السيسي كمرسي ومن قبله مبارك ومن قبلهما السادات، لا أحد بينهم كسر القاعدة غير المعلنة في الترقي لأعلى مناصب الدولة المصرية: أن تكون أداة طيعة في يد رؤسائك أو الأعلى منك مكانة، لا تشكل خطرا عليهم، ولا تُختص بميزة عن أقرانك، بهذا وحده تخرق الحجب وتتخطى الحواجز المعيقة لمن هم أكثر موهبة وأعلى قدرة! لم يطفو أي من هؤلاء على سطح الدولة المصرية صدفة، بل برزوا وفق قانون يتفق عليه الجميع؛ المجتمع مع الحكومة، والمعارضة مع النظام، ولا يخرقه أي كان. تخلص عبد الناصر من جميع شركائه بالسلطة، أعضاء مجلس قيادة الثورة، واستبقى السادات الطيع، الذي لا خطر منه، واختار السادات مبارك نائبا له، معرضا عن قامات عسكرية لا يبزها الأخير في قدراتها أو جاذبيتها، كأبو غزالة والشاذلي، وانتقت القيادات القطبية للإخوان مرسي مرشحا للجماعة في انتخابات الرئاسة، متجاهلة عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان ومحمد البلتاجي الأوسع خبرة والأكثر جاذبية، وقدم المشير طنطاوي السيسي على عديد من القيادات العسكرية الأكثر كفاءة وخبرة (بشهادة الفريق حمدي وهيبة الرئيس الأسبق لأركان القوات المسلحة)، مرشحا إياه ليخلفه على منصب وزير الدفاع، الذي تبوأه طنطاوي لما يزيد عن اثنى عشر سنة، بفضل ذات الصفات التي رجحت كفة السيسي على غيره من قيادات الجيش: أداة طيعة في يد مبارك، لا خوف منها ولا خطر، كما اعتقد الأخير. فساد المجتمع لا النظام ودوائره فحسب جعل الترقي في دوائر المؤسسات الحكومية والأهلية مستندا لتلك القاعدة، لا يشذ عنها إلا قلة، لا حكم لهم، وهذه الآفة التصقت دوما بأخرى، إذ بمجرد ارتقاء الرجل الصغير منصبا يصبح وفق ذلك الأكثر علما ودراية، ليتصاغر أمامه أصحاب الكفاءات والخبرة، فيظن في نفسه العلم والحكمة، وينفرد باتخاذ القرارات، لتتقاطر المهازل! إذن لا مجال للدهشة أن يعتقد رجل عسكري محدود القدرات، ضحل الثقافة، لا ينافس ارتباك أفكاره إلا عشوائية قرارته، أنه الحكيم الذي ينصح كبار الفلاسفة وخبراء المخابرات بسماعه! الرجل لا ينفك يكشف يوما بعد يوم عن طفولية في التفكير، تنعكس في أحاديثه المرتجلة، وكان أول الكشف تصوره أن بالإمكان وضع مادة بالدستور تتيح له العودة لمنصبه كوزير دفاع إذا ما خسر الانتخابات الرئاسية! ثم توالت "الكشوفات"، لكنها لم تردع النخبة والمثقفين عن صغارهم أمامه، ليغذي هذا ذاته المتضخمة، ويشجعه على المضي قدما في قرارته ومشروعاته غير المدروسة، التي يكشف عنها دوما دون سابق إنذار، خوفا من " الأشرار"! ما يتميز به السيسي عن سابقيه أن هناك آلة إعلامية ضخمة عملت وتعمل على تسويقه للناس، بجانب المؤسسة العسكرية الي دعمت ترشيحه بما يخصم من سمعتها، فروجت لمشروعات زائفة، ك"اختراع الكفتة" ومشروع المليون وحدة سكنية، لتستمر عمليات التضليل بعد تولي السيسي الرئاسة: العاصمة الجديدة المزعومة – التفريعة التي نفخ الإعلام من روحها فيها فاستحالت قناة جمعت في الأسبوع الأول تكلفة حفرها بحسب الرئيس!) التضليل الإعلامي الذي فاق نظيره في العهود السابقة جاء نتيجة لبروز الشعب كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، أما بعهد مبارك والسادات من قبله فكان القمع هو الآلية الغالبة لتطويع الشعب المنصرف عن كل شيء عدا محاولة البقاء على قيد الحياة، في ظل ظروف شديدة البؤس. أحكم النظام قبضته على الإعلام كضرورة لازمة لإنجاح عملية التضليل، فمعظم "الولاد بتوع الإعلام" – بتعبير اللواء عباس كامل – إن لم يكن جميعهم، توزعوا على الأجهزة الأمنية، ومنهم من كان صناعة أمنية خالصة، أما من رفض التعاون مع النظام، وتبني قضاياه فأجبر على إخلاء مكانه، وأدى غياب الوعي وتواطؤ النخبة إلى نجاح هذه العملية إلى حد تأييد الأغلبية الفقيرة نظاما تخاصم سياساته الاقتصادية مصالحها، وهذا النجاح أغنى السيسي عن اتخاذ أي تدابير اقتصادية حقيقية لصالح تلك الأغلبية المؤيدة له والمباركة لحكمه! لكن هذا لن يجعله بمأمن من لحظة انفجار تأتي بغتة. سيستمر نموذج السيسي ما استمر هذا النهج المجتمعي الفاسد، وتجاوزه يتطلب ثورة لا على النظام فحسب، بل على الثقافة المجتمعية التي أفرزت السيسي ومرسي ومبارك..، وإلى أن تقع الثورة المرتقبة ستكفل تلك الثقافة البائسة استمرار تصدر هذا النموذج، ليحجب كل أمل في النهضة، ولا يتبقى للشعب سوى دائرة مفرغة من الأكاذيب والتهويمات التي تستنزف طاقاته، وتهرس طموحاته في العيش الكريم. [email protected]