وكالات للمرة الثانية تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنشاء ما اسمته عام 1977 بقوة انتشار سريع مشتركة، وقد وضعها على الورق الرئيس جيمى كارتر بعد انتخابه عام 1977 وبعد أن درس وقيم الاستراتيجية الخارجية التى سار عليها سابقوه من الرؤساء الأمريكيين.
وتمركزت رؤية كاتر فى انشاء قوة متحركة سريعة الانتقال والتحرك من موقع ساخن إلى آخر أكثر سخونة دون اللجوء إلى سحب قوات من حلف شمال الأطلنطى أو من القواعد العسكرية الأمريكية فى كوريا الجنوبية.
كانت المهمة الأساسية لهذه القوة الجديدة، كما ذكر، هى حماية بلدان منابع النفط فى الخليج من أى هجوم شيوعى تتعرض له. وقد تضمنت المذكرة بإنشاء هذه القوة الخاصة اسماء البلدان التى تفرض الولايات المتحدة عليها الحماية.
وكان ذلك بلا تفاوض أو علم أو استشارة من هذه البلدان. وكانت البلدان مصر، السودان، جيبوتي، إثيوبيا، كينيا، الصومال، أفغانستان، البحرين، إيران، العراق، الكويت، قطر، عمان، باكستان، جمهورية اليمن الديمقراطية، والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية والجمهورية العربية اليمنية.
هكذا فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حمايتها على منطقة جغرافية كاملة لا يدخل عدد من بلدانها تحت مسمى بلدان منابع النفط او دول الخليج. وكان ذلك دون موافقة من الأمم المتحدة أو من الحلفاء الأوروبيين فى حلف شمال الأطلنطي.
ولكن فور دخول السوفيت إلى أفغانستان عدل التوجه الاستراتيجى للقوة بحيث باتت "بلدان منابع النفط فى الخليج "هى نقطة الحماية الأولى حيث أن " منطقة الخليج تضم المصالح العليا" للولايات المتحدة الأمريكية وهى المصالح التى "لابد من الدفاع عنها بكل الوسائل بما فيها وسيلة الحرب". هكذا جاء فى مذكرة التنفيذ.
وقد انشأت الولايات المتحدة هذه القوة الأمريكية الخاصة بناء على مبدأ وضعه الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر عام 1977 ولكنه وضع موضع العناية والتنفيذ بعد أربعة أحداث هامة: الأول هو التذكرالامريكى المستمر إلى إستخدام العرب البترول كسلاح فور اندلاع حرب 1973 وتهديدهم بعدم بيعه لأمريكا أو للدول الأوروبية والثانى هو هزيمة أمريكا فى حربها فى فيتنام وسقوط هانوى فى يد سلطة هوتشى منه عام 1975 الثالث هو انتصار الثورة الخومينية عام 1979وفشل الادارة الأمريكية فى إنجاح عملية مخلب النسر لفك حصار الحرس الثورى الإيرانى للسفارة الأمريكية بما فيها من دبلوماسيين أمريكيين فى طهران والرابع هو وصول القوات السوفيتية إلى أفغانستان عام 1979.
بعد هذه الأحداث وضع جيمى كارتى مبدأه موضع التنفيذ ثم تم زيادة تفعيل هذه القوة بعد استكمالها من قوات برية وجوية وبحرية عام 1981 بعد عام من وصول الرئيس رونالد ريجان إلى البيت الأبيض.
فالفكرة الأساسية للإدارة الأمريكية حينذاك كانت أن القوات العسكرية التقليدية لم تعد تتلاءم فى تكوينها وفى مواقعها مع الأحداث فى هذه المنطقة التى تتمركز فيها المصالح الأمريكية وهى تحديدا النفط، لذلك وجد انه من الضرورى إيجاد صيغة عسكرية جديدة غير تقليدية تتخصص فقط فى المهام السريعة التى تستوجبها مثل هذه الأحداث التى جرت فى العقد السبعينى من القرن الماضي. ولكن المدهش فى هذه القوة أنها انشأت دون قرار من مجلس الأمن ودون مشاركة من الحلفاء الأوروبيين ودون علم من البلدان المعنية بأمرها وبشعوبها وبنفطها.
كان مشروعا أمريكيا صرفا لا يهدف فقط إلى "حماية مصالح" الولايات المتحدة فى الخليج وإنما إلى السيطرة على نفط الخليج خاصة مع بدء نهوض الصين وظهورها كمستهلك جديد وهام للطاقة.
هكذا فرضت الولايات المتحدة حمايتها على منطقة الخليج من "الغزو الشيوعي" فى الوقت الذى كانت فيه القلاقل قد بدأت تظهر فى المعسكر الاشتراكى فى شكل إضرابات عمالية وتحركات مثقفين. وقد ساعدت هذه القلاقل على هذا الانفراد الامريكى بالمنطقة.
والآن ينشيء حلف الناتو قوة انتشار سريع هى الثانية تاريخيًا، ولكن يأتى الإنشاء فى قارة أوروبا وليس فى منطقة الخليج. وتأتى هذه القوة دون قرار من مجلس الأمن ولكن بالإتفاق بين دول الحلف، تأتى هذه القوة الثانية ليس لحماية شرق أوروبا من "الغزو الشيوعي" ولكن من أى عدوان مرتقب عليها من روسيا الاتحادية. فالصراع الأوروبى الحالى فى أوكرانيا ليس صراعا بين الشيوعية والرأسمالية وإنما هو صراع بين رأسماليات على توسيع نفوذها الاقتصادى والسياسي.
وتنشأ القوة بنفس المنطق والمبرر وهما أن القوات التقليدية لحلف الأطلنطى لم تعد تلائم سرعة ونوعية الأخطارالتى قد تتعرض لها بلدان منطقة شرق أوروبا.
تنشأ القوة الجديدة من قوات خاصة لا تتبع حلف الناتو ولا تملك عقيدته العسكرية.
قوة جديدة سريعة التحرك وسريعة الانطلاق، وفى المرة الثانية هذه تتسابق بلدان أوروبا الشرقية لاستضافة هذه القوات وأسلحتها. ولأن هذه القوة ستتمركز فى أوروبا، فقد علمت بها كل الحكومات على عكس ما حدث مع بلدان الشرق الأوسط أو بلدان منابع النفط فى الخليج.
كما أنه على عكس الوضع فى منطقة الخليج نشأت هذه القوة الآن على الأرض الأوروبية التى تشربت أرضها بدماء الملايين من العسكريين والمدنيين الذين قضوا فى الحربين الأولى والثانية.
كما أنها القارة التى بدأت بعض بلدانها الكبيرة، منذ تسعينيات القرن الماضي، تعمل من أجل إدماج الاقتصاد الروسى فى الاقتصاديات الأوروبية بحيث تضمن عدم جنوح السياسة الروسية خارج السرب الأوروبى مرة أخري. هذه القارة تشهد الآن حالة من الترقب لم تمر بها منذ عقود، تشهد بلدانا تتمسك حكوماتها بقوة السلاح بينما تواجه صناعاتها ومزارعها التى تعودت على السوق الروسية مصاعب تعرضها للإغلاق وتسريح عمالها، أو فى حالة الزراعة تعرضها للإتلاف والخسارة.
قد لا يتصور البعض قيام حرب ثالثة كبيرة فى أوروبا ولكن يعلم المؤرخون ومحللو الوقائع التاريخية خاصة الحديثة أن أحد أسباب كراهية هتلر للغرب كان فى تلك الشروط القاسية التى فرضها المنتصرون على المنهزمين فى مؤتمر فرساى بعد الحرب العالمية الأولي.