فى كتب التاريخ تبدو الصورة واحدة وواضحة الملامح وكأن أحدهم نسخها بالكربون، الخطوط الرئيسية فى الصورة تبدو دوماً واحدة لا تغيير ولا تعديل فيها، بعض التغييرات هنا، بعض الاختلافات هناك، ولكن كلها تتعلق بأمور فرعية؛ اختلاف الأسماء، اختلاف الأزمنة، اختلاف السياق الدرامى للأحداث. الصورة التى أحدثك عنها هى صورة تطور المجتمعات ومن بعدها الدول، أكثر المجتمعات تطوراً وتقدماً يموت ويفقد بريقه وقوته إن أصابته حالة خمول، وتضعف وترتبك دولته إن تحولت ساحاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى بحيرة راكدة لا موجة فيها، ولا تجديد للماء. وفى الوجه الآخر من تلك الصورة تظهر الملامح معكوسة، أكثر المجتمعات تخلفاً وضعفاً وتأخراً تستعيد بريقها وتتماسك، وتصحو دولتها وتتقدم وتتطور إن أصاب بحيراتها الراكدة حجر يُجرى موج الاختلاف والتغيير والجدل حول القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ملخص ما سبق أن المجتمع، وإن كان متقدماً، يموت إن ماتت بداخله حالة التنوع والجدل والنقاش على كافة المستويات، يمرض إن كف أهله عن الإبداع والابتكار والمحاولة. وبالعكس، المجتمع إن كان ميتاً يمكن إيقاظه من جديد وبناء دولة قوية على أكتافه حينما يؤمن أهله بأن الجدل الدائر حول كل ما هو سياسى وفنى واقتصادى علامة من علامات عودة النبض وليس علامة من علامات الارتباك والخيانة، فليس مطلوباً أن نكون جميعاً نسخاً متشابهة مصفقة على طول الخط أو معترضة على طول الخط كى تستقر الدولة وتحافظ على كيانها. تأمل ما سبق يدفعنى لإخبارك أننى على عكسك وعكس كل مصدّرى طاقات التشاؤم والقلق، أشعر بتفاؤل كبير بمستقبل هذا المجتمع ومصير هذا الوطن. يعتقد البعض أو يؤمن أو يروج أن السنوات الخمس الماضية بعد ثورة 25 يناير هى سنوات الخراب والضياع والارتباك، وأعتقد أنا أن هذه السنوات تمثل لوحة من الإرهاصات فى مختلف المجالات توقظ هذا المجتمع من منامه وتبعث فيه الروح من جديد وتلقى كثيراً من الأحجار فى مياهه الراكدة، وتلك حالة كفيلة بأن تخلق أجواء من الجدل والنقاش والحوار قد يبدو فى أوله مرتبكاً ومثيراً للتوتر، ولكن مع تكراره سيكون مثل الدرس الذى يجعل من هذا الشعب كما المكافحين والعباقرة الذين علموا أنفسهم بأنفسهم. تشهد مصر الآن حالة مخاض قد لا تعجبك، ولكنها مقدمة لظهور ملامح لوطن أقعدته سنوات الموات وتجفيف المنابع خلال حكم مبارك عن الحركة، تشهد مصر الآن جدلاً سياسياً، وعملية «هات وخد»، و«صد ورد» بين تيارات سياسية مختلفة ورموز سياسية متعارضة بعد سنوات كنا لا نسمع فيها سوى صوت واحد ممثل فى الرئيس وحزب الرئيس ورجال الرئيس وإعلام الرئيس. تشهد مصر الآن حالة من الزخم الفنى والغنائى ممثلة فى العديد من الفرق الموسيقية المعروفة بالأندرجراوند وعودة الفرق المسرحية وظهور ألوان جديدة من فنون الغناء الشعبى، وعودة للإنتاج الدرامى والسينمائى بعد أن أصاب ذراعها الفنية الشلل فى آخر سنوات حكم مبارك، فكنا لا نرى سوى أفيشات بضعة نجوم على شاشات العرض، ولا نعرف سوى عدد من المطربين المحفوظين بالاسم، ونقرأ الفاتحة على روح المسرح. تشهد مصر الآن جدلاً حول الخطاب الدينى والأفكار الفقهية المتصارعة، نسمع شيخاً يطالب بالتجديد، وآخر يطلب الاجتهاد وثالثاً يحدثنا عن مواكبة العصر، ورابعاً يعارضهم، بعد أن عشنا لسنوات طويلة لا نسمع سوى صوت شيخ الأزهر فى حديث الروح، والمفتى فى ليلة رؤية هلال رمضان، والسلفيين فى شرائط الكاسيت داخل الميكروباصات. مصر تدب فيها روح ثورة إيقاظ المجتمع ولكن رويدا رويدا، تعيش أجواء من الجدل والنقاش والحركة بعد أن عاشت سنوات ركود، ومن يتعثر اليوم فى حركته سيسير غداً بشكل أفضل، ومن يسير اليوم متعثراً ويضحك عليه الناس ويشعرون بالقلق على مصيره أفضل كثيراً من القعيد الذى هزمه الشلل واستسلم له دون مقاومة.. تفاءلوا وإن كان المشهد مخالفاً لهواكم.