تثير لفظة «الإسلاميون» حفيظة الكثير من المسلمين، بل حفيظة بعض الإسلاميين أنفسهم! لما لها من إيحاء بالتفرقة ووضع حد فاصل بين المسلمين وبين من يطلقون على أنفسهم إسلاميين. ولكن يبدو أيضا أن من أطلق ذلك اللفظ، لفظ الإسلاميون، أراد عن عمد وضع ذلك الحد الفاصل بينهما. «» إذا أطلقنا لفظ الإسلاميين، فإننا نعني به من يؤمنون بأن الإسلام يحوي بداخله نظاما سياسياً لإدارة شئون البلاد وحفظ مصالح العباد. ويطلق عليه البعض مجازا «الإسلام السياسي» أي أن الإسلام دين ودولة، ويؤمنون كذلك أن هناك ما يسمى بالسياسة الشرعية التي كتب عنها الإمام ابن تيمية في كتابه: «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية». فهموا الإسلام كما فهمه حسن البنا باعتباره أول الزعماء الإسلاميين وأشهرهم بلا منازع، ومؤسس جماعة «الإخوان المسلمون»، أولى جماعات الحركة الإسلامية الحديثة وأشهرها وأكثرها تأثيرا في الوعي الجمعي لكثير من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس. وباعتباره بالنسبة لخصوم الإسلاميين (ربما من المسلمين أنفسهم، لاحظ هنا عداء بعض المسلمين للإسلاميين!) هو واضع البذرة الأولى لكل شرور الإسلام السياسي، حسن البنا يؤكد هذه الرؤية الشاملة للإسلام، ويظهر ذلك بوضوع في رسائله. إذن المشكلة تكمن في ماهية التعامل مع الإسلام نفسه، هل هو دين ودولة .. مصحف وسيف؟ أم هو علاقة بين العبد وربه لا تتجاوز المجال الخاص من حياة الأفراد، وعليه أن يلتزم الصمت حيال المجال العام (السياسة والاقتصاد أبرز تجليات المجال العام) في المجتمع. (وإن كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رأى أن الأيديولوجيات الكبرى كالعلمانية مثلا، خدعتنا جميعا بوضعها وسائل التأثير والتربية ونقل القيم وأهمها الإعلام، في يد الدولة والنخب الحاكمة فتعدت على حياتنا الخاصة واخترقت كل بيت فلم تدع لنا مجالا خاصا أو عاما بعد أن ادعت اكتفاءها بالمجال العام). إذن المسلم الذي يؤمن بالليبرالية أو العلمانية لا يندرج تحت الإسلاميين، وعلى الجانب الآخر لا يمكن للإسلاميين اعتباره كافرا. وخروجا من المأزق ظهرت لفظة "الإسلاميين" لكن الإسلاميين وإن لم يحكموا عليه بكلمة الكفر، فإنهم يتهمونه بنقص في الدين حيث أنه حصر الدين في الشعائر، وجعل السيطرة الكاملة على الدولة والحكم والدساتير والقوانين والأنظمة الجنائية والمعاملات المالية ومنظومات نقل القيم تحت رحمة أفكار ومناهج غربية وافدة لا تنتمي للموروث الحضاري العربي الإسلامي. إذن الإسلاميون ينكرون أن يكون هناك مسلم علماني أو مسلم ليبرالي، يرون أن «الإسلام دينا شاملا ينتظم شئون الحياة جميعا، فهو دين ودولة أو مصحف وسيف»، وبهذا النص وضع حسن البنا البذرة الأولى للإسلام السياسي. إذن كل إسلامي هو مسلم، وليس كل مسلم إسلامي. ليس ثمة شك أن الإسلاميين هم أكثر من يمكنهم الاستفادة من ربيع الثورات العربية الذي لا يكاد ينتهي الفعل الثوري له في دولة حتى يشتغل سخطا وغضبا ويصب جمرا ونارا على فرعون آخر في دولة أخرى، لكن قولنا بأنهم أكثر من يمكنهم الاستفادة لا يعني بالضرورة أنهم أكثر المستفيدين! رصيدُ الإسلاميين ونِقاط القوة للإسلاميين نقاط قوة تضاعف من رصيدهم لدى الجماهير في الشارعين الاجتماعي والسياسي. - تيار جماهيري حاشد: بينما تبدو الأحزاب العلمانية/الليبرالية، وكأنها تفتقد التيار الاجتماعي القادر على حمل برامجها، وبينما نلاحظ الافتراق بين القاعدة الاجتماعية وبرامج الأحزاب المعارضة غير الإسلامية، نجد أن الإسلاميين تيار جماهيري شعبي مجتمعي ذي قدرة هائلة على الحشد (أمثلة: الاستفتاء على التعديلات - جمعة الإرادة الشعبية)، سواء من الأنصار معتنقي الفكرة المشاركين في التنظيم أو من المؤيدين للفكرة دون الالتزام التنظيمي. وبينما يصر العلماني/الليبرالي على الظهور في البرامج الحوارية لإقناع البسطاء من الشعب بفِكره، يصر الإسلاميون على التواجد في الشارع والمجتمع بأعمال مجتمعية خدمية. بالطبع لا يمكن الحكم على تلك الأعمال بأن الهدف الرئيسي منها هو الحصول على الصوت الانتخابي المؤيد، كما يحلو للبعض اتهامهم، وهو خوض في النوايا لا يقل سوءا عن الخوض في الأعراض. فأعمال الخير الخدمية هي أهداف إسلامية في حد ذاتها يستمد التيار الإسلامي شرعيتها من النصوص والتعاليم الدينية بعيدا عن الحسابات السياسية. لكن الحقيقة أيضاً أن من يخدم الناس هو الأقرب إليهم، ولا شك كذلك أن تلك الأعمال المجتمعية تولد احتكاكا بين حاملي الفكر وطبقات المجتمع مما يولد حوارا وعلاقات إنسانية تصب لصالح الإسلاميين بالمحصلة. فالمجتمعات العربية الإسلامية تهتم بالقضايا الاجتماعية اهتماما كبيرا يفوق اهتمامها بالقضايا السياسية البحتة. فعندما نتحدث عن قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماما شعبيا وتبقى حبيسة النخب. وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم وواجبات الزوجة والزوج ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للاحتشام، سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع، وليس فقط الشارع السياسي، بل الشارع الاجتماعي والديني. - رصيد الفطرة والعادات والتقاليد: هناك شيئا مختلفا في الوضع الإسلامي، هناك ما يميز الشعوب الإسلامية وحاجاتها وأمانيها، هناك علاقة خاصة تربط بين المسلمين والإسلام والميراث الإسلامي التاريخي. فقد ظل الإسلام الناظم المرجعي لحياة المسلمين ورؤيتهم للعالم طوال قرون. ولم يتراجع هذا الموقع المرجعي بسبب صراع بين الأمة والسلطة الدينية، كما تطورت التجربة المسيحية في أوروبا. ولم تتم إزاحة الإسلام عن موقعه إلا بعنف حركة التحديث وسلطة الإدارات الإمبريالية، وجرت بدون استشارة الناس، بل وبخلاف إرادتهم في معظم الأحوال. فأي فكرة تعادي الدين أو تهمّشه ليس لها مستقبل في هذه المنطقة من العالم. تلعب العادات والتقاليد ورصيد الفطرة في نفوس عامة الشعب دورا بالغ الأهمية حيث لا تزال الشريعة مرجعية المجتمع. والانطباع الشائع بأن العلماني/الليبرالي ضد الدين أحد أسباب نفور الشعب من هذا التيار، فأصبح من الطبيعي أن يقول لك رجل الشارع أن الليبرالية شر محض لأنها ستؤول بنا لإباحة الشذوذ ومعاقرة الخمور جهارا وتحليل الربا! فالشخص "المتدين" أو "الشيخ" أو "الراجل بتاع ربنا" لا زالت له في النفوس مكانة ومحبة وقدر من الثقة والاطمئنان ترجح من كافة الإسلاميين كثيراً. - أصحاب مشروع: الإسلاميون أصحاب مشروع وإن كان كثير منهم حتى الآن لا يستطيع الخروج من فخ الكلام العام العائم إلى نقاط وخطوات وبرامج إصلاحية إجرائية محددة. لكنهم في النهاية أصحاب مشروع يدعون الناس إليه بإظهار محاسنه ورصيد التجربة التاريخية يعضد قولهم. وبخلاف التيار العلماني/الليبرالي، الذي يبدأ خطابه بخطوات سلبية أكثر منها إيجابية، كأن يبدأ كلامه بطلب فصل الدين عن الدولة، كلمة «فصل» توحي بأن هناك حالة من التلاحم، ومن ثم هو يطالب بالفصل وهو قول سلبي لا شك. أو يحذر في بداية الحديث من الدولة الدينية. وهو مستغرب أن يبدأ حديثة ب «فصل» الدين عن دولة و«تحذير» من تيار أو فكرة! - يتكلمون لغة يفهمها الناس: تستخدم القوى الإسلامية لغة يفهمها الناس، يبسطون خطابهم لأبسط أشكاله حتى يستوعبه المواطن (مع ملاحظة أن هذا التبسيط يؤدي بهم في كثير من الأحيان لاختزال مخل للأفكار، خصوصا إذا كان الحديث عن الأيدلوجيات الأخرى). بخلاف التيار العلماني/الليبرالي الذي يجزم ب"جهل" الشعب وضعف ثقافته ووعيه السياسي ويرى أنه يجب تثقيف الشعب أولاً حتى يفهم لغة النخب، وهو قول وإن كان به شيء من الصحة فهو غير منطقي وغير فعال وغير واقعي ولن يؤدي إلى نتيجة. هذه النقطة وسابقتها تؤديان لانعزال فكري بين المجتمع وبين التيار العلماني/الليبرالي. - وهم أيدلوجيا الإشباع الروحي: لا زال بإمكان الدين، أي دين، توفير الإشباع الروحي للإنسان. الإشباع الروحي الذي عجزت الأفكار والشرائع والأيدلوجيات الوضعية عن توفير أبسط أشكاله للبشر. لا زالت الأيدلوجيات تتتعامل مع الإنسان ببعده المادي، الإنسان ذو البعد الواحد. خلق الله الإنسان من طين (مادة) ونفخ فيه من روحه (روح) فكان السر الإلهي، والجانب المادي ضروري للكائنات الحية جميعها، الإنسان والحيوان والنبات، يوفره الكائن لنفسه بالأكل والشرب واللبس والتملك والتكاثر، وهو ما وفرته الأيدلوجيات غير المتجاوزة بصورة مذهلة في البداية حتى بدا للبعض أنها حملت إليهم الخلاص وحلت لغز الإنسان والحياة، أغرقت في قيم المنفعة واللذة الذي ربما أدى الافتتان بهما في بداية الأمر - خاصة بعد القضاء على وطأة الكنيسة- إلى شعور معادي للدين، كل الدين. بين كل تلك السعادة اللحظية الكاذبة، كان هناك شبح يتسلل في الخفاء رويدا رويدا، شبح الخواء الروحي. بل ريما أصبح التمادي في اللذة حينها (الجنس والاستهلاك) محاولة اليائس لاستجلاب الإشباع الروحي. من بين كل هذا الوحل والركام أطل الإسلام بقدرة هائلة على الإشباع الروحي تقضي على شعور الإنسان المتزايد بالاغتراب في عالم تسيطر عليه المنفعة واللذة المحرمة والقيم المادية، وبقدرة هائلة لا تدعو إلى العزلة ولا تناقض السعي والبذل للإعمار بل تدعو إليه وتجازي عليه إحسانا.