في المقال السابق أوضحنا العوامل التي تؤدي إلى صعوبة التواصل وترجع إلى المتكلم. وقد وردت جميع تلك العوامل في مقال مفصّل للدكتور لاري ناديج Larry A. Nadig المتخصص في العلاقات الأسرية. وفي مقال اليوم، نذكر العوامل التي قد تعوق عملية التواصل وترجع إلى المستمع. وقبل أن نوضّح تلك العوامل، نريد أن نذكر الجميع بأن الحوار في نهاية المطاف ممارسة اجتماعية وديّة، تتميّز بالتعاون بين الطرفين وليس التنازع، وتقوم في أساسها على رغبة المشتركين في الاشتراك فيها، وأننا لا نتكلم ولا نتحاور كي ينتهي بنا المطاف إلى التشاحن والتباغض. والعوامل التي قد تعوق عملية التواصل وتعود إلى المستمع هي: 1. أن يكون المستمع مشغولًا بشيء ولا يستطيع أن يحسن الإنصات. 2. اهتمام المستمع الشديد وتركيزه على ما يريد أن يقول، وبذلك يستمع فقط كي يقتنص فرصة للكلام. 3. التفكير في رد على ما يقوله المتكلم. 4. تقييم ما يقوله المتكلم أو استخلاص وجهات نظر عنه أو عن فحوى ما يقول. 5. عدم طرح أسئلة للاستيضاح رغم أنك لم تفهم ما قاله المتكلم. عزيزي القارئ، إن إصرارك على الكلام رغم علمك أن المستمع مشغول بأمر آخر لن يفيدك بشيء، وسيؤدي إلى ضيع وقتك تمامًا في ما لا يفيد. أذكر جيّدًا أنني قرأت تلك العبارة منذ ما يربو على ثلاث سنوات وأحببت أن أجربها مع المحيطين بي، ووجدت أن التحدث إلى أحد وهو مشغول في شيء ماديّ ما (كشاشة الكمبيوتر، أو حتى في قيادة السيّارة)، أو حتى مشغول بأمر يفكر فيه، لا يفيد مطلقًا. ولهذا، فإنني أنصح القارئ الكريم أن يختار عدم الكلام عندما يرى أن الطرف الآخر مشغول في شيء ما. ثم إننا نريد أن نذكّر القارئ أيضًا أن لكل طرف مشترك في الحوار دوره الذي يجب أن يتيحه له الجميع، ويجب أن يأخذ حقه الكامل في توضيح وجهة نظره، ورأيه في الموضوع المثار، لكن أن يشغل المنصت نفسه وتفكيره في اللحظة التي يريد فيها أن يقفز على دور الآخرين كي يدلي بدلوه هو الآخر، فهذا يجعل عملية الحوار نفسها تفشل فشلًا كاملًا لأنه لم يحسن الاستماع أصلًا عندما كان دوره في الحوار هو الاستماع. وهذا مرده إلى ما يعرف في الكتابات الأكاديمية بتبادل الأدوار في الحوار أو (Turn-taking). فلكل واحد دوره، لكن الاستماع بهدف العثور على ثغرة تثب منها للانقضاض على دورك واقتناصه معناه أنك لم تكن تحسن الإنصات أصلًا. ولعل هذا يشمل أيضًا السكوت أثناء تكلّم الطرف الآخر مع الانشغال التام بالتفكير في رد على ما يقوله. فهذا مناقض أصلًا لفكرة حسن الإنصات. ومع أن العوامل الثلاثة الأولى في القائمة الموضحّة أعلاه على قدر كبير من الأهمية، إلا أنني أعتقد أن العامل الرابع (تقييم ما يقوله المتكلم أو استخلاص وجهات نظر عنه أو عن فحوى ما يقول) قد تكون الأهم على الإطلاق. والحق أنها أبغض الأمور عندي لتفشّيها بصورة مقيتة في مجتمعنا اليوم، لدرجة تجعل المرء يشك في كل مرة ينصت إليه أحد أنه ينصت فقط لكي يستخلص حكمًا معينًا عن المتكلم، أو يصل إلى فكرة عنه. فتجد أحدهم قد جاء إليك وسألك سؤالًا ثم أحسن الإنصات بصورة مثيرة للإعجاب، لكنك لو دققت النظر في الدافع الذي جعله ينصت لك فإنك ستجد أنه ينصت فقط كي يعرف كيف تفكّر؟ وما هي الأفكار التي تعتنقها؟ إنصات بسوء نيّة وخبث طويّة، إنصات لا يسمن ولا يغني من جوع، إنصات يضر، ولا ينفع. كم مرة، عزيزي القارئ، استمعت إلى شخص ما لأول مرة ثم قلت لصديقك أو صاحبك عندما انصرف الرجل (الواد ده شمال، الواد ده متعصب، الواد ده متخلف، البت دي معقدة) وغيرها من الأحكام والآراء الجزافية التي تتعدى حدود ما كتبتُهُ بين القوسين بكثير. أحكام وآراء وأختام نختم بها على من نستمع إليهم لأول مرة، لكننا لا ندري أننا نختم بها على قلوبنا نحن أيضًا. عزيزي القارئ... استمع بحسن نيّة، استمع كي تتعلم، كي تفهم شيئًا جديدًا، كي توسع أفاقك وتتنوع لديك وجهات النظر، استمع كي تصبح إنسانًا. وأخيرًا، فإن عدم طرح أسئلة تستفهم بها عن شيء لم تفهمه في كلام المتكلم قد يتسبب في فشل الحوار، فاحرص دائمًا على طرح أسئلة على المتكلم تستفهم بها عن أي شيء قاله ولم تفهمه، أو شيء لست على يقين أنك فهمته فهمًا صحيحًا. وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى، واسأله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. عبد الرحمن السيد مشتهري الكاتب باحث في علوم اللغة بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر