" من نزل بأرض قوم فشا فيهم الربا فحدثهم عن حرمة الخمر فقد خان الله ورسوله " مقولة تلخص كثيرا مما أريد أن أقوله في هذه المقالة، ليس الشأن إذن أن تتكلم في قضية هي من الدين ولو أحسنت الكلام فيها، إنما الشأن مراعاة مقتضى حال المخاطبين وما يحتاجون إليه من خطاب لإصلاح أمورهم وقيادة زمام حياتهم نحو الاهتداء بكلمة الله رب العالمين. وفي بلد حققت فيها الأمية معدلات عالية، وساد فيها الكثير من الجهل بحقائق الكون وحقائق الشرع والعلوم الكونية، واختلت فيه قواعد التفكير المنطقي السليم؛ حتى بات هذا واضحا في حياتنا اليومية بكل تفاصيلها، وأصبح غياب الوعي مدخلا لقيادة الجماهير نحو مصيرٍ أقل ما يقال فيه أنه ضد مصالحها المباشرة، لاشك مع كل هذا أن من كبرى أولويات الخطاب الديني الإصلاحي فيه أن تتبنى هذه القضية وأن تحتل مركز الصدارة والثقل من بين قضايا الدعوة والإصلاح الديني. وإذا نظرنا إلى منظومة الأخلاق والقيم الحاكمة في المجتمع لما وجدناها أحسن حالا من شأن قضية الوعي والعلم والثقافة، أفتُرانا مع هذا نملك ترف الكلام في حكم تغطية وجه المرأة في الشرع، وحكم الغناء والموسيقى، وحكم إعفاء اللحية، ونقيم المعارك "الفكرية" !! على ذلك، بينما لا تقف في رؤوسنا شعرةٌ حال نرى قيمنا الدينية الإنسانية مهدرة تماما في حياتنا. على ماذا ركز الخطاب الديني في العشريات الأخيرة؟ يبدو لي أن الصراع السياسي كان حاضرا بقوةٍ جعلت التركيز على الرمز والشكل أقوى من التركيز على المضامين الإصلاحية، قضية الحجاب مثلا كانت قضية محورية في الخطاب الإسلامي عند كثير من الدعاة والجماعات الدعوية، فإذا سألت ما الذي جعلها القضية الأولى لا سيما في الخطاب إلى المرأة لم تجد تفسيرا إلا الجهل بالدين أو التوظيف السياسي للحجاب بما يمثله من رمزية واضحة في الصراع السياسي المحموم، وبينما نرى عشرات اللافتات والملصقات والخطب والدروس والدعوة المباشرة الفردية تتكلم عن فرضية الحجاب وبيان المعصية التي تقع فيها المرأة إذا لم ترتد الزي الشرعي، لم نجد نفس القدر من الحديث والاهتمام في قضية جودة تعليم المرأة أو حسن خلقها أو حسن تربيتها لأولادها بالمفهوم الشامل للتربية الصحيحة، غابت كل هذه القضايا وأصبح المعيار الوحيد لنجاح الخطاب الديني في هذا المجال أن ترتدي هذه المرأة أو تلك الغطاء الشرعي، مهما كانت بعد ذلك في ميزان الإسلام ذاته. وكما اختزل الخطاب الدعوي الموجه إلى المرأة في شئ واحد وهو الحجاب، اختزل الخطاب الديني المتعلق بالأخلاق في نحو الحديث عن الصدق والأمانة بمفاهيم ساذجة، في الوقت الذي لم نجد فيه خطابا مماثلا يعالج قيما أخرى مثل قيمة إتقان العمل، وقيمة احترام الوقت، وقيمة احترام حقوق الآخرين، وقيمة الالتزام بدولة القانون، وقيمة المحافظة على الأشياء كترشيد استهلاك الماء مثلا في دولة تواجه تهديدا متعلقا بهذا الشأن، وقيمة حرمة المال العام، وغيرها الكثير من القيم الإنسانية التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه ما بعث إلا ليتممها " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وبينما نجد الإنكار في الخطاب الديني مثلا على الحاكم أنه لا يطبق شرع الله تجد هؤلاء المتنادين أنفسهم لا يطبقونه في أبسط تفاصيل حياتهم اليومية من الزواج والطلاق وما قبل الزواج وما بعد الطلاق، لا نرى هذه الشريعة في بيعهم وشرائهم، لا نراها عندما يختلفون مع بعضهم، لا نراها في مصانعهم ومدارسهم ومعاملهم، فقط نراها أو بالأحرى نسمع المطالبة بها عندما يحتدم الصراع السياسي. وبينما ينتفض الخطاب الديني لرسوم يزعم أصحابها الإساءة لجناب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم ينتفض مثل ذلك لمواجهة فقر وبطالة وأمية وقيم منهارة وعشوائيات سكنية ليس فيها أبسط مقومات السكن اللائق بإنسان. وبينما نجد الرموز الدينية ومنها الرسمية يسارعون إلى الكلام في قضايا أكل الدهر عليها وشرب، أو في إبدا الهجوم على هذه الجماعة أو تلك، لا نجد لهم فتوى واحدة تتعلق تحرم احتلال الشوارع والأرصفة من الباعة الجائلين وبمواقف السيارات العشوائية وبمن يسمون مناديي السيارات الذين يفرضون الإتاوات على كل من يركن سيارته في الشوارع العامة، ويا ويل من لا يدفع لهم، فهل وجدنا خطابا دينيا واحدا ركز على هذا؟!. لست أهون من شأن بعض ما يتكلم فيه أصحاب الخطاب الديني، لكن أتكلم في أولويات الخطاب، أتكلم عن أغلب القضايا الرئيسة التي غابت عن هذا الخطاب، أتكلم عن تشوه الخطاب في أعين من ينظرون إليه بإنصاف فلا يجدون صورة ترغب أحدا في التزام تعاليم دين والاهتداء بهديه؛ لأن خطاب أصحابه لا ينقضي العجب منه فيما نطق به وفيما سكت عنه.