لا أحد سيصل إلي منزل الدكتور درويش، ولا حتي الحفيدة ضيفة الشرف! مادامت الحوادث تضع العقبات في طريق هذا الوصول لسبب أو آخر. والحكاية أن الدكتور درويش بشير أستاذ التاريخ العربي بإحدي جامعات نيويورك - كان قد قرر أن يقيم حفل عيد ميلاد لحفيدته »سلمي« التي ستبلغ الواحد والعشرين منتصف هذه الليلة. جلس الجد ينتظر، بينما الحفيدة تواجه المجهول في متاهة المترو الأمريكي. أما المدعوون فمهاجرون عرب، أو منحدرون من أصول عربية يحيون عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. علي محور هذا الحدث البسيط تتجمع خيوط الرواية لتسرد أسفار العهد الأمريكي الجديد. ولم يكن الحفل، ولا الدعوة في حقيقة الأمر - إلا مناسبة لجلوس المدعوين علي مائدة السرد، ليفتح لنا كل واحد منهم باب مدينة أمريكية جديدة. من واشنطن، إلي بروكلين فميامي وصولاً إلي نيويورك كبري المدن الأمريكية. هناك وسط الأنصاب الأمريكية التي يُراق الدم تحت بصرها وسمعها، نصغي في أروقة »الأممالمتحدة« إلي صوت الأمين العام الحائر بين الصيغتين الشهيرتين: »نأسف« و»ندين«. حيث البلاغة اللغوية، ولعبة بيانات الشجب والإدانة هي البدائل التي بمقتضاها يمارس الغرب شعائر »الفرجة« علي وقائع قتل المدنيين وتشريدهم في كل مكان من العالم. وقد يحلو للمتفرجين أن يشاركوا في صناعة القتل تحت غطاء لغوي ناعم يصيغه الأمين العام بدقته المعهودة. هكذا استطاع يوسف ابن الدكتور درويش ونقيضه في آن أن يتبين أقانيم الزيف التي تجعل من كِيانات مثل الأممالمتحدة، ومجلس الأمن ألعاباً افتراضية أبدعها لاعبو الغرب المهرة. يضيف إليهما زوج خالة سلمي برجي التجارة العالمين بما ينطويان عليه من رمزية يختلط فيها الزهو بالتحدي، والغرور بالقوة. حتي يغدو انهيار البرجين هزيمة تمتد في مداها التاريخي إلي انتصار »داوود« علي »جالوت« الطاغية، بل وانتصاراً للضعف علي القوة، وللخير علي الشر: »نحن داوود وأنتم جالوت الطاغية. لم يهزم داوود جالوت بمصارعته وجهاً لوجه، فجالوت أقوي وأضخم، وأقدر علي المنازلة. لكن داوود انتصر بالحيلة حين سدد الحجر لعين الطاغية فأرداه من الألم«. ومن ثم لم يتوقف السرد عن نشر ما يمكن القول عنه أنه شواهد الحياة الأمريكية المصقولة واللامعة. علي نفس النحو الذي يشير به من طرف خفي إلي الطابع اللاانساني الذي يغمر هذه الحياة. أما رامي تلميذ الدكتور درويش وقريبه القادم من »ميامي« تلبيةً لدعوة أستاذه، فيضعنا في قلب العزلة الاجتماعية والنفسية التي يعانيها مهاجر مصري ترك بلده منذ أكثر من ثلاثين عاما. هذه الهوة الثقافية التي يتردي فيها مصري تعوّد علي الفضفضة، وأُنس الصحاب هي بالضبط ما يفتقده رامي. بل ويعجز عن عبوره، حتي بينه وبين زوجته وابنتيه. يفتح رامي قلبه لابنته الكبري »شاسا« فيخرج الحي من الميت، مثلما يخرج الميت من الحي. أو قل يُبعث الماضي الدافيء والحنون من بين ركام حياة مختومة بخاتم الصمت والوحشة. يحكي فيسترد حياته المسلوبة والمُبدلة بالفيزا - كارد، السيارة، المنزل وأناقة الطريقة الأمريكية. يحكي فيتبين ملامح »الطوطم« الأمريكي الغارق حتي أذنيه في شرور الحياة المادية. لسنواتٍ طوال وهو يتفادي كسر التابوهات الأمريكية، »وذلك علي أمل أن يحتويه هذا النظام ويحميه«. غير أن العاقبة ليست دائماً للمتقين. فقد كَبِر علي ابنتيه وزوجته أن يكفر هذا العربي المهاجر بنِعم الحياة الأمريكية بعد كل هذه السنين. ومن ثم استطعنّ بقوة القانون أن يجردنه من أبوته قبل أمواله. وأن يسمعنّه بالتي هي أسوأ صوت اللوم والتأنيب علي حنينه لبلده وناسه! كذلك تنعطف حكاية »رباب العمري«، التي تعمل بالمحاماة دفاعاً عن حقوق الأقليات، علي حكاية رامي بمعني من المعاني. فهي في الخط الممتد للرواية، إحدي المدعوات لحفل الدكتور درويش، وصديقة ابنته ليلي. وهي، بالإضافة إلي ذلك، لا تخلو من ضيق بالصلف الأمريكي الذي يتجلي في جميع ممارسات الحياة اليومية. إما بطبيعة عملها الذي يتطلب رهافة خاصة في التقاط العوارات التي تختبيء تحت سطح الحياة اليومية. وإما بسبب أصولها العربية التي تجعلها هدفاً للغضب الأمريكي المتصاعد، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ففي هذه المرة نحن في مطار»واشنطن« أمام بوابات التفتيش الإليكترونية التي تتصدي للمسافرين درءاً لأي خطر محتمل. حيث يتوقف السرد بنا أمام السحنة العربية التي أصبحت سحنة »مشبوهة« بوصفها دالاً يفضي مدلوله إلي المسئولية الأخلاقية عن تفجير مركز التجارة العالمي. هذا الاشتباه الفوري هو الذي جمع رباب العمري بعدنان فكري المحاسب في غرفة معزولة يحرسها رجال الأمن. غير أن الخوف أيضاً هو ما يجمعهما في نهاية المطاف. الخوف الذي ينثره عدنان فكري في انسحابه وانكماشه وعزلته، وتنثره رباب العمري في جرأتها، وتحديها وثرثرتها التي لا تهدأ. وأخيراً فقد ضمت الرواية أكثر من حكاية يُفضي أولها إلي آخرها في مدي الفهم الذي يعطف وشائج القرابة، الصداقة وعهود الدراسة علي رواد عيد الميلاد المنتظر. كما تصبح العثرات التي يتردي فيها المدعوون خلال محاولاتهم اليائسة للوصول إلي منزل الدكتور درويش بلا جدوي، هي القاسم الأعظم المشترك بين أبطال العمل. بل هو الصراع الذي لا يهدأ بين حياة خلّفها المرء وراءه، وحياة لم يستطع بعد أن ينتمي إليها. وليس كذلك الدكتور درويش بشير أستاذ تاريخ العرب، الذي لايزال يري في الثقافة العربية مجرد تاريخ!. فقد استطاع الدكتور درويش أن يتقمص دور المواطن الأمريكي المتعصب، بالرغم من أصوله المصرية. ومن ثم يصبح موقفه المفارق لموقف أبطال الرواية محل تساؤل. فماذا أراد السارد بهذا مثلا؟. هل يرغب السارد في إدانة الدكتور درويش سردياً، من خلال تصعيد وتيرة النقد للمجتمع الأمريكي الذي تحكمه حزمة من التقاليد الميكانيكية؟ أم هو بالضبط الناطق السردي باسم ذلك المجتمع الذي يتقبل جموده ولاإنسانيته، علي نفس النحو الذي تقبل به موته؟