن أن تؤدي إلى (1) تعريض الحل السياسي القادم إلى تهديد، بالإضافة إلى (2) نزع سلاح الثورة، و (3) حماية مناطق الحدود إقليميا، و (4) مطاردة المجاهدين.
لكن المهووسين بمصطلحات « الديمقراطية» و « المدنية» و « التعددية» و « التوافق» لا يريدون أن يصدقوا أن قراءتهم للحدث السوري لا تبتعد عن أنوفهم إلا بمقدار طول الأنف أو قصره. بل أنهم يعتقدون جازمين أن الدولة المدنية الديمقراطية تتسع للجميع!!! وهي رؤيا نجدها إلى حد بعيد في تصريحاتهم التي أوقعتهم بشر قراءاتهم السياسية والكارثية على الثورة السورية والشعب السوري والأمة برمتها. فهؤلاء الذين سلخت المدنية الأوروبية جلودهم واستنزفت عقولهم يظنون في نمط الحياة الأوروبي، الوديع بين أهله وبيئته، قيمة إنسانية كونية قابلة للتعميم بمجرد الإعجاب وإبداء الرغبة والتعبير عن الطموح في استنساخ النموذج ... مثل هؤلاء لا لا تتسع عقولهم لأية قراءة موضوعية، على الأقل، ولو من باب التنوع والتعدد الذي يؤمنون به. فلعلهم يستنيرون قليلا بما خفي عنهم أو تعاموا عنه لعقود طويلة مضت. فلنتابع الجزء الثاني من الحلقة 13.
أولا: بقاء المربط الطائفي
سبق وقلنا يا سادة، وللمرة الألف، أن سوريا هي مربط من مرابط النظام الدولي الثلاثة إلى جانب المربط العسكري اليهودي « إسرائيل» والعقدي، وبالتالي لا يمكن التفريط به أياً كانت الظروف. وهذا المربط لا ينفع أن تفاوض على خلعه مع من زرعه أصلا. ومع ذلك فالتصريحات التي نقرؤها ليل نهار تتحدث عن حل مع النظام!!! لكن بدون الأسد!!!! فما الذي يضير المربط إذا رحل رحيل الأسد أو بقي؟ ومن هو الأبله الذي يظن أن النظام الدولي يحمي الأسد ويدافع عنه ويراهن عليه؟ ومن يصدق أيضا أن الأسد خصم عنيد يصعب على روسيا أو أمريكا إزاحته؟ ومن هو الأحمق الذي يظن أن روسيا هي العقبة في وجه الثورة السورية والشعب السوري؟ لا أحد إلا من أبى!!
في حلقة حوار على قناة سوريا « الغد» أذيعت في 18/1/2013، وشاركني فيها شيخ صوفي هو د. ماجد الأحمر، تحدثت فيها عن تاريخية تأهيل الفرنسيين للطائفة « النصيرية» لحكم سوريا مستقبلا، وكيف تَسلَّمَ السوفيات أمانتها من الفرنسيين، بعد حرب السويس سنة1956، ورعوها إلى أن سلموها السلطة، وساعدوها على تَمَلُّك للدولة والمجتمع، وتبعا لذلك فالطائفة مسؤولة عن جرائم النظام بدء من انقلاب 8 آذار 1963 وإلى يومنا هذا. لكني فوجئت بالشيخ الضيف يدافع عن الطائفة دفاعا مستميتا بحجة أنه ضد المجرمين فيها وليس ضدها كطائفة!!! فقلت له أن مشايخ الطائفة لم يتبرؤوا من النظام بقدر ما كانوا سنده وسند الفرنسيين من قبله، وبالتالي فهي طائفة مجرمة يجب إقصاؤها عن السلطة في سوريا مستقبلا كي نأمن على البلاد والعباد أولا، ولا تتعرض الأمة والشعب لخديعة ثانية. إلا أنه كان يصر على رأيه!!!
الحقيقة أنني لم أكن أعرف أن الشيخ صوفي إلا بعد أن انتهت الحلقة!! والأعجب أنه استدل بذات الموقف على اليهود حتى في فلسطين، جازما بأن هؤلاء صهاينة وليسوا يهودا!!!! فقلت في نفسي كأنه صوفي من فصيلة معاذ الخطيب!!! ورددت عليه بأن الله عز وجل سمى اليهود بالاسم، دون مشركي الأرض، وإلى يوم الدين، باعتبارهم: « أشد الناس عداوة للذين آمنوا»، وأنه ليس من الدين ولا من العقل ولا العدل أن نبرئ الطائفة من المسؤولية بجريرة بضعة مئات أو آلاف عارضوا الأسد مثلما أنه لا يجوز أيضا تبرئة اليهود من أجل عيون مجموعة « ناطوري كارتا» اليهودية التي تعارض قيام « إسرائيل». لكنه أصر على موقفه!!!! فقلت في نفسي ثانية يا سعد « النصيرية» واليهود بأمثالك. أما وقد عرفنا أن « المجرمين» من اليهود في فلسطين هم صهاينة بعرف الشيخ وليسوا يهودا!!! لكننا لم نعرف بعد ما هو توصيف « المجرمين» من « النصيرية» في النظام السوري؟ هل ما زالوا نصيريين أم تخلوا عن نصيريتهم كما تخلى « مجرمو» اليهود عن يهوديتهم ليصيروا صهاينة!!!؟ وما هو هذا التوصيف يا فضيلة الشيخ؟
على وقْع هذا الحوار استحضرت من ذاكرتي الحية أولئك الذين يؤمنون بالتنوع والتعدد الطائفي في المجتمع السوري، والثراء الذي يمثله هذا النسيج الغني!!! ودفاعهم المستميت عنه إلى الحد الذي تذوب فيه الغالبية الساحقة من المسلمين وكأنها أقلية. وكم هي مفارقة أن مثل هذه المواقف هي ذاتها المواقف الغربية التي تجعل من المجتمع مجموعة من الأقليات لها كل الحقوق والامتيازات على حساب الأغلبية التي تغدو، في أحسن الأحوال، مجرد طائفة من الطوائف لا أكثر ولا أقل. هؤلاء، وأمثالهم من دعاة « التوافق» و « الوسطية» و « الاعتدال»، هم الذين يقبلون حلا مع النظام يُبقي الطائفة على حالها من الامتيازات والنفوذ. ولسنا ندري كيف ستكون مواقفهم من « توافقية» جون كيري و « وسطيته» مع الروس والفرنسيين على دعوة المعارضة السياسية للجلوس إلى طاولة الحوار مع عظيم الطائفة!!!؟ فهل يدري هؤلاء ما ذا يعني حكم طائفي؟
بعد عشرين شهرا على اندلاع الثورة في سوريا أوردت صحيفة « الغارديان – 5/12/2012 » البريطانية في افتتاحيتها إحصائية فريدة عن قيادة الجيش السوري كنموذج على طائفية مؤسسات الدولة والنظام في سوريا. وعلى خلفية المعارك المحتدمة حول العاصمة – دمشق قالت الصحيفة: « إن بشار الأسد طوق المدينة بقوة من80 ألف عسكري، ... وهناك 4000 ضابط من السنة من ضباطه البالغ عددهم 27 ألفا في القوة الموالية، ومنهم انشق نحو1800، بينما يبلغ عدد الضباط العلويين نحو 22 ألف ضابط منها».
بطبيعة الحال هذا مثال مرعب على نوعية وحجم التشكيلة الطائفية لما يفترض أنه جيش يشكل السنة أكثر جنوده. فكيف يمكن تصور حجم الطائفية في أجهزة الأمن والشرطة والمخابرات التي تكاد تكون حكرا على « النصيرية»؟ وكيف يمكن تصور حجم الطائفية في السياسة والتجارة والاقتصاد والبنوك والتعليم والثقافة والإدارة والحكومة؟ أما أداء النظام الأمني والدموي في سوريا فلم يعد الاستدلال عليه صعب المنال، سواء في مستوى السجون أو في مستوى القتل أو الخطف أو الاختفاء أو الاغتصاب أو التعذيب أو التهجير والنفي والملاحقات والتغريب وتحريف الدين والقهر الاجتماعي والملاحقات والمطاردات وزوار الليل والنهار ... فالإرث الأمني الهائل والشديد الوحشية لم يترك فئة عمرية أو شريحة اجتماعية إلا وترك بصماته عليها حتى أنه أصاب الرضيع. وفي مثل هذه الحالة حيث مئات الآلاف من الملفات الساكنة والحيوية والتظلمات والكوارث الحقوقية والإنسانية، من المستحيل أن يستسيغ معها السوري الحديث عن إصلاحات وهمية ومستحيلة أو عن مصالحة مع النظام أو حتى مع الطائفة التي لم تترك للود قضية حتى في السؤال عن سعر كيلو الفجل في البلاد.
حال اضطر فيه السوري، منذ انتصبت الطائفة على سدة الحكم، إلى هجران الحقيقة من شدة الرعب والقهر والثمن الباهظ الذي يدفعه يوميا، وجيلا بلد جيل .. وهجران الحقيقة يعني أن السوري سيتسم بالكذب أمام الآخرين، وسيتكيف مع نمط حياة تبدو للآخرين مشينة، لكنها قسرية وليست اختيارا. لذا فالحل الوحيد مع النظام لم يعد ممكنا إلا بقلعه من الجذور، وإعادة صياغة كل العلاقة الاجتماعية من جديد وإلا سيبقى السوري يعاني انفصاما حتى مع ذاته!!!
ومع ذلك ثمة من يتحدث بلغة « الحل مع النظام». ففي 1/12/2012، وفي ختام أول اجتماع للائتلاف بعد الإعلان عن تشكيله في العاصمة القطرية – الدوحة، قال المتحدث باسم الائتلاف، وليد البني، الذي يؤكد أنه لا يمكن للإسلام أن يحكم سوريا: « إن الائتلاف مستعد للنظر في أي اقتراح إذا رحل الأسد وحلفاؤه بمن فيهم كبار الضباط في الجيش وأجهزة الأمن»، وأضاف أنه: « إذا تحقق هذا الشرط أولا فإن الائتلاف يمكن أن يبدأ في مناقشة أي شيء»، مشيرا إلى: « أنه لن تكون هناك أي عملية سياسية حتى ترحل الأسرة الحاكمة وأولئك الذي يعاونون النظام». هكذا: « أي اقتراح»!!! وكأن مشكلة الشعب السوري والأمة في مائة مجرم من رموز النظام. والعجيب أنه جدد تصريحه هذا في 27/12/2012 بالقول: « نقبل بأي حل سياسي لا يشمل عائلة الأسد والذين سببوا ألما للشعب السوري، وخارج هذا الإطار كل الخيارات مطروحة على الطاولة». وهكذا لم يعد حتى الخيار اليهودي أو الطائفي أو اللبناني أو الشياطيني بعيدا عن طاولة البني.
وفي 11/1/2013 أعلن رئيس المجلس الوطني، جورج صبرا، خلال مؤتمر صحفي بإسطنبول، أن المجلس قدم خطة انتقالية لمرحلة ما بعد الأسد تنص على: « تنحية الرئيس الأسد وحل الأجهزة الأمنية باستثناء الشرطة»، وأنها لقيت ردودا: « إيجابية وبعض الملاحظات الطفيفة. وفي 23/1/2013 لحق الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، عبد الباسط سيدا، في ندوة بالقاهرة بطاولة البني فقال: « إن ائتلاف المعارضة لن يرفض أي حل للأزمة شريطة أن يتضمن رحيل الأسد»، مؤكدا: « عدم وجود نية لحل حزب البعث أو تفكيك الجيش السوري بعد رحيل الأسد». وفي السياق عاد البني ليؤكد في اجتماعات القاهرة (15/2/2013)، في معرض الإعلان عن الموافقة على مبادرة الخطيب، أن أعضاء « حزب البعث» الذي يتزعمه الأسد الذي يحكم سوريا منذ انقلاب 1963، يمكن أن يشاركوا في المحادثات المقترحة إذا كانت: « أيديهم نظيفة من الدماء». وربما سنجد من يحل المشكلة لاحقا بسطل ماء فيه من النجاسة أكثر مما فيه من الطهارة.
ومن جهته كشف الكاتب العجوز في صحيفة « الواشنطن بوست -6/1/2013»، ديفيد إغناتيوس، عن « مسودة خطة» أعدها فريق دعم سوري، ونالت إعجابه، وتهدف إلى الإطاحة بالرئيس السوري، وتمهد ل « نظام عدالة انتقالي» يكون من شأنه أن يفرض عقوبات قاسية على أعضاء دائرته الضيقة، ولكنه: « يؤمن عفوا عاما عن معظم أنصاره من العلويين». وأشار الكاتب إلى أن: « من شأن الخطة طمأنة الطائفة العلوية بأنه سيكون لهم مكان في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد» ... و: « تحديد هوية مائة من المقربين للأسد، والذين بانشقاقهم عن نظام الأسد قد يسهمون بتسريع سقوطه»، وأنه: « يمكن منح بعض هؤلاء المنشقين عفوا جزئيا إذا أبدوا تعاونهم»، و: « كلما سارعوا في انشقاقهم فإنهم سيحصلون على مواقع مرموقة في أي حكومة مستقبلية». وأوضح أنه: « تم تداول مسودة الخطة بين قادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية». كما أشار الكاتب إلى أسماء بعض الشخصيات السورية المعارضة التي يمكن أن يتألف منها فريق من الخبراء القانونيين لدعم الخطة السورية المقترحة، ومن بينهم الناشطة السورية المعارضة سهير الأتاسي والناشط السوري المعارض هيثم المالح وآخرون. والنعم.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى تلك القائمة التي تناولتها وسائل الإعلام في 7/1/2013 نقلا عن مصدر في الخارجية الأمريكية قال بأن المسؤولين الأمريكيين يدرسون خطة معاقبة الرئيس السوري، بشار الأسد، وأعوانه، بطريقة معاقبة الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، وأعوانه، عب الإعلان عن قائمة فيها 100 شخص للقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة.
من الواضح أن مثل هذه التصريحات والمواقف ليست سوى صدى لسياسات « المركز» وقراءاته لمستقبل النظام واحتياجاته لحل من ذات الإطار التاريخي للنظام القائم. فالطائفة ما زالت وستبقى، بمنظور « المركز»، تتمتع بامتياز دولي حتى لو كان الائتلاف هو المرشح لتسلم السلطة بعد رحيل الأسد. وهو (الائتلاف) في أحسن الأحوال ليس سوى غطاء يجري تحته إعادة تأهيل الطائفة بحيث تكون الشريكة المركزية في الحكم بعد أن صار متعذرا عليها الانفراد بحكم البلاد بسبب إرثها الدموي المتوحش، وخلوها من أية قيمة إنسانية. أما التأهيل فيستدعي الحاجة إلى تبرئتها من جرائم الأسد وأعوانه، ومساندتها بإشراك الطوائف والأقليات الأخرى معها في الحكم القادم. فلنتابع التصريحات الدولية، في السياق، وننظر في هواجس « المركز» وتطلعاته لمكانة سوريا القادمة.

على الرغم من أن أحدا لم يمس الطوائف السورية إلا أن « رويترز - 20/12/2012 نقلت عن مبعوث الأمم المتحدة لمكافحة الإبادة، أدما ديينغ، مخاوفه من أن: « الأقليات في سوريا، بما فيها الأقلية العلوية، تواجه خطر هجمات انتقامية واسعة، مع تصاعد الصراع الذي يعصف بالبلاد منذ 22 شهرا، وازدياد مؤشرات العنف الطائفي». وأضاف في بيان له: « أشعر بقلق عميق من أن طوائف بأكلمها تتعرض لخطر دفع ثمن جرائم ترتكبها الحكومة السورية». وزاد بأن: « العلويين وأقليات أخرى في سوريا يتعرضون بشكل متزايد لخطر هجمات انتقامية واسعة النطاق لأنهم ينظر إليهم على أنهم مرتبطون بالحكومة والمليشيات المتحالفة معها». وكأنهم كانوا يوما إلى جانب الشعب السوري!! أو كأن الكاتب لا يرى تحصنهم في معازل على امتداد الساحل. أما وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فقد أعرب في 29/12/2012، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الأخضر الإبراهيمي بالعاصمة الروسية موسكو، عن تخوفه من اتجاه الصراع في سوريا إلى الطائفية.
من جهته كتب باتريك كوكبيرن في صحيفة « الإندبندنت – 30/12/2012 » يقول: « إن الثورة انقلبت إلى حرب أهلية، وإن انتفاضة السوريين على نظام بوليسي وحشي، والتي اندلعت في مارس/آذار 2011، تبدو يوما بعد يوم للعلويين والمسيحيين والدروز والأقليات الأخرى حملة طائفية ترمي إلى استئصالهم». وفي مقال اشترك فيه ثلاثة شيوخ في الكونغرس الأمريكي (جون ماكين و ليندسي غراهام و جوزيف ليبرمان)، ونشر في صحيفة « الواشنطن بوست – 31/12/2012»، عبر المسؤولون الثلاثة عن قلقهم من أن: « سوريا بدأت تنزلق إلى الجحيم، وأن انزلاقها هذا يعني أن نيران الأزمة السورية المتفاقمة ستنتشر في هشيم الدول المجاورة بشكل كبير، فهي تشكل تهديدا مباشرا وحالة من عدم الاستقرار في تركيا ولبنان والعراق والأردن وإسرائيل على حد سواء». ونسب الساسة الثلاثة اعتراف مسؤولين أميركيين وأوربيين بأن: « حوالي 70% من المساعدات الخارجية المرسلة إلى سوريا ينتهي بها المطاف في مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري، وأن زوارا جددا إلى حلب أخبروهم بأنه لا توجد مظاهر في المدينة لأي مساعدات أميركية». وفي 12/1/2013 أصدرت « الخارجية الروسية» بيانا قالت فيه: « يجب ضمان إطلاق عملية انتقال سياسي في سوريا تهدف إلى تثبيت حقوق مضمونة ومتساوية لجميع الطوائف في هذا البلد، وذلك على المستوى التشريعي». لكن الروس، وغيرهم، الذين يطالبون بضمانات دستورية للطوائف والأقليات، لم يهتموا في يوم ما بحقوق السنة في سوريا، ولم يسائلوا أنفسهم لماذا ظل السنة يقتلون بعشرات الآلاف قبل الثورة؟ ولم سألوا يوما عن ضماناتهم الدستورية لأنهم كانوا شركاء في كل الجرائم التي ارتكبوها بحق الأمة وليس فقط بحق السوريين.
ولدعاة القومية وأهل اليسار نذكر فقط بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن في يوم ما بعيدا عن جرائم أمريكا وبريطانيا وفرنسا الذين فككوا العالم الإسلامي ومزقوه شرّ ممزق وأخضعوه للهيمنة والتبعية، ففي عهد السوفيات البائد اغتصبت فلسطين وتم الإعلان عن قيام « إسرائيل» بصوت الاتحاد السوفياتي، وفي عهده تم رعاية الطائفة « النصيرية» إلى أن تَسَلمها من الفرنسيين سنة 1956 وسلمها السلطة في سوريا وأشرف على كل جرائمها وقدم لها الحماية التامة، وفي عهده أيضا سقطت بقية فلسطين والقدس وسيناء والجولان وأراضي من الأردن، بل أن الجولان بيعت ب 150 مليون $ لبني يهود، وقسمت اليمن إلى قسمين ثم حوربت بطائرات السي خوي الروسية المستأجرة عربيا في حرب العام 1994، وشق الأسد الأب منظمة التحرير الفلسطينية وحاربها وأقصاها من ساحات المواجهة، وفي عهده وحمايته ذُبحت لبنان والمخيمات الفلسطينية من تل الزعتر شمالا إلى صور جنوبا، وتم تفكيك الحركة الوطنية العربية ومعها الفلسطينية التي تم دفعها إلى الاعتراف ب « إسرائيل» وتحويلها إلى حرس حدود لها، كما شُرد الإسلاميون وطوردوا في أقاصي الأرض، و ضاعت الصومال ودُمرت أفغانستان وأُحرقت الشيشان ونُحرت البوسنة والهرسك وأُسقط العراق وتم تسليمه للشيعة بمبادرة من وزير الخارجية بريماكوف، والآن تسقط سوريا وهو ممسكا بها بيديه!!! كل هؤلاء كانوا بحماية الاتحاد السوفياتي ثم روسيا، بموجب تبنيه لحق الشعوب في تقرير مصيرها سنة 1956، وتحت عباءة أيديولوجيات التقدم والتحرر ومقاومة الاستعمار .. والقائمة أطول بكثير. لكن آن للقوس أن ينغلق.

وفي مقابلة له مع مجلة « لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية ونقلتها وكالة الأنباء الأردنية « بترا – 12/1/»2013، قال الملك الأردني، عبد الله الثاني،: « يجب أن تشعر كل فئة في المجتمع السوري، بمن فيهم العلويين، بأن لهم دورا في مستقبل البلاد». وفي 26/1/2013 طالب الملك بوضع: « خطة واقعية وجامعة للانتقال في سوريا»، مؤكدا على: « ضرورة أن تتضمن الخطة الحفاظ على الجيش ليكون العمود الفقري لأي نظام جديد في سوريا، لتجنب الفوضى التي سادت في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في العام »2003، ومشيرا إلى أن: « خطة انتقالية حقيقية وشاملة تضمن وحدة سوريا شعبا وأرضا وتضمن لكل السوريين دورا ليكونوا شركاء في مستقبل بلادهم». واعتبر أن من يعتقد أن نظام الأسد سيصمد لأسابيع فقط: « لا يعرف حقا الواقع على الأرض»، ملمحا إلى أن: « أنصار الأسد ما زالوا يمتلكون القدرة»، ومتوقعا أن: « بقاءهم القوي سيستمر على الأقل حتى النصف الأول من العام الجاري».

ورغم أنها حادثة ليس معروفا عنها أية معلومات موثوقة، فضلا عن حرص المقاتلين على حماية دور العبادة أيا كانت، مقابل تدمير النظام لعشرات المساجد وحرقها إلا أن صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور – 25/1/2013 » نقلت عن مديرة إدارة الشرق الأوسط في منظمة « هيومن رايتس ووتش» الأمريكية، سارة ويتسون، قولها: « إن المعارضين المسلحين للنظام السوري فشلوا في إثبات تعهدهم بحماية حقوق الأقليات الدينية». وفي سياق مماثل حرض رمزي مارديني، المحلل بمعهد « دراسات الحروب بالولايات المتحدة، في مقال له نشرته صحيفة « نيويورك تايمز - 4/2/2013»، واشنطن: « على أن تجعل اعترافها بالمعارضة السورية مقرونا بشرط صارم بضرورة أن يكون تحالفها ممثلا لكافة أطياف الشعب السوري، ومعاقبتها إن هي لم تمتثل لهذا الشرط». وخلص في مقاله إلى القول بأن: « الخوف ونزعة الانتقام من المحتمل أن تلعب دورا رئيسيا في مرحلة ما بعد الأسد أكبر مما حدث في ليبيا ما بعد القذافي».
وفي مقالته على صفحات « نيويورك تايمز – 10/2/2013 » وصف توماس فريدمان الصراع في سوريا بأنه: « حرب لا يمكن أن تنتهي، ولكن ربما يمكن تخفيض وتيرتها وشدة حدتها». وشكك: « في إمكانية تخليص سوريا أو نقلها من مدار إلى آخر مع الاحتفاظ بها دولة واحدة متماسكة»، ... إذ ... « أنها سرعان ما تنقسم إلى إقليمين، أحدهما للسنة والآخر للعلوين». وفي السياق أشار إلى حلول وسط نسبها لبعض: « الدبلوماسيين العرب في الأمم المتحدة » ... وهذه الحلول تتطلب، بحسبه، (1) « تدخل الولايات المتحدة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا»، و (2) « تمثيل متساو للعلويين والثوار». وفي معرض تعليقه على بدء العملية السياسية، وبعد لقاء نائب وزير الخارجية الروسي، غينادي غاتيلوف، مع وفد الدبلوماسيين الفرنسيين، أصدرت الخارجية الروسية بيانا في 13/3/2013 قالت فيه: « من الضروري مراعاة الحقوق الأساسية لكافة الأقليات العرقية والطائفية التي تقطن البلاد».
هذا هو النظام الدولي. لا يأبه لأمة تتعرض، بفعل أياديه الدموية، لألوان العذاب. فهو لا يرى في الأمة إلا مجموعات من الطوائف التي لها الحق في كل الحقوق والامتيازات والحماية والرعاية بقطع النظر إن كانت على حساب الغالبية الساحقة أم لا. والحقيقة أن المشكلة ليست في حقوق الطوائف بل في حقوق الأغلبية المصادرة لصالح الأقليات التي تحظى بالحماية الدائمة. أما لماذا؟ فلأنها تمثل الضمانة الأهم في استمرار الدولة القومية المستوردة من الغرب والحاملة لقيمه والمعادية في منشئها للدين والإسلام. لذا فإن كل من يقبل بالحل الدولي في سوريا أو يسهل له أمره هو بالضرورة معاديا للأمة في أصالتها وعقيدتها وطموحاتها.

ثانيا: الكمين العراقي

ما أن انطلقت شرارة الحراك الشعبي في العراق، احتجاجا على التهميش الطائفي، قبل ثلاثة أشهر حتى أصابت غصته الخانقة حلق دول « المركز» والدول الإقليمية والشيعة على السواء. فإذا ما انفجرت الأوضاع في العراق فقد يتحول الحراك إلى أخطر مسمار ُيدَق في نعش النظام الدولي أو على الأقل في نعش المشروع الصفوي بدايةً. لذا؛ وتحسبا من أية تداعيات مفاجئة، وفي تغريدة، ذات دلالة أمنية بالغة، على موقع التواصل الاجتماعي « تويتر – 8/1/2013»، كشف الشيخ حامد العلي أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، قرر نقل الأسلحة الثقيلة إلى الجنوب، خوفا من تطور الاحتجاجات التي يشهدها العراق حاليا. وقال الشيخ أن: « المالكي يصدر أوامره بنقل كافة الأسلحة الثقيلة من كافة الوحدات والتشكيلات الموجودة بالأنبار ونينوى وصلاح الدين ونقلها للجنوب». وفي تغريدة ثانية برر الشيخ العلي قرار المالكي أنه: « يخشى من سقوط الآليات العسكرية الثقيلة بيد الثورة لأنه يتوقع تطورها لثورة مسلّحة ولهذا أمر بسحب كل الآليات للجنوب».

هنا؛ علينا أن نلاحظ أنه ثمة فرق هائل بين كمائن المعارضة السياسية السورية والحراك العراقي الذي يعد بحق أنجح كمين استراتيجي نصبته الثورة السورية للقوى الدولية والطائفية في المنطقة وحلولها السياسية ومحاولاتتها لاحتواء الثورات الشعبية. فالحراك، المعلومة بواطنه، لدى السنة بدأ يشق طريقه إعلاميا للكشف عن خفايا المشروع الطائفي في العراق للعامة من العرب والمسلمين، من أجل أن يأمن على نفسه ويحصن ظهره من سلالات الغدر المحلية والإقليمية والدولية التي طعنته في ظهره خلال السنوات القليلة الماضية. فقد بات واضحا لمن يعلم حقيقة النظام القائم في العراق أنه غدا نسخة طبق الأصل عن النظام الطائفي في سوريا، وأن عقائد السنة وتراثهم لم تعد بمأمن من نفوذ المشروع الصفوي ولا من أثر مخرجاته العقدية والتربوية والقيمية والأخلاقية على الأجيال القادمة من سنة العراق.

لذا فإن المالكي والإيرانيين يعلمون علم اليقين أن الحراك العراقي ما جاء إلا ليصب النار على زيت المشروع الصفوي المشتعل في سوريا. وأن الإفلات من الحريق في العراق قد لا يكون سهلا ولا قريب المنال مع تسارع حمى المواجهات في الثورة السورية. ولم يعد خفيا، على مراقب، تلك التصريحات التي يدلي بها المالكي بين الحين والحين محذرا من حرب طائفية. أما إنْ كان يريدها فهو يعلم والإيرانيون أنهم أكبر الخاسرين بالنظر إلى أنهم هم الذين يتمتعون بالامتيازات والنفوذ وليس أهل السنة. لذا فالتحشيد الطائفي في العراق، والذي يقوده الإيرانيون والمالكي، لا يستهدف حاليا الحراك العراقي بقدر ما يستهدف تصفية حساباته في سوريا.
وقد أصاب جوست هلترمان، وهو الخبير في الشؤون العراقية، في تحليله الذي نقلته صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور - 29/12/2012 » وقال فيه بأن: « الأزمة السورية تجبر كل من حولها على الانحياز إلى أحد الطرفين المتصارعين»، مشيرا إلى: « أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يخشى من ظهور حكومة سنية في سوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، مما يجعل المالكي يصطف مع المعسكر الإيراني ويكون في حال صراع مع تركيا». لذا كان على المالكي، ولي أمر ممرات الأسلحة جوا وبرا إلى النظام السوري، أن يجدد مخاوفه من تداعيات الثورة السورية على العراق. ففي مقابلة له مع وكالة « أسوشيتد برس - 27/2/2013 » الأمريكية قال بصريح العبارة: « إذا ما انتصرت المعارضة ( السورية على النظام )، فستندلع حرب أهلية في لبنان، وتحدث انقسامات في الأردن، وتشتعل حربا طائفية في العراق». وفي مقابلة مع « رويترز – 27/2/2013»، وصف وزيره للنقل وزعيم منظمة بدر، هادي العامري، دعم تركيا وقطر للمعارضة المسلحة في سوريا بأنه يرقى إلى إعلان حرب على العراق: « الذي سيعاني من تبعات صراع تتزايد صبغته الطائفية». فعلا: إن مما أدرك من كلام النبوة أنه إذا لم تستح فاصنع ما شئت. رموز الطائفية يخشون منها!!!!
أما حاخامات إيران فمواعظهم عن دعم النظام الطائفي في سوريا لم تتوقف منذ فتاوى خامنئي وجنتي وغيرهم. ولعل بعض من أحدثها وأطرفها تلك التي وردت على لسان خطيب صلاة الجمعة في طهران، موحدي كرماني، في 4/1/2013 حين زعم أن: « الغربيين وعملاءهم لم ينتهوا بعد من مؤامراتهم في سوريا، ولكنهم أقدموا على إثارة فتنة طائفية في العراق»، محذرا من أن: « ما يجري في العراق بداية لما بدأ في سوريا منذ عامين». أما أشدها وحشية وتطرفا فتلك التي فاه بها الحاخام الصفوي، مهدي طائبدبي. ففي 14/2/2013 أباح بما تخفيه صدورهم بالقول: « إن سوريا هي المحافظة ال35، وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا. فإذا هاجمَنا العدو بغية احتلال سوريا أو خوزستان، الأوْلى بنا أن نحتفظ بسوريا .. لو خسرنا سوريا لا يمكن أن نحتفظ بطهران، ولكن لو خسرنا إقليم خوزستان (الأحواز العربية) سنستعيده ما دمنا نحتفظ بسوريا». وحين تحدث عن ضرورة دعم النظام السوري قال: « النظام السوري يمتلك جيشاً، ولكن يفتقر إلى إمكانية إدارة الحرب في المدن السورية، لهذا اقترحت الحكومة الإيرانية تكوين قوات تعبئة لحرب المدن .. قوامها 60 ألف عنصر من القوات المقاتلة لتستلم مهمة حرب الشوارع من الجيش السوري».
الجدير بالذكر حقا أن مهدي طائبدبي هذا يترأس ما يسمى بمقر « عمّار الاستراتيجي» لما يسمى ب: « مكافحة الحرب الناعمة الموجهة ضدالجمهورية الإسلامية الإيرانية»، والذي تأسس عام 2009، في أعقاب الانتخابات الرئاسية المزورة التي اُعلن فيها عن فوز الرئيس الحالي أحمدي نجاد. وشارك في تأسيس المقر عدد من الشخصيات السياسية والدينية الشهيرة باسم: « أنصار حزب الله» في إيران، وهي موالية للمرشد الأعلى علي خامنئي.
على كل حال ف « حزب الله » أعلن الحرب على الثورة السورية جهارا نهارا. وهو الآن يحتل على الأقل ثمانية قرى حدودية، وجنازات قتلاه التي كانت توارى الثرى تحت يافظة « شهيد الواجب» صارت توارى اليوم باسم « الدفاع عن آل البيت». وإذا كان مهدي طائبدبي آخر من صرح ب 60 ألف مقاتل يخوضون حرب المدن إلى جانب قوات الأسد فقد أشارت العديد من الصحف الغربية والتقارير الاستخبارية إلى أن إيران تحضِّر لحرب طائفية بعد سقوط النظام. وفي السياق نقلت « الواشنطن بوست – 11/2/2013» عن مسؤول عربي رفيع قوله أن: « استراتيجية إيران تقوم على مسارين: الأول دعم الأسد، والثاني تحضير مسرح إذا انهار النظام وتفسخت سوريا إلى جيوب عرقية وطائفية منفصلة». ونقلت عن مسؤول رفيع بالإدارة الأميركية أن: « إيران تساند مليشيات قوامها 50 ألف مقاتل داخل سوريا» حاليا. وبحسب المسؤول ذاته ف: « إن هذه عملية كبيرة والنية المباشرة هي دعم النظام السوري إلا أن الأهم بالنسبة لإيران هو الحصول على قوة داخل سوريا تكون موضع ثقة ويمكن الاعتماد عليها فيما يعد». هذا الأمر ذكرته صحيفة « الديلي تلغراف – 15/3/2013 » البريطانية نقلا عن رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية، اللواء أفيف كوخافي، الذي قال أن: « إيران قامت بتدريب جيش من خمسين ألف رجل في سوريا في محاولة لاستعادة قاعدة السلطة في البلاد بمجرد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد».
لكن ما ينبغي التنويه إليه هو صحة رأي بعض الخبراء الأمريكيين، بحسب الصحيفة، من أن: « إيران أقل اهتماماً ببقاء الأسد في الحكم منه بالحفاظ على نقاط قوة، من بينها مراكز نقل في سوريا»، وهو ما أشار إليه تقرير صحيفة « لوس أنجلوس تايمز – 28/12/2012» بعنوان: « إيران قد تعيد النظر بموقفها من الأسد»، الذي تحدث عن خلافات ساخنة بين المؤيدين والمعارضين لدعم الأسد. لكن هذا بالنظر إلى مسألتين، الأولى: أن إيران تمتطي ظهر سوريا مثلما تمتطي ظهر القضية الفلسطينية، وبعض القوى والدول في العالم السني لتمرير مشروعها الصفوي، والثانية: أن إيران لا تقيم وزنا لبقاء الأسد أو ذهابه إلا بمقدار ما تضمن سلامة مصالحها في سوريا عبر حل طائفي يحفظ لها نفوذها. لكن الأسوأ أن إيران مستعدة للمساومة على سوريا برمتها، ومعها البحرين. إذ نقلت وكالة « مهر - 12/2/2013» الإيرانية للأنباء، عن مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون دول آسيا والمحيط الهادي، عباس عراقجي، قوله: إن بلاده تقدمت بمقترح: « حول ضرورة إدراج الأزمة السورية والبحرينية على جدول أعمال مفاوضات إيران ومجموعة ال 5+1 » والذي عقد بكازاخستان في 26/2/2013. وبالتأكيد فإن الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، رامين مهمانبرست، الذي نفى تقارير « الواشنطن بوست» حول الإعداد لقوة حربية بعد رحيل الأسد لن يستطيع أن ينفي مقترح العراقجي الذي تماهى مع ما قاله مهدي طائبدبي عن سوريا باعتبارها المحافظة 35، وإلا فبأي منطق تضع إيران دولة عربية على طاولة المفاوضات إنْ لم تكن ترى فيها مجرد محافظات فارسية كما هي العراق والبحرين وربما غدا الكويت؟

في خضم المواجهات الطاحنة بين قوات الثورة السورية والنظام، بدا واضحا أن النظام يتعرض لاستنزاف خطير في العنصر البشري. وبالتأكيد فإن مثل هذا الأمر له أكثر من سبب، ويشكل مبعثا لتساؤلات مثيرة حول الكتلة الديمغرافية المساندة للنظام سواء في العمق الشيعي في العراق وإيران ولبنان، أو في العمق الطائفي للنصيرية في تركيا، أو فيما يتصل بالقاعدة الديمغرافية الشعبية ومعاناتها الاقتصادية أو الأمنية. فقد تسربت معلومات عن توجه النظام لتجنيد الشباب السوري في القرى والأرياف لقاء 50 ألف ليرة سورية. وبالتأكيد فلن يعدم القبول لدى البعض خاصة وأن قسما ما من السنة ما زال مواليا للنظام.
المرجح أن الأمر يتعلق بمسألتين: فإما أنه يسعى إلى تجنيب رصيده البشري في صلب الطائفة من الاستنزاف في المعارك، خاصة بعد ورطة المحور الشيعي في العراق، مقابل حرق ما يمكن حرقه من السنة، وإما أنه لم يعد لديه رصيدا كافيا لمواصلة حربه الدموية. وفي الحالتين لم يعد بيد النظام من أوراق إلا جرّ المجتمع السوري إلى العسكرة لصالحه بأقصى ما يستطيع. وفي السياق شرع في عمليات تجنيد واسعة وتسليح للذكور والإناث وتأطيرهم بأطر عسكرية مثل « قوات الدفاع الوطني» أو « جيش الدفاع الوطني». وبحسب « مصدر سوري مطلع» فالتشكيلات الجديدة تضم: « عناصر مدنية أدت الخدمة العسكرية واللجان الشعبية التي تشكلت تلقائيا مع تطور النزاع القائم في سوريا»، و: « أن افرادها سيتقاضون رواتب شهرية، وسيكون لهم زي موحد»، وأن: « عددهم سيبلغ حوالي عشرة آلاف من مختلف محافظات البلاد».

وفي تقرير لقناة « الجزيرة – 23/1/2013» نقلا عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، قالت فيه: أن قوات الدفاع الوطني ستشكل من أعضاء حزب البعث أو مؤيديه .. رجال ونساء ( فدائيات الأسد) من كل الطوائف» بهدف حماية الأحياء من هجمات المقاتلين المعارضين .. « وأن القوات الجديدة ستضم قوات نخبة دربها الإيرانيون الذين لديهم خبرة طويلة في هذا المجال بداية بفيلق القدس وقوات التعبئة الشعبية (الباسيج) ». وبحسب عضو الهيئة العامة للثورة السورية بحمص، هادي العبد الله، فإن: « عدد المقاتلين الموالين للنظام في المحافظة ازداد كثيرا خلال الأيام الأخيرة مع بدء عمل قوات الدفاع الوطني». أما المعارض بسام جعارة فقال بأن هذه القوات تتكون من: « علويين موالين للنظام ومجرمين أطلق سراحهم، والجنود الاحتياط المطلوبين للالتحاق بالجيش»، وقد باتوا بمثابة: « الرديف الحقيقي للجيش بعدما سُلموا، مدافع هاون ومدافع ميدانية، وأسلحة ثقيلة، ولكن الأهم أن النظام ضامن لولائهم ومتأكد أنهم لن ينشقوا»، ويُدربون في معسكر « دير شميل» بحماة الذي يتبع له 28 معسكرا بقيادة مرافق بشار الأسد السابق، العقيد المتقاعد فضل ميخائيل. وأوضح جعارة أن هؤلاء: « يحملون بطاقات تخولهم توقيف من يريدون حتى لو كان وزيرا».

المهم في الحراك العراقي أنه نجح في خلط الأوراق إلى الحد الذي أثار فيه الرعب لدى رموز المشروع الصفوي. إذ لم يعد من الممكن الاطمئنان إلى العراق كفضاء استراتيجي خاضع للسيطرة والتحكم والاستخدام وقت الحاجة، سواء لإيران أو للنظام في سوريا. وحتى لبنان لم يعد بمأمن من الانفجار بين الحين والآخر. وغدت كل القوى المحلية والأطراف الدولية والإقليمية تحضر نفسها لما هو قادم وليس لما هو كائن. لكن المفارقة في أمر الحراك العراقي أنه لن يقع ضحية الاستنجاد بقوى أجنبية على شاكلة حلف « الناتو» خاصة أن انطلاقته تأتي في السياق المضاد لكل تداعيات الغزو الأمريكي للعراق، وهدم الدولة وإعادة بنائها بمواصفات طائفية تجتهد في امتلاك الدولة والمجتمع بأشد مما هو الحال في سوريا. وبالتالي ستبدو ورطة « المركز» أعمق مع حراك شعبي له حسابات وقروح دامية مع الولايات المتحدة، وهذا من شأنه أن يجرد « المركز» من القدرة على الاحتواء إذا حمي الوسيط، نظرا لغياب أدوات الضغط على الحراك الشعبي كما هو الحال في دول الثورات الأخرى. كما أن « القاعدة» ليست غائبة عن المشهد العراقي وهي التي تسلخ جلد المالكي بصورة شبه يومية، فضلا عن يدها الطويلة التي طالت الجنود السوريين الذين فروا، خلال المعارك مع الثوار من بلدة اليعربية، وأثناء إعادتهم إلى النظام، في قافلة أمنية، تلقفتهم مخالب القاعدة لتفتك ب 48 منهم. لذا فإن خلط الأوراق هنا ثقيل على « المركز».
ثالثا: كمين التسليح
ظن الكثيرون، وكتبت الصحف الأمريكية، أن تغيير الطاقم الاستشاري الأمريكي بعد الانتخابات الرئاسية الثانية للأوباما قد يؤدي إلى تغير في السياسة الأمريكية، وأن الإدارة الأمريكية ستتحرر، بالتالي، من ضغوط الانتخابات. إلا أن المسألة اتجهت سياسيا نحو الأسوأ بحسب دعوة جون كيري للمعارضة بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الأسد. كل هذا وسط عودة الضجيج حول تسليح المعارضة المسلحة. ووسط « حيرة» الرئيس الأمريكي أوباما، الذي حين سئل في مقابلته مع مجلة « ذا نيو ريببليك» الأميركية ( نقلا عن افتتاحية الكاتب دويل ماكمانوس بصحيفة « لوس أنجلوس تايمز – 22/2/2013» عن إمكانية التدخل في سوريا ووقف حمام الدم هناك، أجاب: « مضطر أسأل: هل بإمكاننا أن نحدث فرقا في هذا الوضع؟ وكيف أوازن بين عشرات آلاف القتلى في سوريا مقابل عشرات الآلاف الذين يُقتلون حاليا في الكونغو؟» لكن هذا التبرير يعجز عن الصمود ما لم يجد له تفسيرا لدى الرئيس الأمريكي الذي سبق وتدخل في ليبيا ضد العقيد معمر القذافي!! فما هي خلفيات المسألة بلسان أهل الأمر؟
النازف في سوريا منذ سنتين يبدو أن لها نصيبا هاما من الثقة والمصداقية. لكننا لسنا واثقين من الخبر الذي سربته صحيفة « نيويورك تايمز – 2/2/2013 » من أن البيت الأبيض عارض توصية تقضي بتسليح الثوار في سوريا، قدمتها كبرى المؤسسات الأمريكية ( وزارتا الدفاع والخارجية والمخابرات وقائد الجيش).

والخبر، بحسب افتتاحية دويل ماكمانوس يقول بأن: « وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ومدير الاستخبارات الأسبق ديفد بترايوس كانا قد اقترحا في شهر أغسطس/ آب الماضي أن تغير الولايات المتحدة سياستها وترسل أسلحة ومعونة أخرى للثوار الذين يقاتلون الحكومة السورية. ودخل على الخط أيضا وزير الدفاع السابق ليون بانيتا وقائد رئاسة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمسي، الأمر الذي يعتبر خطوة غير عادية من جانب وزارة الدفاع الأميركية الحذرة عادة». وأضاف بأن: « مستشار الرئيس أوباما للأمن القومي، توماس دونيلون، عارض الاقتراح، وفي النهاية دعم الرئيس رأيه».

هذا الرفض للمقترح، على رأي « نيويورك تايمز – 19/2/2013»، أدى إلى: « ترك البيت الأبيض بلا إستراتيجية بشأن الانتفاضة السورية». وبحسب مسؤولين أميركيين فإن: « قرار أوباما عدم تزويد المعارضة السورية بالأسلحة كان ناجما عن التردد والخشية من وصولها إلى أياد غير موثوقة، ومخافة استخدامها بالتالي ضد مدنيين أو ضد مصالح إسرائيلية وأميركية» .. لكن: « الولايات المتحدة صارت تعرف بمرور الوقت المعارضين السوريين!! ولا ريب أنها كانت تعرف قبل ذلك بكثير، لاسيما وأن المدير السابق للمخابرات السعودية، تركي الفيصل، كان يعرف ما سبق أن عرفته الولايات المتحدة. وهذا ما نقلته « بروجيكت سينديكيت – 28/12/2012 » عنه: « الآن، أصبحت كل الأطراف الفاعلة في سوريا معروفة. فلا يوجد هناك جهاديون مستترون، أو إرهابيون، أو رجال عصابات. فجميع الأطراف موثقة بشكل جيد. وبالتالي فإن المعتدلين وحدهم هم من ينبغي لهم أن يحصلوا على الأسلحة المضادة للطائرات والمضادة للدبابات. وبحصولهم على هذه الأسلحة فإن مكانتهم سترتفع بين المجموعات المقاتلة الأخرى، وهذا من شأنه أن يدعم موقفهم المعتدل».

بعد مضي أسبوع على جلسات الاستماع أمام الكونغرس الأمريكي، علقت صحيفة « كريستيان سيانس مونيتور – 11/2/2013 » على رفض أوباما تسليح الثوار، واستجواب كل من وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا والجنرال ديسمبي، فقالت أنه: « في جلسة للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ سأل السيناتور جون ماكين كلا المسؤوليْن عما إن كان قد دعم توصيات لوزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات الأميركية بتوفير أسلحة للمعارضة السورية، فرد بانيتا وبعده ديمبسي بأنهما أيدا الخطة». لكن الجنرال مارك ديسمبي نفي في 10/2/ 2013 علم بلاده بهوية الجماعات المقاتلة قائلا أن: « لدى الإدارة الأميركية تحديا كبيرا، وهو أنها لا تعرف بعد أي الفصائل التي تحارب نظام الرئيس السوري بشار الأسد يمكن أن تفي، في حال سيطرت على السلطة، بمتطلبات الاستقرار في البلاد مثل إنشاء حكومة وإنهاء العنف والحفاظ على المؤسسات حتى لا تتحول سوريا إلى دولة فاشلة». فعلى أي أساس أيد خطة تسليح الثورة إذا كانت الولايات المتحدة لا تعرف بعد مع من تتحالف؟ وبأي منطق تكون شهادته أو تسريب « النيويورك تايمز» صحيحين!!!؟

« الحلقة المفقودة» بالأمر تكمن في حاجة الولايات المتحدة إلى تسريب الخبر للتغطية على ما يراه بعض الساسة الأمريكيين « مأزقا أخلاقيا» يصعب تبريره تجاه الثورة السورية. والتسريب جاء بصيغة لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم. فهو يوحي بأن أكبر مراكز القوى في الولايات المتحدة دعت إلى تسليح الثورة، لكن الذي رفض هو الرئيس!!! والرئيس قادر على تحمل التسريب خاصة وأنه لم يعد مهموما بولاية رئاسية ثالثة. وهكذا تفلت مصداقية أمريكا من الطعن والخسارة ويستعيد الرئيس الثقة مجددا. يا أبناء الشياطين!!!

هكذا باتت الإدارة الأمريكية في دورتها الثانية مطالبة بالإجابة على السؤال الملح: « ما هي السياسة الأمريكية الجديدة تجاه سوريا بعد أن سقطت مبررات ضغوط الانتخابات الرئاسية ولم يعد ثمة عراقيل أمام الرئيس أوباما؟» وقد أجابت!! وهكذا أيضا بدت الطريق ممهدة لدى صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور – 5/3/2013 » كي تذكِّر بالتوجه الجديد للسياسة الأمريكية تجاه الثوار، والتي وردت على لسان وزير الخارجية، جون كيري، بعد «مؤتمر أصدقاء روما» حين قال: « إننا لن نترك المعارضة السورية في مهب الريح ... إننا مصممون على تعديل الحسابات وتغيير قواعد اللعبة على الأرض» !!!! لكن ما الذي تغير أصلا؟

الأكيد أن مضمون « المأزق الأخلاقي» الأمريكي هذا يتعلق بالدرجة الأساس بشعور الولايات المتحدة والغرب بانحدار مستوى المصداقية في الشارع السوري، المدني والسياسي والعسكري، وكذلك بالاستنزاف الخطير في ثقة من عقدوا على الولايات المتحدة الآمال والطموحات، وما زالوا يعقدون. لذا فقد حذرت الصحيفة من أن انتصار الثوار وإجبارهم: « زمرة الأسد على التراجع إلى معاقل الطائفة العلوية أو حدوث انقلاب داخلي يزيل الأسد من السلطة» أو ... ستشكل ... « خسارة كبيرة للولايات المتحدة نفسها، التي ستكون ضئيلة النفوذ في البلاد، وذلك لأن معظم السوريين وقادة الثوار ساخطون على واشنطن بسبب حجبها المساعدات عنهم» .. ولأن: « ما ينفر السوريين من الولايات المتحدة بشكل أكبر هو دعوة واشنطن إلى تفكيك فصائل مسلحة في سوريا كانت هي السبب في كسب الحرب مثل جبهة النصرة». بل أن الولايات المتحدة تعرضت لانتقادات من حلفائها كما تقول « الواشنطن بوست – 30/12/2012»، وأشارت إلى أن: « آخر السلبيات الأميركية تتمثل في زعم واشنطن بأن المساعدات الأميركية لقوى الثورة السورية أو إلى المنظمات الإنسانية المعنية بالأزمة في سوريا تعد غير شرعية»!!!!

وينقل دويل ماكمانوس بصحيفة « لوس أنجلوس تايمز – 22/2/2013 » عن خبير لدى وزيرة الخارجية السابقة، فريدريك هوف، قوله أن المهم في تسليح الثوار هو: « توطيد العلاقات الأميركية مع المقاتلين الذين قد ينتهي بهم المطاف بإدارة دفة الحكم في سوريا، والتأكد من أن المعتدلين في المعارضة لا تتم إزاحتهم من قبل متطرفين إسلاميين أفضل تسليحا». وبالنسبة لهوف فإن هذا الأمر: « ليس منحدرا زلقا. وأن محاولة بناء علاقات قوية مع العناصر المسلحة في المعارضة السورية هي الخيار المحافظ والقليل الخطورة في الوضع الراهن».
وفي تعليقها على تصريحات جون كيري في لندن (25/2/2013)، والتي قال فيها: « أن أوباما بصدد تقييم الخطوات التي يجب اتخاذها لمساعدة المعارضة السورية، وإلى أن إدارة أوباما مصممة على عدم إبقاء المعارضة السورية في مهب الريح ولا أن تبقيها في حال تشاؤم وهي تنتظر وصول مساعدات»؛ كتبت « الواشنطن بوست – 28/2/2013» تقول: إن وزير الخارجية الأميركي تحدث بهذه الكلمات لأنه يتوجب عليه أن يتحدث بمثلها، و « لأن قادة الثوار في سوريا قد ضاقوا ذرعا بالرفض الأميركي لاستيراد الأسلحة وتوفير التدريب والدعم المالي اللازم .. من أجل أن يحققوا هدف الولايات المتحدة المعلن».

في المستوى السياسي، وليس القيمي، يأتي الحديث عن الحاجة إلى التسليح في محاول لتحقيق « توازن سياسي» يؤدي إلى فرض التفاوض على جميع الأطرف السورية. وفي هذا السياق من الغبن أن تعتقد أوساط في المعارضة السورية أو بعض القوى المقاتلة ممن ترى فيها الولايات المتحدة الأهلية لتلقي السلاح أن التسليح المقصود يستهدف إسقاط الأسد. إذ أن كل الحديث الدائر عن بعض التوجهات الأوروبية لرفع الحظر عن للتسليح، تصب في خانة: « الأسلحة غير الفتاكة». أي التي لا تؤدي إلى قلب موازين القوى بل إلى « تحريك العملية السياسية» فقط لاغير.

وفي السياق أكد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، خلال اجتماعهم في بروكسيل (12/3/2013) أن: « الأولوية تبقى في إيحاد حل سياسي للأزمة السورية». ومن جهته قال وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، أن المناقشة لم تنته بعد .. و : « يبدو لي مؤكدا أن قضية رفع الحظر على الأسلحة تطرح أكثر فأكثر لأننا نشهد انعدام توازن أكيد بين بشار الأسد الذي يتزود بأسلحة قوية، مصدرها إيران وروسيا والائتلاف الوطني الذي لا يملك هذه الأسلحة نفسها». وختم كلامه أمام النواب الفرنسيين قائلا: « إذا كنا نريد زعزعة بشار الأسد فلا بد من إفهامه بأنه لن يتمكن من الانتصار بقوة السلاح، ولا بد لذلك من خلق توازن قوى جديد». وفي 14/3/2013 أعلن فابيوس أن باريس ولندن ستطلبان تقديم موعد الاجتماع المقبل للاتحاد الأوروبي ( المقرر نهاية شهر أيار / مايو) بشأن حظر الأسلحة على سوريا، وفي حال عدم التوصل إلى إجماع، ستقرران تزويد المعارضين السوريين بأسلحة بصفة فردية، موضحا أنه: « لا يمكن السكوت عن الخلل الحالي في التوازن بين إيران وروسيا اللتين تزودان نظام الأسد بالأسلحة من جهة، وبين الثوار الذين لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم من جهة أخرى». وقال إن: « رفع الحظر هو أحد الوسائل الوحيدة المتبقية لتحريك الوضع سياسيا». وفي 16/3/2013 رأى وزير الخارجية الفرنسي السابق، آلان جوبيه، أن: « تسليح المقاتلين السوريين المعارضين سيتيح إعادة التوازن بعض الشيء إلى الأمور بين النظام الذي تزوده روسيا وإيران بأسلحة ثقيلة والمعارضة التي تقاتل بأسلحة خفيفة». ومن جهته أوضح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن تحفظات المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لا تتصل بمعارضتها لرفع الحظر، من حيث المبدأ، لكنها « تريد دراسة كل العواقب»، معتبرا أن: « المجازفة الكبرى ستكون عدم التحرك، وأن ترك الأمور على حالها يعني تعميم الفوضى»، معتبرا أن: « الخطر الأكبر هو عدم التحرك».

أما فيما يتعلق بالموقف الأمريكي؛ فقد سبق أن أعلنت الولايات المتحدة تأييدها لنوعية الدعم الذي أعلنت عنه فرنسا وبريطانيا لقوات المعارضة السورية, ولكنها أكدت في الوقت نفسه ( 15/3/2013) على لسان المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، أن الدول الأوروبية: « تتحدث عن تخفيف الحظر المفروض على الأسلحة وليس رفع الحظر»، وأن: « الأمور التي يتحدث عنها بعض الحلفاء تبقى في هذه المرحلة في خانة العتاد غير الفتاك». ومن جهته استعان وزير الخارجية، جون كيري، في 17/3/2013 بتصريحات رئيسه ليؤكد أن: « الرئيس باراك أوباما قال بوضوح إن الولايات المتحدة لن تقف في وجه الدول التي اتخذت قرار تسليم السلاح (إلى المعارضة السورية) سواء كانت فرنسا أو بريطانيا أو غيرهما، من الدول، لكن: « بلاده ترغب في أن يبقى الباب مفتوحا أمام الحل السياسي».

بعد المستويين القيمي والسياسي، يبقى المستوى الأمني المتعلق بوضع القوى المقاتلة ومرحلة ما بعد الأسد. ف « التوازن» و « التحريك» الذي يتحدث عنه رموز « المركز» يتصل أيضا بالتفاوت القائم في ميزان القوى المسلحة بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية، سواء في مستوى التدريب والتنظيم أو في مستوى التسليح أو في مستوى الحاضنة الاجتماعية. وعلى كل المستويات فإن التقييم الدولي يميل لصالح أفضلية القوى الإسلامية. وهذا ما يسبب القلق ل « المركز» والقوى الإقليمية على السواء. وتبعا لذلك كشفت صحيفة « الواشنطن بوست – 24/2/2013» النقاب عن إرسال نحو ثلاثة آلاف طن من الأسلحة والعتاد إلى جنوب سوريا اشتُريت من كرواتيا ومولتها بحسب « النيويورك تايمز – 26/2/2013» السعودية. وبالتالي ثمة حاجة ملحة، قبل رحيل الأسد وليس بعده فحسب، إلى إحداث توازن عسكري عام وآخر خاص يتعلق بين ما يراه « المركز» الشمال ذو الغالبية الإسلامية والجنوب ذو الحضور العلماني. وفي السياق تضيف « الواشنطن بوست» أن تسليح: « الثوار المعتدلين في جنوبي سوريا يأتي في محاولة من قوى خارجية لمواجهة النفوذ المتزايد للجماعات الإسلامية المتطرفة في شمالي البلاد، وذلك من خلال تعزيز موقف المقاتلين المعتدلين في الجنوب». وتنقل عن مسؤول عربي القول: « إن الفكرة تتمثل في شحن أسلحة نوعية وثقيلة مع التأكد أنها تصل إلى أيدي الشباب الأخيار»، مضيفا أنه: « إذا أردنا إضعاف إضعاف جبهة النصرة، فإنه لا يتم ذلك من خلال حجب الأسلحة، ولكن من خلال تعزيز موقف المجموعات الأخرى».
وفي سياق « التوازن» بين القوى المسلحة أدلى بل بعض المسؤولين العسكريين السوريين والناشطين بشهادات لوسائل الإعلام تحدثوا فيها بصريح العبارة، خلال اجتماعات لهم مع قوى استخبارية دولية، عن دعوتهم إلى مقاتلة القوى الجهادية، وأشاروا إلى أن هناك نوع من الرضى وغض الطرف لدى القوى الدولية عن عزوف بعض القوى المحلية، إسلامية وغير إسلامية، عن خوض القتال ورفض مد يد العون للقوى المقاتلة فعليا، والاكتفاء بتخزين السلاح!!! فضلا عن قوى دولية تقاتل الثوار بأسلحة فاسدة غالبا ما تتسبب بقتلهم، بالإضافة إلى اختراقات محلية ودولية. أما « مهمات» الغدر « القذرة»، التي نفذتها قوى بعينها في درعا ودمشق وحلب ضد قيادات ومقاتلين إسلاميين، فقد أصابت ظهورهم في مقتل! وأغلب الاتهامات في هذا السياق تتجه نحو كتائب تعمل تحت اسم « الجيش الحر» وأخرى تابعة أو موالية ل « الإخوان المسلمين» وثالثة ل « جبهة» « الأصالة والتنمية» المحسوبة على فرق « الجامية» و « المدخلية» أو التي تنسب نفسها لما يسمى ب « أهل الأثر». بل أن الاتهامات تصل إلى حد اعتبار مثل هذه القوى النسخة المماثلة ل « الصحوات» التي أسستها الولايات المتحدة في العراق، واستخدمتها في ضرب المشروع الجهادي، أو شقيقتها المسماة ب « اللجان الشعبية» التي تقاتل « أنصار الشريعة» في اليمن أو القوى الصوفية في الصومال المتحالفة مع الأثيوبيين والحكومة في قتال « حركة الشباب المجاهدين».
وفي السياق نُقل في 29/11/2012 عن الضابط السابق بوكالة الاستخبارات المركزية، والمتخصص بالشؤون العسكرية السورية، جيفري وايت، قوله: « إن واشنطن تعتقد أنه إذا لم تفعل شيئا، فإن الحرب ستنتهي ولن يكون لديها أي نفوذ وسط القوات المقاتلة على الأرض». لاسيما وأن المشكلة من وجهة نظر الإبراهيمي (30/12/2012)،: « أن تغيير النظام لن يؤدي بالضرورة إلى تسوية الوضع». بل أن إحدى المشكلات الكبرى، بحسب الملك الأردني، عبد الله الثاني، (26/1/2013) تكمن في: « أن مقاتلي تنظيم القاعدة أقاموا قواعد في سوريا العام الماضي وأنهم يحصلون على أموال وعتاد من الخارج»، مشيرا إلى أن: « طالبان الجديدة التي سيضطر العالم للتعامل معها ستكون في سوريا»، .. بل .. « أنه حتى وإن تحقق السيناريو الأكثر تفاؤلا، فإن تخليص سوريا منهم سيستغرق ثلاث سنوات على الأقل بعد سقوط الأسد».

وفي مقالة الساسة الأمريكيين الثلاثة، الآنفة الذكر، في « الواشنطن بوست – 31/12/2012»، ورد القول فيها: « إن عدم توفر المساعدات الإنسانية الأميركية للشعب السوري يعني إتاحة الفرصة للجماعات المتطرفة بتوفيرها وتقديمها، وبالتالي الفوز بمحبة وموالاة الشعب السوري الذي يعاني الأمرين»، موضحين أن: « العديد من السوريين يعتقدون أن الجماعات المتطرفة هي الوحيدة التي ساعدتهم في القتال ضد الأسد».

وفي 28/2/2013 ذكرت « نيويورك تايمز» أن مسؤولين أمريكيين أكدوا أن: « الولايات المتحدة عززت بصورة كبيرة دعمها للمعارضة السورية، وذلك بالمساعدة في تدريب مقاتلين من المعارضة في قاعدة بالمنطقة، كما أنها عرضت للمرة الأولى تقديم مساعدة ومعدات غير قاتلة للجماعات المسلحة بما يساعدها في الحملة العسكرية الدائرة». ونقلت عنهم القول إن: « مهمة التدريب الجارية حاليا تمثل أعمق تدخل أميركي في الصراع السوري، رغم أن حجم ونطاق المهمة لم يتضح، كما لم تتضح الدولة التي تستضيف التدريبات. ورأت الصحيفة أن: « الولايات المتحدة تتطلع إلى تحجيم قوة من وصفتها بالجماعات المتطرفة عن طريق مساعدة ائتلاف المعارضة السوري على القيام بالخدمات الأساسية في المناطق التي يسيطر عليها».
من جهته، وفيما يتعلق بالخشية من القوى الإسلامية، رأى وزير الخارجية البريطاني، وليام هيغ، أنه: « كلما طال القتال الجاري بسوريا بين الثوار والقوات الموالية للرئيس بشار الأسد زادت مخاطر تشكيل جيل جديد من المتشددين المدربين على القتال سيمثل تهديدا لبريطانيا ودول أوروبية أخرى ... سوريا ... هي المقصد رقم واحد للجهاديين في كل مكان في العالم اليوم ... والثورة السورية ... ستكون الحالة الأكثر حدة لانتفاضة يختطفها الإسلاميون». هذه التصريحات أدلى بها هيغ في 15/2/2013 للصحفيين في المعهد الملكي المتحد للخدمات، وهو مركز للدراسات العسكرية. وجاءت في سياق خطاب يحدد إستراتيجية بريطانيا لمكافحة ما يسمى الإرهاب، وتَضمَّن دعوة مبطنة للتخلص من الإسلاميين حين قال: « ربما لا يمثلون تهديدا لنا عندما يذهبون أولا إلى سوريا، لكنهم إذا ظلوا على قيد الحياة ربما عاد بعضهم وقد ازدادوا تشددا في الفكر واكتسبوا خبرة في السلاح والمتفجرات». أما الروس فعليهم أن يدركوا أنه: « كلما طال أمد الصراع تزايد خطر هذا الأمر، وهي نقطة يجب ألا يغفلها صناع القرار في روسيا وغيرها».
أما وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، الذي لم يغفل تحذيرات هيغ للروس، فقد جدد تأييده لتسليح الثوار معتبرا أن: « هذه الخطوة ستمنع تنظيم القاعدة من الانتصار في سوريا». ومؤكدا من جديد على صيغة « التحريك السياسي» في مقابلة تلفزيونية ( 18/3/2013) قال فيها: « إذا أردنا التوصل إلى حل سياسي في سوريا فيجب تحريك الوضع العسكري ميدانيا، وتسليح مقاتلي المعارضة للتصدي للطائرات التي تطلق النار عليهم». وفي تصريحاته لشبكة « سكاي نيوز – 18/3/2013 » عاد وليام هيغ ليدلي بتصريحات بالغة الحذر والدقة، سواء لجهة القوى المعنية بالتسليح والمراقبة والسيطرة أو بالنسبة لإعادة النظر في المسألة برمتها إذا ما تعلق الأمر ب « الإرهاب الدولي». وفي مستوى القوى المستهدفة بالتسليح قال: إن نقل الأسلحة يجب أن يكون: « خاضعاً للسيطرة ويتم بعناية فائقة، وخاصة ما يتعلق بنوعيتها وطرق مراقبة ما تم إرساله منها، والحصول على ضمانات بوجود حاجة إليها من الجماعات المتلقية لها». أما في المستوى الثاني فقال: « في حال تفاقمت الأزمة في الأسابيع والأشهر المقبلة، وصارت هناك مخاطر أكبر، فيجب أن نوازنها بمخاطر الإرهاب الدولي والتطرف التي تترسخ في سوريا، ومخاطر زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق والأردن، ومخاطر الأزمة الإنسانية المتفاقمة».
ولتجنب تداعيات الثورة السورية، دعا الكاتب الأميركي ريتشارد كوهين في صحيفة « الواشنطن بوست – 19/3/2013 الولايات المتحدة إلى: « تسليح الثوار السوريين المعتدلين، وإلى الاضطلاع بدور قيادي يمنع كارثة إقليمية في الشرق الأوسط»، و : « الاضطلاع بدور قيادي في سوريا وإلى إنشاء منطقة عازلة، محذرا من تردد الإدارة الأمريكية بالإشارة إلى أن: « القتال الشرس الذي نخشاه تنفذه الفصائل الجهادية».
وفي السياق الحذر إياه، ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية، « فرانس برس 16/3/2013» ( نقلا عن صحيفة « لوس أنجلوس تايمز») أنه طبقا لمسؤولين أمريكيين، حاليين وسابقين، فإن: « وكالة الاستخبارات المركزية تجمع معلومات حول الإسلاميين المتطرفين في سوريا لإمكانية توجيه ضربات إليهم بطائرات بدون طيار في مرحلة لاحقة» ... وأن ... « الوكالة تعمل بشكل وثيق مع الاستخبارات السعودية والأردنية وغيرها من أجهزة استخبارات المنطقة الناشطة في سوريا». ولمواجهة مرحلة ما بعد الأسد، طالب السيناتور الأميركي الجمهوري، ماركو روبيو، في مؤتمر صحفي له في « إسرائيل» (20/2/2013) الولايات المتحدة: « أن تحرص على أن تكون القيادة السورية الجديدة مسلحة تسليحا جيدا وقادرة على إدارة البلاد بعد سقوط الأسد». لعلها ستكون كذلك مع الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة!!!

رابعا وأخيرا: الحكومة المؤقتة
فبعدما أشيع من خلافات بين أعضاء الائتلاف المعارض في اجتماعات سابقة في القاهرة؛ أعلنت المعارضة السورية في أعقاب اجتماعاتها في استانبول ( 19/3/2013) عن تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة الأمريكي ( الكردي) من أصل سوري، غسان هيتو. وبحسب تصويت داخلي فقد حصل هيتو على 35 صوتا من بين 49، فيما حصل أسعد مصطفى على سبعة أصوات. وبحسب بعض التصريحات فإن أمام هيتو شهر من الترتيبات قبل أن يتوجه إلى الأراضي السورية. ويأتي تشكيل الحكومة في خضم الحديث عن تغير في السياسات الأمريكية والأوروبية حول تسليح الثوار السوريين وتغيير « قواعد اللعبة» كما قال وزير الخارجية الأمريكي، دون كيري.
وإذا قمنا بمقاربة كافة المواقف والتصريحات الدولية والإقليمية وكذا تصريحات المعارضة فإن الثورة السورية ليست إلا صداعا دوليا مريرا يمكن أن يقلب كل المعادلات الدولية والإقليمية والمحلية. وبالتالي ما من حل دولي إلا بالصيغتين السياسية والأمنية. وتبعا لذلك من المستحيل أن يكون الإعلان عن الحكومة المؤقتة في استانبول (19/3/2013) خارج إحدى الصيغتين أو نتاجهما وفي خدمتهما معا. ومن الطريف الإشارة إلى ما نقلته صحيفة « نيويورك تايمز – 19/3/2013 » عن أعضاء في الائتلاف المعارض قولهم أن رئيس الحكومة، غسان هيتو، هو: « خيار الإخوان المسلمين في سوريا»، تماما كما كان برهان غليون، الرئيس السابق ل « المجلس الوطني»، خيار « الإخوان المسلمين» بحسب المراقب السابق للجماعة، علي صدر الدين البيانوني، وكما كان معاذ الخطيب أيضا.

في سياق تحذيره من انهيار النظام السوري والحاجة إلى حل سياسي قال الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في مؤتمر صحفي بدبي (16/1/2013)، بأن فرنسا ترغب في: « تسريع مرحلة الانتقال السياسي، والعمل على أن يتمكن الائتلاف الذي يجمع كل المعارضة من أن يكون السلطة الشرعية». وبالتأكيد لم يكن الإعلان عن الحكومة المؤقتة بعيدا عن تصريحات هولاند ولا عن المساعي الأمريكية على وجه التحديد. فهي سليلة ما يسمى ب « جماعات الدعم» السورية المتنوعة التي تأسست برعاية ووصاية أمريكية صرفة. وهي جماعات علمانية لبرالية من ألفها إلى يائها، ولت تغير « النفحة الإيمانية» المصطنعة لرئيس الحكومة من هذه الحقيقة.
وعليه فلم يكن مستغربا أن تتوافق في أطروحاتها وتطلعاتها ونمط تفكيرها مع ما يؤمن به معاذ الخطيب، خاصة وأنه سبق وخاطب المجلس الأمريكي السوري (SAC - 16/3/2013) ب « نفحة روحانية» على الطريقة الأمريكية ذاتها، ومقاربا تعددية مجتمع المدينة المنورة بالمجتمع السوري. وتبعا لذلك لم ير في سوريا إلا ذلك: « النبع الحضاري المتجدد» من: « المسلمين والمسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين والأكراد والعرب والتركمان والشركس»، ( وليتك لم تغفل عن اليزيديين واليهود والشياطين وملة إبليس ومن تبعه من الجنة والإنس أجمعين)، أما الوحي والرسول، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، والمهاجرين والشريعة وحكم الله والتمكين للدين والانطلاق لفتح مكة والانتشار العالمي فليسوا مشمولين ب « تعددية» الخطيب!!!

ولا ريب أن نزعة الخطيب الطاغية إلى رِفْعة « التعددية » البغيضة التي يتغنى بها شجعته في كلمته (19/3/2013) على شن هجوم فاضح على المجاهدين، الذين، جاؤوا لنصرة الشعب السوري، إلى حد وصفه لهم ب « التكفيريين» غير المرحب بهم، متهما دولهم بالسعي إلى التخلص منهم: « هناك دول تدفع ملايين الدولارات لإرسال مئات من الشباب للقدوم والقتال في سوريا للتخلص منهم»، ولأنه (هم = السوريين) ضد أي: « فكر تكفيري أو دموي» .. ف .. : « لن يسمحوا باستخدام هذه الحيلة لتدمير سوريا». وكأن هؤلاء هم الذين دمروا أو تسببوا بتدمير سوريا، وكأن سوريا لم تُدمَّر بعد على عين ومرآى النظام الدولي. إلا إذا كان الخطيب صدق أن هؤلاء « الورود الضحايا» هم العائق الأكبر في نصرة الثورة أو تسليحها.

هذه اللغة العدائية التاريخية، والتي لا يمكن أن تصدر إلا عن ألسنة « المركز» وحلفائه والخصوم وأصحاب الهوى والأجندات ومعهم المهووسين بالولايات المتحدة والمغرضين والظالمين والمفترين، لن تنجح في « إغراء» الأمريكيين في دعم الثورة السورية، كما أنها لا يمكن أن تصدر إلا بوصفها مستحقات سياسية وأمنية يجري دفعها لواشنطن لقاء سياسة « التوازن» و « التحريك». ومثل هؤلاء الذين عادة ما يجري صناعته وتسويقهم على حين غرة لن يتعظوا يوما فيمن سبقهم إلى المراهنة على الولايات المتحدة. وسينجحوا دوما في إقناع أنفسهم أن الولايات المتحدة وحلفاءها من دول الإجرام ليست هي المسؤولة عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى في الصومال والعراق وأفغانستان وليبيا وفلسطين. ولأنهم فاسدون ومفسدون فلن يحتاجوا إلى القليل أو الكثير من الوقت كي يدركوا أن التدخل الأمريكي لم يأت بحرية أو ديمقراطية أو مدنية في هذه البلدان، ولم يأت بتقدم أو نهضة بقدر ما نهب الثروات وأفقر الشعوب، ولم يسبق له أن منع فسادا أو اغتصابا أو اختطافا أو انتهاكا للحرمات. فمن هو الدموي أيها الخطيب؟
مشكلة الخطيب، ومن معه، أنه لا يمتلك أية قوة أو مشروعية على الأرض لكنه يتحدث وكأنه عظيم سوريا، ويطالب الدول بسحب مواطنيها، ويعلن حكومة تمارس مهامها في المناطق التي ساهم هؤلاء « الدمويون التكفيريون» بتحريرها!!! فكيف سيتصرف مع أشقائهم « المحليين» منهم؟ هل سيستعين بالولايات المتحدة للقضاء عليهم؟ أم سينفيهم من الأرض؟ ألا يعلم الخطيب أن أكثر من نصف الثوار في سوريا اليوم من الإسلاميين الذين يخوضون أشرس المعارك ضد النظام، ويمسكون بأخطر الجبهات فيها؟
مثل هذه الحكومة التي تخطط للنزول إلى الميدان، ستسعى لتسلم سلطاتها وإدارة المناطق وتقديم الخدمات. والعجيب أنها لا تمتلك القدرة على إدارة حكومة في الحالة السلمية، فكيف ستدير وضعا متفجرا في بيئة مدججة بالسلاح والعنف إلا إذا كان السلاح هو هدفها الأول؟ وكيف ستتصرف مع سلاح يقدم خدمات الحماية والأمن والتقاضي والإغاثة؟ بل كيف لها أن تتشكل وسط تجاهل لإجمالي الجسم الثوري المسلح الذي يقدم كل التضحيات بالنفس والمال والأهل والممتلكات؟ وماذا عن خدماتها المنتظرة في تسليح الثورة؟ ومن هم المعتدلون المؤهلون بعرف الخطيب والحكومة لتسلم السلاح المنتظر؟ ولأية أهداف؟ أم أن الخدمات ستقتصر فقط على إثارة الانقسامات والضغائن وحجب الذخيرة ونزع السلاح والغدر ب « التكفيريين» الوافدين و المحليين؟
الثابت أنه ما من حاجة تذكر في تشكيل هذه الحكومة في الوقت الذي تجري فيه معارك طاحنة في البلاد، وسط غياب أي أفق سياسي أو أمن يحمي الحكومة نفسها من هجمات النظام. وإذا أخذنا بعين الاعتبار سلسلة المراوغات والأكاذيب التي أدار بها « المركز» وقائع الحدث السوري خلال السنتين الماضيتين فمن الغبن الثقة بأن تكون الحكومة القادمة من رحم الولايات المتحدة ( وهي بهذا أشبه ما تكون بوليد سفاح لا يمكن له أن يتمتع بأية شرعية إلا في موطن ولادته) أفضل ممن سبقها من التشكيلات السياسية ك « المجلس الوطني» و « ائتلاف المعارضة». وبالتالي فالتقييم المتاح لتشكيل هذه الحكومة، لا يخرج عن كونها، كما علق أحد السوريين، « حكومة احتلال أمريكي»، نظرا لما يحيط بتشكيلها والإعلان عنها من شكوك، سواء لجهة التوقيت أو لجهة الأهداف المأمولة أو لجهة الجدوى من هكذا خطوة سياسية لا مبرر لها على الإطلاق ..... حقا: هو زمن الهررة حين تستأسد!!!!
يتبع ....
-----------------
ومن باب الإشارة إلى ما كتبناه سابقا في مقالة « الاختراق - 18/11/2012»؛ فليسمح لنا السادة القراء بالتذكير بهذه الفقرات الثلاثة، فلعل الذكرى تنفع المؤمنين:
ليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها قوى « المركز» تحقيق اختراقات في الثورة سواء في صلبها أو عبر هوامشها القريبة والبعيدة. ففي 11/8/2012 أُعلن في واشنطن عن تشكيل جماعة سورية معارضة من ستين عضوا باسم « جماعة الدعم السورية»، لجمع التبرعات المالية والعينية، وزعم لؤي السقا، أحد الأعضاء الاثني عشر في مجلس الإدارة، أن الجماعة: « تمثل آلاف المقاتلين في تسع محافظات، وأن هؤلاء الذين يمثلون ما يقارب نصف المقاتلين في الجيش الحر»!!!، وأنهم: « وقعوا إعلان مبادئ يدعو إلى دولة ديمقراطية لجميع السوريين بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو العرق، وترفض المبادئ كذلك الإرهاب والتطرف والقتل بغرض الانتقام»!!!
وفي الولايات المتحدة أيضا، وفي ذات السياق من التواصل مع المعارضة أو صناعتها، نقلت وسائل إعلام في 12/8/2012 عن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، بعد لقائها نظيرها التركي، القول: « أنها التقت مجموعة من الناشطين السوريين والخبراء والقانونيين والصحفيين والقيادات الطلابية في محاولة لمعرفة ما يمكن للولايات المتحدة فعله لمساعدتهم». وفي تصريح إذاعي (19/9/2012) أعلن السفير الفرنسي في سوريا إريك شوفالييه، المكلف بالملف السوري عن موقف بلاده بالقول: « نعمل مع المعارضة لمساعدتها على تنظيم نفسها، ولدي تعليمات من رئيس الجمهورية للاتصال بمجمل مكونات المعارضة ومن ضمنها المجموعات المسلحة، ونحن أول دولة تقوم بذلك بهذا الشكل المنظم».
« قيادة واحدة»! لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعيدا عنها، وهو يخوض آخر مناظرة طاحنة له مع خصمه في الانتخابات الرئاسية مت رومني (23/10/2012)، حيث كانت الثورة السورية حاضرة بقوة في العاصفة. وخلال المناظرة كان أوباما صريحا للغاية وهو يقول: « إننا نساعد المعارضة على تنظيم صفوفها ونحرص بصورة خاصة على التثبت من أنهم يعملون على تعبئة القوى المعتدلة في سوريا .. نتثبت من أن الذين نساعدهم هم الذين سيكونون أصدقاء لنا على المدى البعيد وأصدقاء لحلفائنا في المنطقة على المدى البعيد .. فالثوار الذين يصبحون مسلحين هم الأشخاص الذين سيصبحون الأطراف المسؤولة، علينا التصرف بحيث نكون واثقين ممن نساعد، وأننا لا نضع أسلحة بأيدي أشخاص قد يوجهونها في نهاية المطاف ضدنا، أو ضد حلفائنا بالمنطقة» .. ولأن أوباما ليس وحده من يؤمن بهذا التحرك؛ فقد دعا: « للعمل مع شركائنا وبمواردنا الخاصة لتحديد أطراف مسؤولة داخل سوريا، وتنظيمها وجمعها معا في مجلس يمكنه تولي القيادة بسوريا، والتثبت من امتلاكهم الأسلحة الضرورية للدفاع عن أنفسهم».
لكن ليس من العجيب أن تواصل الولايات المتحدة تجديد عزمها على تفصيل الثوب الجديد عبر إقامة كيان بديل عن المجلس الوطني، بصريح القول والفعل، ورغم أنف قوى المعارضة، وبلسان كلينتون: « إن واشنطن أعدت مرشحين سوريين للانضمام إلى أي قيادة جديدة للمعارضة يمكن أن تنبثق من مؤتمر مجموعة أصدقاء سوريا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.