المياه المعدنية بقطارات «الغلابة» عبوات موت مثلجة تهدد 20 مليون مصرى يقولون إن الماء «سر الحياة» لكنه قد يكون سر الموت أيضًا، عندما تتخطى البكتريا الموجودة بداخله ما يكوسوا منها كراسى المراحيض العامة، لتصبح المياه التى لا تستقيم الحياة بدونها مصدر تهديد لملايين المصريين الذين يركبون القطارات الحديدية يوميًا. ما أن تطأ قدمك عربات القطار حتى تدلف لأذنيك كلمات «ميه ساقعة اللى يشرب مثلجة ونضيف» هذا ما يتغنى به الباعة الجائلون بخطوط سكك حديد مصر، لكن العبارة تحمل فى طياتها تفاصيل مرعبة، تهدد حياة ما يقترب من 20.7 مليون راكب بحسب إحصاء لمجلس الوزراء فى مارس 2013. عبوات الموت المثلجة بعربات القطار لفتت انتباه محرر «الصباح» الذى أخذ بخيوط القضية حتى قادته المعلومات لتفاصيل أكثر رعبًا؛ خصوصًا بعد شكه فى طعم المياه ورائحتها، وشكل الغطاء الموجود أعلى الزجاجات، التى تبين أنه يعاد تجميعها وملئها بمياه طلمبات بلدية، وأثبتت التحاليل ارتفاع نسب الأملاح الضارة، والبكتيريا فى تلك المياه مما يؤدى للإصابة بحالات تسمم أو تكوين حصوات بولية. البداية كانت برحلة من المنيا للقاهرة ومع شدة الحرارة فى وقت الظهيرة طاف عدد من الباعة بالعربات لعرض ما معه من المياه على الناس واشترى غالبية المسافرين منهم خصوصًا وأن المياه التى يقدمونها مثلجة وأسعار بعضها أقل من المتعارف عليه فى أسعار مثيلتها فى المحال التجارية. بالبحث على شبكة الإنترنت عثرنا على فيديو تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعى فى وقت سابق لعدد من الباعة الجائلين بمحطة الإسكندرية، يطوفون بالأرصفة يجمعون الزجاجات الفارغة، ويذهبون بها لمنطقة خلفية بالمحطة. لكن فى الرحلة المتجهة شمالًا للقاهرة بدأت سطور القصة تكتب، فمع كل محطة كان يقف فيها القطار كان الباعة يحصلون على عبوات جديدة من زملاء لهم يقفون على الأرصفة أو ينزل بعضهم ويصعد آخرون للقطار لكن بنفس الزجاجات التى تبدو عليها علامات الاستهلاك أكثر من مرة. بتتبع أحد الصبية الذين يبيعون المياه بأحد قطارات الدرجة الثانية «المميزة» والذى كان يطوف فى خفة واضحة بعربات القطار وما أن ينتهى مما معه حتى يحضر غيرها ويعرضها على المسافرين. بانتظاره الصبى فى آخر عربات القطار محل استراحة الباعة الجائلين، حصلنا منه على زجاجة مياه من الإناء الذى يضع فيه الزجاجات المثلجة، فسألناه بلهجة متعاطفة عن مشقة مهنته فرد قائلًا: «إن الأمر يستحق». بسؤاله عن كيفية ذلك رفض الإفصاح عن تفاصيل عمله لكنه بمجرد دفعنا عشر جنيهات فى إطار التعاطف معه، أكد أن أسعار الزجاجات الحقيقة بحسبه تبدأ من 50 قرشًا. وبلهجة خافتة قال: «الكلام ليك يا باشا»، فهذه الزجاجات ليست معبأة بمياه معدنية ولكنها معاد تجميعها من الشوارع ومقالب القمامة وتعبئتها مرة أخرى، ومن ثم إعادة تبريدها بثلاجات كبيرة لتصبح مثلجة، وليس باردة فقط ويقوم صاحب الزجاجات بتوزيع صوانى ألمونيوم، لأنها خفيفة الحمل وحافظ جيد للحرارة على الباعة. قبل أن يضع «الصينية» بجوار برميل صغير كان مملوء بالزجاجات التى بيعت عن آخرها قال: «نضع بالصينية الزجاجات الأصلية يجاورها أخرى تم تعبئتها بمياه عادية، وفى النصف قطعة ثلج، ونخرج للبيع عادة فى وقت الظهيرة فيتهافت العطشان على الزجاجات المثلجة. وبحسبه فإن هذه الطريقة تطبق فى جميع خطوط السكك الحديد، إلا أن مجموعته تبدأ عملها من بنى سويف أو مغاغة حتى نهاية خط الصعيد. بعد أن خفتت برودة المياه، وعادت لوضعها الطبيعى تبين طعهما الحقيقى، هكذا وصف المياه ريمون ذكى، مدرس التربية والتعليم من محافظة المنيا، مشيرًا إلى أن المياه التى تباع بالقطار ليست طبيعية. وكشف ذكى عن تجربته عندما سافر للقاهرة قبل أيام، وأجبرته حرارة الجو على شراء زجاجة صغيرة من بائع متجول بأحد القطارات، ولم يقدر على تناولها فقط رؤى ظمه، بسبب الطعم اللاذع شديد المرارة، ليضيف أنه احتفظت بالمتبقى من العبوة دون إلقائه. وأضاف أنه انتابته نوبة «مغص» معوى شديد بعد العودة للمنزل، ولم يكن مستغربًا أمر الإسهال الذى أصابه بعدما عرض المتبقى من عبوة المياه على أسرته، لتكتشف زوجته أن بها رواسب تبدو رواسب رملية. الأمر نفسه تعرض له محمود عبد الراضى صاحب محل ملابس، فى مايو الماضى كانت درجات الحرارة مرتفعة بصورة غير طبيعية حيث الجميع فى أمس حاجة لرشفة مياه باردة ودخل إلى القطار حوالى ثلاث بائعين يقدمون مياه معدنية صغيرة مثلجة تم بيعها بالكامل، ولكن مذاقها لم يكن جيدًا، وقتها تناول نجلى الصغير بعضها لكنه أصيب بمغص شديد وإسهال ظل معه حوالى يومين ومن وقتها رفضت تمامًا أن أكرر هذا الأمر. القضية لم تغيب عن مراكز الأبحاث فبحسب ما رصده مركز الحريات والحصانات لحقوق الإنسان بالمنيا فإن بعض المنتجات التى تباع بالقطارات تعبأ بطرق غير شرعية، منها المياه وبعض الأطعمة. وقال المركز إنه بالتحدث مع بعض الباعة تبين أن ذلك يحدث بعلم نظار المحطة والكمسارية، ورجال الأمن، مقابل نسبة من البيع. وأكد محمد الحمبولى مدير المركز، أن زجاجات المياه المعدنية تعبأ من صنابير عادية خصوصًا وأن أسعار بعضها فى بعض الأحيان يصل لجنيه ونصف. وتابع أن الكارثة ليست فى المياه ولكن فى أنهم يجمعون الزجاجات الفارغة من صناديق القمامة ويتم تعبئتها دون تعقيمها. وأضاف ل«الصباح» أنه يجب منع هؤلاء الباعة من دخول القطارات بدون الحصول على شهادات صحية وعضوية نقابة الباعة الجائلين، مطالبًا بضرورة محاسبة جميع المقصرين. ومن جهته قال الدكتور محمود يوسف، وكيل وزارة التموين بالمنيا، إن القانون 10 لسنة 1966 منع استخدام أى عبوات سبق استخدامها وعاقب مستخدميها بالمصادرة وإعدامها وتوقيع غرامات عليهم وحبس المتعدين. وأرجع يوسف فى حديثه ل«الصباح» انتشار هذه الظاهر لسهولة غش المياه لأن البعض يعبئها فى المنازل كما حدث قبل شهور بعد القبض على أحد الأشخاص بعزبة شاهين بمدينة المنيا، وعثر على خزان مياه موصل بفلتر منزلى كبير والخزان به 6 عيون للتعبئة وفور ملئها يتم كبس الغطاء بعصاة صغيرة ولصق استيكر عليها باسم «الواحة». وأكد يوسف الحاصل على الدكتوراه فى الكيمياء الحيوية، أنه ضبطوا قبل 6 أشهر 4973 زجاجة مياه منتهية الصلاحية ومجهولة المصدر، وفى 3 أبريل 2017 ضبطوا 820 زجاجة وزن 600 ملى «الصغيرة» بمركز مطاى لدى شخص يدعى «أ. س» مجهولة المصدر وتحرر عنها المحضر رقم 4227 لسنة 2017. وفى الإطار ذاته أكد مصدر أمنى بمباحث تموين الأقصر أن الأجهزة الأمنية حررت خلال فترة الصيف العديد من المحاضر الخاصة بالغش التجارى للباعة الجائلين بقطارات الأقصر، وغالبيتها كانت وقائع متعلقة ببيع زجاجات مياه لشركات عالمية ومغلقة وهى غير معبئة بالمكان المخصص لها ولكن تم تعبئتها من صنوبر المنازل وتباع ما بين 2 جنيه إلى 3 جنيهات. وبحسب ما قاله مصدر مسئول بمعامل تحاليل المياه المركزية بصحة المنيا «رفض ذكر اسمه» ل«الصباح» فإن نسب الأملاح الموجود بهذه المياه نسبتها عالية جدًا وغير مطابقة للمواصفات الموجودة بالمياه المعدنية المتعارف عليها. وأكد أن إعادة تعبئة الزجاجات دون تعقيمها يؤدى إلى نمو البكتريا والفطريات سواء وظهور بعض الطفليليات مثل الأميبا التى تسبب النزلات المعوية والإسهال عند الكبار والأطفال، وبكتريا السالمونيلا التى تسبب التيفويد وبكتريا الفيبريو (vibrio) التى تسبب الكوليرا وبكتريا الاسثريشيا كولاى. وأضاف أن هذه العبوات قد تؤدى للتسمم الحاد حسب نوع الفطريات الموجودة بالزجاجة قبل التعبئة، مشيرًا إلى أن بعض الدراسات العلمية بالولايات المتحدةالأمريكية وإنجلترا أثبتت خطورة إعادة تعبئة العبوات البلاستيكية أكثر من مرة. وأظهرت نتائج تحاليل أُجريت على بعض العبوات بعد استخدامها لمدة أسبوع، وجود مواد كيميائية وبكتيريا قد تكون مسئولة عن التسبب بأمراض خطيرة، كأمراض القلب، والمشاكل الهرمونية، وخطر الإصابة بسرطان الثدى. وبحسبه فإن بعض الدراسات والتحليل اكتشفت وجود مادة كيميائية مثيرة للجدل، تُستخدم فى صناعة البلاستيك ويعتقد أنها تتداخل مع الهرمونات التناسلية، كما أن بعض الأبحاث توصلت لوجود أعداد كبيرة من البكتيريا فى العبوات البلاستيكية المعاد استخدامها قد تعادل البكتيريا الموجودة فى كرسى المرحاض.