عقد وزراء خارجية الدول الاعضاء في حلف شمال الاطلنطي اجتماعا في بروكسل – عاصمة بلجيكا والمقر الرئيسي للحلف منذ تأليفه – استغرق يوما واحدا هو يوم الثالث والعشرين من شهر ابريل الحالي. أكدت البيانات الصادرة عن هذا الاجتماع انه “تناول مواقع الاضطرابات والصراعات الراهنة، كما تناول المسائل الاستراتيجية ذات الابعاد الواسعة.. وأكدت مصادر الحلف في بروكسل ان الأزمة الراهنة في سوريا كانت احد ابرز القضايا التي بحثت في الاجتماع وكذلك حالة التوتر المتصاعد في شبه جزيرة كوريا بالاضافة الي احتمالات الوضع في أفغانستان في حقبة ما بعد عام 2014 وهو الموعد المحدد لاتمام انسحاب القوات الأمريكية من ذلك البلد. يدل تناول هذه المسائل المتباعدة جغرافيا وسياسيا واستراتيجيا علي ان دول حلف الاطلنطي -وبصفة خاصة تلك التي تقوم بدور القيادة والتوجيه فيه بحكم نفوذها الاستراتيجي والسياسي – لا تزال تصر علي توسيع نطاق مهام الحلف بحيث تشمل كل مناطق العالم وتتصدي لكل بؤر التوتر بعد ان كان الغرض الذي من اجله انشيء هذا الحلف يقتصر علي التصدي للتحدي الاستراتيجي والعسكري الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي في المنطقتين الواقعتين علي ضفتي المحيط الاطلنطي الغربية أي اوروبا الغربية والشرقية (أي الولاياتالمتحدة ومصالحها علي امتداد القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية). وبطبيعة الحال فان امتداد اهتمام الحلف العسكري الغربي بشئون تقع في اقصي شمال قارة آسيا – مثل الوضع في شبه جزيرة كوريا – لا يمكن ان يخطر علي بال احد في الحلف أو خارجه. والامر المؤكد ان الولاياتالمتحدة تقف وراء هذا التغيير الاستراتيجي في اهتمامات الحلف بحكم انها كانت دائما الدولة التي تملك سيطرة كاملة عليه. وهي حريصة علي ان تبقي سيطرتها علي الحلف من كل الجوانب وان كلفها ذلك من النفقات فوق ما تستطيع احتماله بحكم متاعبها الاقتصادية التي جعلتها تتراجع في ترتيب القوي العظمي. الحلف في منطقتنا وحينما نتحدث عن هذا الاهتمام باستمرار توسع حلف الاطلنطي جغرافيا وسياسيا واعتبار التحدي الارهابي اكبر تحدياته علي الاقل في المستقبل القريب ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا ان الولاياتالمتحدة تبدي بشكل خاص اهتماما بدور غير مسبوق للحلف في منطقة الشرق الاوسط وفي منطقة الخليج الغنية بالنفط. وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا ان وزراء الخارجية في بلدان هاتين المنطقتين قد حضروا أو انابوا عنهم في اجتماع بروكسل الاخير. وشمل هذا كلا من مصر والسعودية والامارات وقطر…فضلا عن اسرائيل. غير ان التركيز الذي يسود مناقشات الحلف في الفترة الراهنة من حيث خطط توسيع نطاق اهتماماته وبالتالي عملياته ينبئ بان الولاياتالمتحدة تريد دورا اكبر في تحميل المسئوليات علي عاتق اوروبا. فالولاياتالمتحدة تنظر بعين الغيرة الي تصاعد امكانيات المانيا في السنوات الاخيرة الي حد جعلها المساعد الاكبر اقتصاديا للدول الاوروبية الاخري، فيما لايزال دور المانيا في حلف الاطلنطي محدودا علي الرغم من اشتراكها في نشاطات الحلف العسكرية في حروب تعد حروبا اميركية بحتة مثل افغانستان، وقبل ذلك الحرب التي اودت بوجود دولة يوغوسلافيا والتي يطلق عليها اختصارا لقب حرب كوسوفو التي وقعت في اوائل هذا القرن. وتلح الولاياتالمتحدة بشدة علي ان دور المانيا العسكري عالميا لا يزال محدودا وانه ينعكس في تمسك الحكومة الالمانية بموقف الامتناع قدر الامكان عن التدخل في الشئون الدولية. ولكن من الملاحظ ان معظم دول اوروبا تؤيد الموقف الأمريكي الداعي الي دور الماني اوسع وانفاقا عسكريا اعلي في شئون تدخل الحلف الاطلنطي في مناطق العالم المختلفة. وفي ليبيا وبصرف النظر عن حالة ألمانيا فان الحلف قد قرر تحت تأثير النفوذ الأمريكي ان يتوسع في التدخل في المناطق التي كانت تعد في الماضي بعيدة عن منطقة الحلف وعن مصالح دوله. ومن هنا يتضح ان دول الاطلنطي اصبحت تجد نفسها مجبرة علي ان تتورط في مشكلات بعيدة عن نطاقها الجغرافي وعن همومها الامنية حتي علي الرغم من ان المشكلات الامنية ابتعدت عن مجالات هذه الدول، بل انها اختفت منها. وهكذا لعب حلف الاطلنطي دورا كبيرا في حرب ليبيا الاخيرة. ولا يزال الحلف مرشحا لاداء دور مهم للغاية اذا ما قررت الولاياتالمتحدة ان التدخل في ازمة سوريا امر لا مفر منه رغم خطورته الشديدة علي المنطقة ككل. وتشير تطورات الوضع في سوريا الي تراجع فرص المعارضة امام القوات الحكومية. ولكن لا بد من ان يؤخذ بعين الاعتبار ان تركيا التي تملك عضوية حلف الاطلنطي تقوم بدور اساسي في دعم المعارضة السورية بالسلاح واشكال التموين المختلفة، وان السعودية وقطر والامارات التي تعد مالكة لعضوية انتساب الي حلف الاطلنطي تؤدي دورا مشابها علي الجانب الاخر من الحدود السورية. جيوش زائدة عن الحاجة وفيما يستعد الحلف لتوسيع دوره العسكري في الشرق الاوسط وافريقيا (مالي) فان قياداته العسكرية والسياسية فوجئت بدعوة آخذة في الانتشار في الولاياتالمتحدة بشكل خاص الي اعتبار هذه الحروب التي يتدخل فيها الحلف تحت ضغط الولاياتالمتحدة “حروبا لا ضرورة لها” لا ترمي الا الي جعل الحلف مشغولا كل الوقت. ويذهب اصحاب هذه الدعوة من المفكرين والمحللين الاستراتيجيين الي ان حروب التدخل التي يخوضها الحلف منذ زوال الخطر الرئيسي وهو الاتحاد السوفييتي قد اضعفت الحلف عسكريا وماديا بشكل عام خاصة في ضوء تراجع امكانيات الولاياتالمتحدة الاقتصادية. وبالتالي فان الحلف يتحول تدريجيا الي كيان لا يناسب مهمة الحفاظ علي امن اعضائه. ويزداد الحماس الاوروبي لهذه الدعوة التي يبدو انها ستتحول مع الوقت الي حملة نظرا لانتشار الاعتقاد بين المفكرين الاستراتيجيين الاوروبيين وحتي بين الجماهير الاوروبية علي نطاق واسع بان اوروبا لم تعد بحاجة الي الكيانات العسكرية التي تحتفظ بها وتنفق عليها. وينتشر هذا الاعتقاد بشكل خاص نتيجة للشعور العميق لدي الجماهير الاوروبية بان اوضاعها الاقتصادية آخذة في التراجع بحيث لم تعد تسمح بالاحتفاظ بالمؤسسات العسكرية الوطنية. وليس خافيا علي المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين الذين يطلقون هذه الدعوة ان هناك عناصر اوروبية تريد الاحتفاظ بصور المجد البطولي القديم، ولهذا يبدو اليمين المتطرف في دول اوروبا اكثر تمسكا بالتدخل في سوريا وفي مالي علي نحو ما جري التدخل في ليبيا. وهذا هو بالتحديد المعني الذي قصده الكاتب السياسي البريطاني فيليب ستيفنز عندما قال في تحليل نشرته صحيفة “فايناشيال تايمز” البريطانية “لقد اصيب الاوروبيون بميكروب التدخل في الوقت نفسه الذي تخلص الأمريكيون منه … لهذا يبدو القادة الاوروبيون اكثر تصميما علي اعادة تشكيل الصراعات وعلي اعادة بناء الدول في الشرق الاوسط وأفريقيا دون ان يملكوا القوة العسكرية اللازمة لفعل ذلك”. التدخل في سوريا ولو ان الاوروبيين نظروا الي مثال افغانستان التي قررت الولاياتالمتحدة ان تنسحب منها في العام القادم لوعوا جيدا ان هذا النوع من الحروب يكلف كثيرا ولا ياتي بأي نتائج مفيدة، وحتي دون ان يزيد قدرة الدول التي تتورط فيها علي ادارة الازمات. ويقول الكاتب السياسي الأمريكي دوجلاس بانداو ” ان ثورة الطاقة (العلمية) تقلل من اهمية منطقة الخليج .وتوجه أمريكا الواضح نحو آسيا سيؤدي الي مزيد من زوال مستويات القوة الأمريكية في اوروبا … وسيؤدي في النهاية الي اختفاء تام للحاجة الي الامن في المنطقة العابرة للاطلنطي. لقد كانت التحالفات العسكرية ترمي الي مواجهة التهديدات المشتركة. ولقد كان هناك تهديد مشترك اثناء الحرب الباردة. اما الان فلم يعد له وجود”. ويتعرض بانداو لاحتمال التدخل الاطلنطي في سوريا باعتباره “تدخلا في حرب اهلية يملك احد طرفيها جيشا قويا وكبيرا مسلحا باسلحة كيماوية بينما يضم الطرف الاخر كثيرا من المتطرفين المعادين للغرب وسيكون التدخل في هذه الحرب ضربا من الجنون”. ان الاصوات الداعية الي الاستغناء عن حلف الاطنطي آخذة في التزايد والارتفاع بايقاع يتسق مع تزايد الازمة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة واوروبا. ولم يعد من الممكن توقع استمرار الطاعة الاوروبية لأمريكا في ظل هذا الوضع المتردي في الجانبين … في جانبي المحيط الاطلنطي. الامر المؤكد ان هذه الدعوة الي تصفية حلف الاطلنطي لم يسمع لها اي صدي داخل اجتماع وزراء الخارجية الاطلنطيين الاخير. فالي متي يستمر هذا الوضع؟