للفلسطينيين تراثهم التاريخي الذي بقى ممتدا حتى يومنا هذا، وتتعدد الموروثات التراثية للفلسطينين في جميع المجالات كالمأكولات والمشروبات والملابس وإقامة الأعراس وحتى في المناسبات الدينية العامة، تجد للفلسطينيين طابعهم الخاص الذي ينفردون به. خبز الصاج والطابون، تراث فلسطيني ما زال حياً يتداوله الناس في طعامهم، خصوصا تلك الأكلات الفلسطينية ك"المسخن الفلسطيني" و"الفتة" وعدد من الأكلات المختلفة، ونظرا لرواج هذا الخبز في قطاع غزة باستخدام الأفران الخاصة، إلا أن بعض النساء الفلسطينيات، مازلن يتمسكن بصناعته في البيت، كما اعتدن أمهاتهن أو جدتاهن. أم محمد، (81) عاما، صنعت عددا من أرغفة الصاج في منزلها، وأخذت بالحديث عن هذا اللون الخاص من الخبز الذي اعتبرته علامة للفلاح الفلسطيني، فكانت النساء جميعا قبل عشرات السنين تصنعه لعائلاتهن، وتحتفظ كل امرأة بالأدوات اللازمة لخبزه. على صفيح حديدي أشعلت النار تحته، تمسك أم محمد أمام أحفادها كتلة دائرية من "العجين"، وهو دقيق مخلوط بالماء وبعض المكونات اللازمة لصنع رغيف الصاج، وتمدده بيديها، مستمرة في فرده حتى يصبح بحجم الصفيح الحديدي تقريبا، فتضعه على الصفيح الساخن لأقل من دقيقة واحدة، حتى تفوح رائحة الخبز، وينضج رغيفا شفافا وشهيا. تصف أم محمد صناعة الخبز أثناء انشغالها برق كتلة "العجين" بكلتا يديها والذي يصنع من الدقيق، بإضافة الملح والماء الفاتر للدقيق، ثم يتم عجنه حتى يصبح لين ولزج بما يكفي ليتم تقطيعه لكرات بحجم كفة اليد، ويرش عليها بعض الدقيق الجاف لمنعه من الالتصاق باليدين، ثم تستمر بفرده كالورقة، بعض النساء يستخدمن أداة تسمى "الشوبك"، وهو قطعة إسطوانية من الحشب، والبعض يستخدم يديه للرق وليتم التحكم به بشكل أكبر، وتستمر أم محمد بتقليب العجينة بيديها حتى يأخد شكلا كبيرًا، فتضعه على الصفيح. تفيد أم محمد بأنها تواضب على صنع هذا الخبز، رغم توفر أصنافا أخرى قد تعد أسهل في تجهيزها، لكن هذا الخبز بالنسبة لها يحمل رائحة البلاد، وتحرص دائما على مأدبة الطعام، كنوع من التمسك بالعادات القديمة، التي تربت عليها، فكانت أمها تعد الخبز لأبيها، وكانت تعلمها طريقة صنعه، حتى أصبحت تعده بشكل دائم وتعلم أحفادها أيضاً كيفية صنعه لضمان استمراره. ومع تطور الأدوات المستخدمة في جميع الصناعات بقطاع غزة، أخذت مخابز بالتخصص في هذا النوع من الخبز، ولكنها واجهت الكثير من المتاعب والمعيقات نظرا لحجمها واستخدامها للغاز والكهرباء بدلا من نار الحطب المستخدم لدى النساء في بيوتهن. ويقول الخباز الشاب محمد أبو جراد، إن خبز الصاج والطابون من أكثر الألوان التراثية المطلوبة في الأكل، ويعزي إقبال الناس عليه لمذاقه الطيب، واستخداماته في بعض الأكلات التي لا تؤكل بدونه، خصوصا في العزائم، مشيرا إلى أن بعض الناس ونتيجة لتميز هذا الخبز، صاروا يستخدمونه في أكلات مختلفة، مثل الشاورما والفلافل. الأزمات التي تلاحق قطاع غزة من انقطاع دائم للكهرباء وشح الغاز، تعمل على تعطيل هذه المخابز بشكل كبير، فبحسب أبو جراد، يؤدي انقطاع الغاز إلى وقف المخبز، مسببا خسارة للمخبز في حال استمرت الأزمة، وكثيرا ما تستمر في قطاع غزة؛ لأن الزبائن لا يرضون بخبز الصاج إلا إذا كان طازجا ويخبز أمام أعينهم. وبحسب الخبراء في التاريخ والتراث الفلسطيني، فإن خبز الصاج والطابون نشأ في فلسطين أثناء الحضارة النطوفية منذ 10 آلاف عام قبل الميلاد، وكانت تختلف طريقة إعداده، فيضع الناس حصى سوداء اللون وسط حفرة ويشعلون النار حولها حتى تصبح ساخنة، وعندها يأتون بالقمح المطحون والمخلوط ببعض الخضروات؛ نتيجة لسخونة الحصى كبيرة الحجم، فإنه ينتج رغيفا فلسطينيا بعد لحظات قليلة. وانتقل هذا اللون إلى حضارات فلسطينية متعددة مثل الغسولية وحضارة وادي غزة، فقد شهدت صناعة خبز الطابون عام 3200 قبل الميلاد، وبدخول الحضارة الكنعانية سنة 3000 قبل الميلاد، ظهر "الفرن البلدي"، وهو فرن منزلي الصنع يستخدمه الفلاحون في صناعة خبزهم، ويحتوي على فتحتين سفلية وعلوية، واحدة لإضرام النار بها، والأخرى لوضع الخبز فيها. وبالرغم من التقدم المحيط بقطاع غزة وسهولة صناعة الخبز باستخدام الآلات، إلا أن الكثير من الفلسطينيين ما زالوا يستخدمون الطرق التقليدية في صناعة خبز الصاج والطابون، الذي يعبر عن الثراث الفلسطيني العريق الذي ما زال حاضرا لدى الفلسطينيين الذين يتمسكون بتراثهم وتاريخهم، حتى في خبزهم الخاص.