"بازراف" هو بطل إحدى روايات الأديب الروسي "إيفان تورغينيف" الآباء والبنون، تدور أحداث الرواية في ستينات القرن التاسع عشر بالمجتمع الروسي، الذي تنتظم حياته في أنشودة رعوية تتسم بالبساطة وبدرجة عالية من الاستقرار والرتابة. يشن "بازراف" حملة على هذا الاستقرار مسلحا بفظاظته المنطقية، وخشونته التقدمية، يسخر من رومانسية تسم أفكار المجتمع ورؤاه، ساعيا لأن يستبدل بها أفكار العلم المادية الألمانية: "فالطبيعة بالنسبة له ليست معبدا، بل ورشة عمل". يلعب "بازراف" في الرواية دور "الواعية" التي تتنكر للفطرة – الطبيعة، وتسعى لأن تحل محلها بالمجتمع المستكين للعيش الآمن المطمئن، الذي تهيأه الفطرة – الطبيعة باجتنابها مشكلات تثير في النفس من الشكوك ما لو استحكم لتخلخل اليقين المقترن بالفطرة، ليتسرب الخوف إلى النفس، ويكون أمام المجتمع في هذه الحالة خيارين: إما أن يتجاهل المشكلات، وما تثيره من شكوك، وبذا يظل على حاله يرعى في الطبيعة ويتوسد الفطرة، وإما أن يستدعي "الواعية" لتشرع في حل هذه المشكلات، وإزالة الشكوك المتصلة بها. هذا صراع تشهده كل مجتمعات ما قبل الوعي، يحسمه المجتمع نهايةً لصالح "الواعية" عند لحظة تاريخية معينة، تسبقها مناوشات تشنها الواعية عبر "بازراف" السياسي أو عالم الدين أو المفكر أو كل هؤلاء، ولأن اللحظة التاريخية لانتصار "الواعية" لم تحن عندئذ تكون الهزيمة أو التقهقر أو النهاية العبثية كنهاية "بازراف" بطل الرواية (مات بعدوى من مريض كان يعالجه). تاريخنا الحديث شهد تكرار هذه القصة مع محمد عبده، وطه حسين، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم، وعندما جاءت 25 يناير ظن البعض – وبعض الظن عجلة تورث الندامة – أن اللحظة التاريخية حانت لتغلب "الواعية" على الفطرة- الطبيعة، لكن لم يظهر للواعية "بازراف" ينتصر لها في حين برز للفطرة بطل عسكري دافع عنها، وانتصر لها، بعد انحياز المجتمع لمعسكره، رغم ضعف قدراته، وانعدام مواهبه، وخطابه العاطفي شديد السطحية (وهو ما يتفق مع كونه ممثل الفطرة). تلقت "الواعية" هزيمة أخرى على يد الفطرة، لذا لم يكن عسيرا على النظام أن يشحن لدى مجتمع ما قبل الوعي هذا "غريزة القطيع"، وأن يوجههم الوجهة التي يريد فهذه الغريزة في رأي عالم الاجتماع "غوستاف لوبون"، عندما تستيقظ لدى مجتمع أو جمهور معين فإنه "يفقد قدرته على التفكير النقدي.. ولا يهم أن يكذب الطاغية (راعي القطيع) أو أن يكون صادقا، لأن الجمهور أصلا لا يطلب الحقيقة، المهم أن يعرف الطاغية كيف يحرك غريزة "الخوف والبقاء" عند هذا الجمهور، لكي يتصرف كقطيع، بردود فعل هيستيرية، تفضي إلى عبادة الطاغية، كزعيم مخلص، والخوف من بأسه في نفس الوقت، في هذه الحالة يصبح الجمهور خاضعا بشكل أعمى، لمشيئة الطاغية، الذي يتحول كلامه إلى دوغما، لا تُناقش، أما الذين لا يشاطرون القطيع هذا الإعجاب بالزعيم يصبحون هم الأعداء"، يصبح كل من لديه لمحة من وعي، ويحاول أن يشرد برأيه عن القطيع كالأفعوان، يؤخذ من خلف بأطراف البنان!، بتعبير أمير شعرائنا، أحمد شوقي. ربما لا تُسلمنا هذه الصورة للتفاؤل، لكنها لا تُعنى بإغراقنا في التشاؤم، ولا تطمح لدق جرس الخطر لأنه لن يُسمع، ولا ترنو لوضع يدنا على إشكالية مجتمعنا، لأن جوانبها متعددة لا يضمها مقال ولا سلسلة مقالات، بل هدفي أكثر تواضعا، أن أشغل المساحة المخصصة للمقال، وإلى جانب ذلك أقدم نصيحة بسيطة للقارئ تعويضا عن وقت منحه لقراءة ما كتبت؛ وهي ألا يراهن على أزمات النظام القائم مهما بلغ حجمها – لكي لا يصاب بالإحباط – لأنها ستمر عبر حالة "ما قبل الوعي" بسلاسة، وحتى لو تفجرت نوبة ثورية جديدة نتيجة لتدهور الأوضاع فلن تفضي لتغيير جاد ما دامت الواعية لم ينبت لها على هذه الأرض بطل ينتصر لها.