فى مواجهة ميل سلفى يرونه متوغلا فى جماعتهم وفى المجتمع كله، يعلن بعض الشباب داخل الإخوان اختلافهم ورغبتهم فى اتجاه الجماعة إلى وجهة أخرى أكثر انفتاحا وتجددا داخل «الأسرة» التى تعد نواة النظام التربوى للجماعة.. يظهر الجدل والصدام فينسحب البعض ويستمر البعض الآخر متفائلاً ومعتبراً نفسه طليعة تغيير قادم رغم المعوقات. لا يبدو شابا صداميا حادا، بل على العكس. الانطباع الذى يعطيه الشاب أسامة درة أنه أكثر هدوءا من باقى أبناء مدينته النشطة الحيوية دمياط. أسامة المحاسب الشاب الذى تجاوز منذ عام منتصف العشرينيات كان قبل أسابيع سبب أزمة داخل شعبة الإخوان فى دمياط بسبب جمعه لكتابات كان ينشرها على صفحته على الفيس بوك ونشرها فى كتاب. «أنا فى قاع الجماعة، والقاع بارد راكد. أنا أتعفن حيث أنا، التلف يتراكم بى، أنا أتيبّّس هنا، وأخشى أن تأتى المعركة يوما فأعجز عن القيام لها، حتى الإخوة الأعزاء فى أمن الدولة خذلونى... أنتظر مداهمتهم منذ تسع سنين على الأقل، ولا يأتون. هم أيضا يعرفون أن القاع كئيب غير مهم». هذه الكلمات التى تظهر على ظهر غلاف كتاب أسامة درة الصادر مؤخرا «من داخل الإخوان أتكلم» لم تفلح وحدها فى تبديد ركود القاع الذى يتحدث عنه. ولكن حواراته مع الصحف بشأن الكتاب، والتى أبرزت آراءه الناقدة للخيارات السياسية للجماعة وخواطره كشاب إخوانى حول الجنس والعلاقات، هى التى نبهت مسئولى الإخوان فى دمياط فأصدروا قرارا بأنه «موقوف» العضوية. ولكن تدخلات القيادى عبدالمنعم أبوالفتوح ثم أحمد البيلى مسئول المكتب الإدارى أسفرت عن توجيهات بتجميد هذا القرار، والأمر لم يتم حله تماما حتى الآن. بابتسامة هادئة يقول أسامة: «أنا لا أعرف معنى الإيقاف أصلا. باستثناء أنى لم أعد أحضر اجتماع (الأسرة)، فأنا وسط الإخوان ما زلت. ورغم تدخل قيادات مثل عبدالمنعم أبوالفتوح والبيلى فلابد أن يتم التشاور للوصول لحل مع قيادات شعبة دمياط وفق قواعد العمل المؤسسى داخل جماعة الإخوان. وأيضا لأنهما أوصيا أن يتم البحث عن (أسرة) أخرى تستوعب أفكارى ونشاطى بسبب عدم توافقى مع نقيب أسرتى الحالية». «الأسرة» هى تجمع لعدد من الإخوة يلتقون أسبوعيا تحت إشراف مسئول يطلق عليه (نقيب) يتابع أحوالهم الشخصية والدينية ونشاطهم مع الجماعة، يتشاركون الذكر والدعاء والعبادة، ومناقشة الشئون العامة والقضايا الملحة. تشكل الأسرة النواة التنظيمية الأولى ل«مجتمع» الإخوان وتهدف لتحقيق «التعارف والتفاهم والتكافل» كما قال حسن البنا مؤسس الجماعة فى «رسالة التعاليم». يستخدم أسامة فى حديثه كثيرا كلمة «المجتمع»، يقصد المجتمع الإخوانى، للإشارة إلى شىء أكبر ربما من الهيكل التنظيمى للجماعة لايزال أسامة يشعر بأنه وسطه رغم توقفه عن حضور «الأسرة». «نعم، الإخوان مجتمع وليس فقط تنظيما سياسيا أو توجها دينيا»، هكذا يرى أسامة درة ناتج التركيبة المختلفة لجماعة الإخوان التى أراد مؤسسها أن تكون جماعة شاملة لتناسب «شمول الإسلام» كما يراه. فهى «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، على حد تعبير حسن البنا فى «رسالة المؤتمر الخامس». وسط هذا المجتمع لا يرى أسامة درة نفسه مهمشا أو شاذا بل يعتبر كونه «إخوانيا» هى «صفة لازمة» ولذلك جعل عنوان كتابه «من داخل الإخوان أتكلم» فهو يرى أن معظم كلامه تعبير عما يجول بخاطر أغلبية شباب الجماعة وربما يرددونه فى جلساتهم الخاصة، ولكنهم ربما لا يملكون نفس الجرأة للتعبير عن ذلك. يعبر أسامة من زاوية شخصية عن نفس ما عبر عنه عدد من مدونى الإخوان وأثاروا الجدل. مناقشة جمع الجماعة بين الجانب الدعوى الدينى والجانب السياسى والدعوة إلى فك الارتباط بين الكيان الدينى وبين جانب سياسى يجب أن يتخذ شكل حزب، إبراز الانفتاح على الأدب والفن والفكر «غير الإسلاميين» بالضرورة، التعبير عن بعض الخواطر العاطفية أو الجنسية والتلميح إلى انتقاد الفصل الصارم بين الجنسين ومنع أى تواصل بينهما. يكتب أسامة على صفحته فى الفيس بوك ولم يتعامل مع عالم المدونات الذى خبا بريقه بعض الشىء. ولكنه بشكل ما يمثل امتدادا لموجة التعبير التى أطلقها شباب من الإخوان قبل خمس سنوات فى مدوناتهم الشخصية، ويبدو أن بعض المشكلات متشابهة أيضا. «تمرد يا مجدى» فى مدونته «يلا مش مهم» كتب مجدى سعد تدوينة بعنوان «علموا أنفسكم التمرد والدهشة ورمى الأحجار»، دعا فيها شباب الإخوان إلى التمرد على الأفكار القديمة والقوالب النمطية فى التفكير وانتقد «المغالاة فى تطبيق السمع والطاعة» فى العلاقة بين المربى والشباب ودعاهم إلى القراءة والاستماع إلى المختلفين ورمى الأحجار فى البرك الراكدة. «تمرد يا مجدى!» كان هذا هو رد نقيب أسرة مجدى سعد. بالرغم من أنه أبدى تفهما لما كتبه إلا أن مصطلح التمرد كان صادما بالنسبة له. ولأن مجدى سعد كان ناشطا فى قسم الطلبة فى الجماعة، فإن بعض المسئولين نبهوه إلى أن بعض كلامه قد يساء تفسيره وتطبيقه من بعض الشباب المتحمسين. يحكى مجدى سعد أن إساءة التفسير حدثت من جهتين. الأولى هى الصحافة التى أحبت أن تصور دعوات «التمرد» كأنها دعوة إلى انشقاق تنظيمى فى حين أنه كان يدعو إليها فى سياق فكرى، بل أكد بوضوح أن الدعوة إلى تغيير الأفكار والإجراءات التنظيمية ليس مدعاة للتخلى عن مسئوليات العمل والحركة داخل الجماعة حتى يحدث التغيير. الجهة الأخرى التى تسىء تفسير الدعوة إلى الأفكار المختلفة هم نقباء الأسر، يعلن مجدى سعد شكواه من أن بعض نقباء الأسر المسئولين عن التربية لا يجيدون استيعاب الشباب وعالمهم الجديد. ولكنه لا يعتبر ذلك صداما يوجب الانسحاب والابتعاد، فهو طلب مرتين تغيير الأسرة لخلافه مع نقباء اعتبروا أفكاره انحرافا وليست اختلافا. وحدث ذلك بالفعل ونجح مجدى فى إقناع المستويات الأعلى بإلحاقه بأسرة مختلفة واستمر مجدى مع نقباء آخرين متفهمين. يبدو أن «الأسرة» تمثل احتكاكا مباشرا بين جيلين تختلف خبرة كل منهما ومزاجه. فى دراسته عن شباب الإخوان التى نشرها مركز «دراسات الإسلام والديمقراطية التابع» لمعهد هدسون فى أكتوبر من العام الماضى، قسم الباحث خليل العنانى الجماعة إلى أربعة أجيال: جيل الحرس القديم الذى يتسم بالمحافظة نظرا لمعايشته الصدام بين الجماعة والنظام الناصرى فى الخمسينيات والستينيات، ولا يزال هذا الجيل على رأس تشكيلات الجماعة، الجيل الثانى هو جيل أكثر عملية وانفتاحا شهد علاقة أحسن نسبيا مع نظام السادات فى السبعينيات ومنه عصام العريان وعبدالمنعم أبوالفتوح. الجيل الثالث يسميهم العنانى «التقليديين الجدد» الذين شهدوا عودة الصدام العنيف مع النظام والمحاكمات العسكرية منذ التسعينيات ويميلون للانغلاق والمحافظة على تماسك التنظيم، وأخيرا جيل الشباب فى العشرينيات والثلاثينيات الذين يميلون أكثر للانفتاح على الآخرين ولديهم مشكلات مع البنية التنظيمية للجماعة ويضغطون من أجل الاستماع إلى أصواتهم. بين الجيلين الأخيرين فى الغالب يحدث الاحتكاك فى الأسر. التدوين أو النشر يختصر الطريق ويقيم حوارا علنيا ينقله الإعلام بين الشباب الأكثر اختلافا وتطلعا وبين مستويات عليا فى الجماعة. ولكن تحت السطح تظل تفاصيل العلاقة داخل الأسرة هى المجال الأهم للمواجهة واختبار الأمل فى التغيير. يحكى هشام عبدالله، الطبيب الشاب، أنه كان مسافرا إلى الدنمارك عقب الجدل الذى أثارته «الرسوم المسيئة» ضمن برنامج للحوار بين الشباب المسلم والشباب الدنماركى. وعندما أثار ذلك فى لقاء الأسرة واجه انتقادا عنيفا من نقيب الأسرة وبعض زملائه. كانت حجتهم هى ضرورة المقاطعة التامة لهؤلاء القوم الذين أساءوا لنبينا بينما كان يحدثهم عن التنوع داخل كل مجتمع وعن اختلاف الثقافات وعن ضرورة إقامة جسور للتفاهم والحوار. المفارقة أنه لم يكن بين هشام وبين نقيب أسرته جسر للتفاهم والحوار، رغم أن هذا هو أحد أغراض تقليد «الأسرة». ولكن يبدو أن الطابع الأبوى العائلى الذى يحمله لفظ «الأسرة» يطغى أحيانا على فكرة التفاهم لصالح فكرة التربية من أعلى، وهو ما يختلف عن أجواء الحرية النسبية التى يتسم بها النشاط فى الجامعة وسط الأقران من الشباب وهو ما اجتذب هشام إلى الإخوان وشجعه على الاقتراب. يعرف هشام أنه لم يصل إلى مرحلة «أخ عامل». المراحل التى يترقى فيها الفرد داخل الجماعة هى «أخ محب» ثم «أخ مؤيد» ثم «أخ منتسب» ثم «أخ منتظم» ثم «أخ عامل». وفى الغالب يبدأ المنضم إلى الجماعة فى حضور أسرة خاصة بإخوة مؤيدين ثم يرتقى ويتنقل فى المستويات حتى يصل إلى مرتبة الأخ العامل. لم يكمل هشام الطريق وفضل الابتعاد، بعد انتهاء مرحلة الجامعة كان انتقاله للنشاط فى المنطقة عبر «الأسرة» محبطا. كما أنه يقول إن تطوره الفكرى استمر مبتعدا تماما عن المشروع السياسى الإسلامى. ويعتبر نفسه الآن ليبراليا بالمعنى العام للكلمة وإن كان يميل لبعض المحافظة فيما يخص الخيارات الأخلاقية. مفترق طرق يعترف مجدى سعد بأنه يلاحظ، بحكم موقعه فى قسم الطلبة بالجماعة، الفاقد الذى يحدث بين مرحلة الجامعة التى تمثل مرحلة خصبة للنشاط وتشهد إقبالا كبيرا من الشباب الذين يقتربون من الإخوان ويرغبون فى الانضمام، وبين ابتعاد بعضهم فى مرحلة ما بعد الجامعة التى يعد الانتظام فى «أسرة» أهم معالمها لكى ينضم إلى إخوان الحى أو المنطقة التى يسكن فيها. يرد مجدى سعد السبب فى ذلك إلى اختلاف طبيعة الحياة الشخصية والالتزامات بين المرحلتين، ولكنه لا ينكر أيضا أن هناك مشاكل تتعلق بالناحية السلطوية فى نظام «الأسرة». ولكن من جهة أخرى قد يمثل بعض الجانب السلطوى عنصرا جاذبا يدعو بعض الشباب للتريث قبل رفض لقاءات الأسرة والابتعاد عن الجماعة. يقول هشام عبدالله إن هناك الكثير من الشباب داخل الإخوان يتبنون آراء مختلفة ويضيقون ذرعا ببعض توجهات قيادات الجماعة وخطابها السياسى، ولكنهم يؤثرون البقاء داخل الجماعة من أجل البقاء داخل جماعة مؤمنة تعين على الطاعة وتجمع أبناءها بانتظام فى أجواء إيمانية وروحانية، بل تحاسبهم بشأن ذلك وهو ركن أساسى من لقاءات الأسرة. ويضيف أن ذلك بالأساس هو دافع الكثير من الشباب للانضمام إلى الجماعة وليس الدافع السياسى، موضحا أنه نفسه ظل لفترة مؤثرا البقاء على لقاءات الأسرة لأنه كان يحب وقتها أن يجد من يسأله ويحاسبه إن كان صلى صلاة الصبح فى جماعة أم لا. ولكن فى جماعة تتبنى العمل السياسى من منظور دينى يتقاطع مستوى الأفكار السياسية والاجتماعية مع المستوى الدينى، ويكون المناخ خانقا بالنسبة للشباب الذين يتوقون إلى بعض التحرر بينما يجدون فى طريقهم مزاجا سلفيا صاعدا. يتفق أسامة درة ومجدى سعد وهشام عبدالله على أن المزاج الدينى السلفى الذى يؤثر على المجتمع ككل يؤثر على الإخوان أيضا لأنهم جزء من المجتمع. ويوضح مجدى أن البنا عندما تحدث عن البعد السلفى عند الإخوان كان يقصد العودة إلى المنابع والأصول الأولى للدين، وليس المقصود هو الاتجاه السلفى الذى تشكل مع ابن تيمية وفقهاء الحنابلة وأهل الحديث ثم محمد بن عبدالوهاب وينتمى إليه مشايخ السلفية الحاليون ويتبنون خيارات أكثر تشددا وتضييقا. يعتقد هشام عبدالله أن الإخوان مرنون ويتأثرون بميول المجتمع، وعندما يكون المجتمع منفتحا يميلون للاجتهادات الأكثر يسرا وعندما يكون المتدينون فى المجتمع أكثر ميلا للآراء المتشددة فإن ذلك ينعكس داخلهم. على عكس خيار هشام بالابتعاد، يعتقد أسامة درة ومجدى سعد أن الجدل بين هذا الميل السلفى والميل المقابل نحو الانفتاح والتجديد لا يدعو لليأس بل على العكس يبدو أنهما متفائلان بل ويعتقدان أن اعتبارهما «مختلفين» داخل الجماعة يستند فى جزء كبير منه إلى اختلافهما، مثل كثير من الشباب داخل الإخوان، عن الصورة النمطية التى يكرسها الإعلام للشاب الإخوانى أو المنتمى لتيار إسلامى بشكل عام. يحكى درة أنه اعتاد كسر حالة التلقى داخل لقاءات الأسرة بفتح نقاشات حول قضايا اجتماعية أو فكرية، ويرى أن شباب الأسرة ينقسمون عادة إلى 30% من الموافقين له و30 % من المعارضين و40 % يبدون حيادا أو قلة اهتمام بالجدل. ويعتقد أن نظام التربية فى الجماعة خلق جوا من التوجس من الأفكار الجديدة تجعل الأخ يشم رائحة الفكرة المختلفة ويحذر منها ولكنه يعتقد أن ما يقوم به هو وغيره من تعبير بحرية وجرأة سيدفع المزيد من الشباب لفعل ذلك وسيجعلهم ينخرطون أكثر فى الجدل والحوار وسيفتح كل ذلك أبواب التغيير الذى يأمله. وحتى ذلك الحين لا يبدو أبدا أنه قلق بشأن تأخر إلحاقه بأسرة أخرى، فهى «مشكلة بسيطة فى طريقها للحل». قد لا تكون كذلك بالنسبة لآخرين ولكن ما يظهر يقول إن «الأسرة» وهى الساحة التربوية والتنظيمية الأساسية تشهد جدلا كبيرا وأن المختلفين الذين يرفعون أصواتهم كل فترة ليسوا قلة أو هامشا متمردا بل هم تعبير عن ميل صاعد متفائل بالمزيد من الصعود.