الخارجية: تحية إعزاز لشعب عظيم استرد أرضه وكرامته بملحمة تاريخية    بنك ناصر الاجتماعي يتيح التمويلات الشخصية لموظفي البنوك وشركات القطاع الخاص    وزيرة البيئة تترأس مع نظيرتها بألمانيا جلسة النظام العالمى لتمويل المناخ    في ذكرى تحريرها.. القطارات تعود إلى سيناء وتعبر كوبرى الفردان الجديد "صور"    سعر برميل النفط الكويتي يصعد 34 سنتا    الفريق أسامة ربيع: نولي اهتماما كبيرا بتطوير المجال البحثي وبرامج تدريب الكوادر البشرية بالهيئة    صحة غزة تناشد المؤسسات الأممية والإنسانية سرعة توفير الوقود للمستشفيات    انتشال نحو 392 جثمانا من مجمع ناصر الطبي بخان يونس خلال 5 أيام    الخارجية الإيرانية: الرأي العام العالمي استيقظ    ضبط شخص يسرق حسابات المواطنين وينتحل صفتهم ويطلب تحويلات مالية من معارفهم    نيابة المنيا تحقق في نشوب حريق بمخزن أدوات كهربائية في ملوي    محافظ شمال سيناء: كل الخدمات في رفح الجديدة بالمجان    صعود جديد في سعر الفراخ البيضاء اليوم الخميس 25-4-2024 داخل بورصة الدواجن والمحال    انقطاع خدمة الإنترنت الثابت فى وسط وجنوب غزة    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    1118 مستوطنًا يقتحمون المسجد الأقصى.. وآلاف آخرين يؤدون صلوات عند «البراق» (فيديو)    روسيا تلوح باستهداف الأسلحة النووية للناتو حال نشرها في بولندا    تعديل موعد مباراة الأهلي وبترو أتليتكو بكأس الكؤوس الأفريقية    كولر يدرس استبعاد ثنائي الأهلي من مواجهة مازيمبي.. تعرف على السبب    كولر يحذر لاعبي الأهلي من إهدار الفرص أمام مازيمبي في دوري أبطال أفريقيا    تفاصيل اليوم الأول للبطولة العربية العسكرية للفروسية للألعاب الأولمبية| صور    لمدة 6 ساعات قطع مياه الشرب بمنطقة « أ » بحدائق الأهرام مساء يوم الجمعة    محافظ الأقصر يهنئ الرئيس السيسى بعيد تحرير سيناء    موعد إعلان أرقام جلوس الثانوية الأزهرية 2024    تحقيقات تسريب الكلور داخل حمام سباحة الترسانة: «الحادث ليس الأول من نوعه»    رفع 2000 حالة إشغال متنوعة وتحرير 10 محاضر تموينية في الجيزة    حبس المتهم باستعراض القوة وإطلاق الرصاص وترويع المواطنين بالقليوبية    بنات ألفة لهند صبرى ورسائل الشيخ دراز يفوزان بجوائز لجان تحكيم مهرجان أسوان    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    بدء مطاردة الأشباح.. تفاصيل مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة الثانية    بخصوص «تغطية الجنازات».. «سكرتير الصحفيين» يكشف نقاط الاتفاق مع «المهن التمثيلية»    شقو يكتسح شباك تذاكر أفلام السينما.. بطولة عمرو يوسف وأمينة خليل    فحص 260 مواطنًا في قافلة طبية مجانية بالإسكندرية    رئيس البرلمان العربي يهنئ مصر والسيسي بالذكرى الثانية والأربعين لتحرير سيناء    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    انطلاق فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بمدينة مصر للألعاب    سقوط عصابة تخصصت في سرقة الدراجات النارية بالقاهرة    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    مصرع شخصين وإصابة 8 آخرين فى حادث سير بين تريلا وميكرباص بصحراوى البحيرة    «الصحة»: فحص 6 ملايين و389 طفلا ضمن مبادرة الكشف المبكر عن فقدان السمع    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    الأهلي يصطدم بالترجي التونسي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    حمزة العيلى عن تكريم الراحل أشرف عبد الغفور: ليلة في غاية الرقي    الليلة.. أنغام وتامر حسني يحيان حفلا غنائيا بالعاصمة الإدارية    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات بميناء دمياط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    مدحت العدل يكشف مفاجأة سارة لنادي الزمالك    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    عرابي: ناصر ماهر لم يتنازل عن مستحقاته من أجل الزمالك.. ولا توجد أزمة مع جنش    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متي يبدأ القصف؟

"احب أن أهدي هذا البحث إلي اثنين من شرفاء البشر كانا أول من نبه إلي خطورة الحالة التي يعيشها الشعب الليبي تحت حكم القذافي، الأول هو أستاذ علم النفس المصري الدكتور ملاك جرجس، رحمه الله، لأنه حذر اخوته الليبيين في وقت مبكر من شخصية هذا الرئيس وصارح زميله عميد كلية الطب الصديق الدكتور مصطفي الفرجاني، اطال الله عمره، بأن يأخذ الناس حذرهم من رئيسهم، لأنه استطاع تشخيص شخصيته السيكوباتية، في بواكير عقد السبعينيات، والثاني هو الكاتب البريطاني الكبير، شفاه الله من المرض الخبيث الذي أصابه أخيرا Christopher Hinchens الذي زار طرابلس في منتصف السبعينيات منتدبا من صحيفة نيو ستيتسمان، ليعود فيكتب قطعة أدبية تصف أحوال الليبيين ويتكلم عنهم بألم وأسف مشبهاً العاصمة بأنها اشبه بفقاعة كبيرة يعيش تحتها شعب تخلت عنه ربات الحظ السعيد وأسلمته الظروف التي تحكم بلاده إلي واقع بائس ومصير مجهول".
من المفارقات التي يصنعها الطاغية، أن يجعل الشعب يفرح لهزيمة جيشه، ويخرج راقصاً لرؤية هذا الجيش منكسراً هارباً أمام جيش الغزاة، حدث هذا مع موسيليني، وحدث مع هتلر، وحدث أخيراً في العالم العربي مع جيش صدام عندما خرج الشعب إثر انسحاب جيشه مهزوماً من الميدان يطيح بتماثيله ويمزق تصاويره ويهتف هتافات الفرح بسقوطه، ولعل شيئاً من هذا نراه يتشكل ويتبلور في ليبيا بعد صدور قرار مجلس الأمن بحظر طيران الجيش الليبي فوق المدن الليبية وقاية لأبناء هذه المدن من قصف جيشهم لهم، واستعداد حلف الناتو والطائرات الرابضة فوق سفن الأسطول السادس لضرب وحدات الجيش التي يقودها أبناء العقيد، التي تحاصر المدن، وخروج الشعب في ثاني أكبر مدينة ليبية (بنغازي) يحتفل بصدور هذه القرارات ويعبر عن سعادته باستعداد هذه الأساطيل وهذه الترسانات العالمية لقصف مواقع وثكنات وكتائب الجيش الليبي، وصعد الناس إلي سطوح بيوتهم يستشرفون الأفق، في اليوم التالي لصدور القرار يرقبون السماء بانتظار متي تأتي الطائرات الحربية لحزب الناتو لتبدأ تحقيق وعدها بإبادة جيش بلادهم وقصف مواقعه، وعزز هذا الشوق لرؤية طلائع طائرات الجيش الأجنبي، أن الجيش الوطني كان في ذلك اليوم يزحف بدباباته ويصل قريبا من بنغازي ليباشر ضربها ودك بيوتها فوق رؤوس أهلها. مفارقة لا يصنعها إلا حكم الطغيان الذي لابد، ومهما ارتدي الطاغية من عباءات الوطنية، ورفع شعارات المقاومة والثورة، ومهما تكلم باسم الشعب واسم الجماهير، أن يسفر عن وجه يمارس أقسي أنواع الظلم ضد هذه الجماهير، وضد هذا الشعب، وضد هؤلاء المواطنين الذين كان يتكلم باسمهم، ويدعي أنه يحقق الانجازات والأمجاد لهم، ولعل طغاة أوروبا وروسيا، ببعض العون من البيئة المتحضرة التي تحيط بهم، قد نجحوا فعلا ، في فترة ما من حكمهم، ببناء شامخ الصروح، وتشييد أضخم المحطات العالمية للقطارات، وأكثر الموانئ تقنية وتطوراً، وأكثر المطارات حداثة، بل وشقوا الطرق وبنوا المصانع وأقاموا المدن، كما حدث مع ستالين وهتلر وموسيليني، ولكن هذه المسيرة التنموية غالبا ما تمت تحت أغطية من العنف والقمع وحملات التطهير، وبسبب حماقة الطاغية لابد أن تنتهي كل هذه الإنجازات إلي دمار لتحل محلها أنهار الدم وجبال الجماجم كما حدث مع الفوهرر، زعيم النازية، وهو يشعل حرباً عالمية يذهب ضحية لها أكثر من خمسين مليون قتيل، وقرينه وزميله في إيطاليا الزعيم الفاشي الدوتشي موسيليني وهو يقود شعبه إلي المذابح ثم إلي الهزيمة، وأخيراً صدام وهو يقود شعبه من حرب إلي حرب بدأت بحرب ضروس إجرامية مع إيران ثم حربي الخليج الأولي والثانية، وكان لابد لنهاية الطاغية أن تكون كما انتهي هؤلاء الطغاة وبعض أفراد عائلاتهم باستثناء ستالين الذي تأخرت نهايته لسنوات بعد وفاته عندما حطمت جماهير الشعب الروسي تماثيله، وأخرجت عظامه من قبره، وانتهي النظام القمعي الذي اشاده بحجة الانتصار للخير والعدل والمساواة.
الطاغية وأسافل القوم
ولننتقل الآن لبحث القواسم المشتركة لحكم الطغيان، واعتقد أن أول هذه القواسم وأكثرها شيوعاً بين كل أنظمة الطغيان، هي الفرد، الزعيم، الواحد الأحد الذي لا شريك له في الحكم أو يوازيه في المكانة، بل المتأله، ونستغفر هنا خالق الكون، من أجل إنسان مريض يريد أن يستعير دور هذا الخالق، ويحمل بين يديه مقدرات البشر، فهو الذي يميت الناس ويكتب لهم الحياة، هو الذي يوزع الأرزاق فيفقر من يشاء ويغني من يشاء، هو الذي يسعد من يشاء ويشقي من يشاء، يدخل من يشاء إلي سجونه وغرف تعذيبه، ويخرج من يشاء إلي فضاء الحرية، هو الذي يهبط بمن يشاء إلي أسفل السافلين، أو يرتفع به إلي أعلي عليين، هو الذي يشير بأصبعه إلي إنسان ما فيختفي من فوق البسيطة، ويخلق من إنسان في حجم جرثومة أو ذبابة، كائناً كبيراً في الجاه أو المال أو السلطة، فالطاغية يضع نفسه هنا في صورة كائن لا حدود لإمكاناته، ولا لإرادته، ولا يسمح لأحد بأن يقف في طريق ممارسته سلطته المطلقة الطاغية الماحقة الحارقة المارقة.
ملمح ثان يتكرر مع كل طاغية، هو أنه يحيط نفسه بأسافل القوم، وأهل الضعة والهوان، ويذهب إلي قاع المجتمع ليستعين بحثالة الحثالة كما يؤكد المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد »ان يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا« وهو يبدأ منذ بداية حكمه بإبعاد، وأحيانا تصفية، أو قتل الحلقات الأولي التي وصلت معه إلي هذه المكانة بحكم الجدارة أو الشراكة في ايصاله إلي الحكم، وفور أن يصل بفضل عونهم إلي تحقيق غرضه حتي يبدأ بالتخلص منهم، وبخاصة ممن هم شركاء له في الحكم، ثم ينثني علي كل من له رأي أو يحاول مناقشته فيما يصدره من أوامر، وبسرعة يختفي، وأحيانا يهرب كل من له رأي أو فكر أو قدرة علي أو ميل للمناقشة، ولا يبقي معه في النهاية إلا من يسميه التعبير الأجنبي:The willing prostitute أي من يطيعه كما تطيع، ويستسلم له كما تستسلم العاهرة لزبونها، ولا فرق هنا بين حارس صغير أو صاحب منصب وزاري سيادي، فكلهم يستوون تحت مظلة الطاغية في أنهم مجرد منفذين لأوامره وخدم صغار يطيعونه حتي في أحقر نزواته وأخس وأرخص غرائزه، والتاريخ حافل بمن قدموا النساء للطاغية وتنافسوا لارضاء انحرافاته وشهواته المريضة كما صورها كاتب مثل ألبير كامي في مسرحيته "كاليجولا" أو في الأدب العربي "مجنون الحكم" كتاب بنسالم حميش عن الحاكم بأمر الله، إذ لا يتورع هذا الطاغية عن انتهاك أقرب الحرمات إليه واستباحة أعراض المحيطين به، ولهذا فهو يحتاج إلي استقطاب كل رخيص مبتذل من الناس في حكمه وبلاطه، ويصبح بالضرورة خبيراً في العثور علي المناطق والجيوب داخل المجتمع التي يجد فيها مدداً لمثل هذه العينات من البشر، وهناك منطقة من المجتمع شهيرة جداً، تكررت في أنظمة حكم الطغاة وهي تلك الفئة من قاطني الشريط الحدودي الفاصل بين تخوم دولتين أو كما يسميها التعبير الأجنبي no man's land وهي منطقة تشبه تلك المنطقة التي عاش فيها بطل فيلم الحدود للممثل الساخر دريد لحام، والتعبير هنا تعبير مجازي يشير إلي فئة من الناس يسمونهم في ليبيا بالعائدين، أي العائدين من المهجر إلي بلدهم الأصلي ليبيا، ولابد من استدراك هنا واستثناء لعدد ممن عادوا إلي البلاد في مطلع الاستقلال، لأنهم مجاهدون هاربون من عسف الاستعمار الإيطالي الذي طاردهم وحكم علي كثير منهم بالإعدام، ففروا من بطشه إلي الدول المجاورة، ثم عادوا بمجرد انتهاء الخطر علي حياتهم، ورجوع الأمان إلي بلادهم، وعاد معهم أولادهم وأقاربهم، وقد سافروا في هجرات جماعية لكل البلدان المجاورة بدءا من مصر وتونس والجزائر وصولا في بعض الأحيان إلي فلسطين والشام ثم إلي بلدان إفريقيا المتاخمة لبلادهم مثل تشاد والنيجر، إلا أن بعض هؤلاء المهاجرين بقوا في أرض المهجر وأخذوا جنسية تلك المنافي وبعد أن مات الآباء، بقي نسلهم في تلك البلدان، وحدث- بعد مضي أكثر من عقد من بدء الاستقلال الليبي- أن ظهر النفط في البلاد وارتفع تدريجيا مستوي الدخل والمعيشة وصار مغرياً، لبعض الناس من ذوي الأصول الليبية، العودة إلي الوطن الأصلي، ثم جاء عهد العقيد القذافي فصار يستقطبهم، وبخاصة أبناء قبائل المنطقة التي ينتمي إليها، فعاد كثيرون ممن لا يملكون ولاء للبلد لأنهم لا يحسون بأي انتماء له، ولعلهم لا يملكون ولاء لبلدان المهجر لأنهم عاشوا دائما باعتبارهم أغياراً، وينطبق عليهم هنا قول أرسطو في كتابه "السياسة" الذي جاء فيه أن أكثر الناس خطورة هم أولئك الذين لا ولاء لهم لوطن، ربما لأنهم بلا وطن، وبالتالي لا ولاء لهم لقانون ولا ولاء لهم حتي لعشيرة ينتسبون إليها، وهكذا اعتمد هذا النظام كما اعتمدت أنظمة أخري علي هؤلاء الناس من ضعاف الولاء والوطنية يسخرهم في كل الشرور والآفات التي يتحرج منها أبناء الوطن الحقيقيين، فهم من يعملون جلاوزة في السجون، وهم من يملأون الأجهزة السرية للتجسس علي بقية المواطنين، وهم من يسيطرون علي غرف التعذيب، وهم من يطاردون المعارضين ويقومون بتصفيتهم بإشارة من قائد النظام، وهو ما فعله مثلا الملك الحسن في المغرب في أعتي سنوات حكمه وصراعه مع المعارضة معتمدا علي ضباط مغاربة حاربوا مع الفرنسيين وأمضوا حياتهم في تلك البلاد باعتبارهم مواطنين فرنسيين، فأعادهم الملك إلي المغرب ليسند إليهم هذه المهمات القذرة بمن فيهم قائد هذه العمليات الجنرال أوفقير الذي استفحلت خطورته إلي حد أن ارتد علي مولاه يحاول أن يطيح به ويأخذ مكانه، وحدث بالمقابل أن تعرض بعض المغاربة إلي نفس الاستغلال من طرف الجنرال فرانكو في إسبانيا عندما استعان بالمغاربة الذين عاشوا وتربوا في المناطق المحتلة من إسبانيا في الشمال المغربي، لتكون الشريحة التي يستعين بها في تقتيل شعبه إبان الحرب الأهلية ثم لتكون هي الكتائب التي يركن إليها في حراسته بعد أن استقر في الحكم، ولا يقتصر الأمر علي هذه الشريحة من العائدين للوطن no man's land فلابد دائما من وجود قلة خسيسة تعينهم في هذا الموضوع من أهل الطمع والمرض النفسي ممن لا حاجة لأن يكونوا عائدين، فهم من أصلاء أهل البلاد، اختاروا الانضمام للشر في سبيل إرضاء مطامعهم للمال والمنصب وغير ذلك، ولابد أيضا من ذكر قلة شريفة، من أولئك العائدين، تورطوا في تلبية نداء العودة إلي الوطن، ثم عرفوا أنه فخ، فنأوا بأنفسهم عن شراك النظام واصطفوا مع بقية أبناء شعبهم دون انغماس في المباذل والشرور التي دعاهم إليها النظام.
مشروع فردي
وقبل أن نعرج علي الأمراض النفسية والعقلية التي تجعل الدكتاتور دكتاتوراً، سنواصل المضي مع تحديد ملامح أخري مشتركة في طبيعة أنظمة الطغيان، ولابد من القول إن الفساد بكل معانيه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، له وجود عضوي في نظام الطاغية، إنه ساق من ساقي هذا النظام أو من سيقان أربع يمشي بها، باعتباره أكثر شبهاً بوحش في الغابة من إنسان ينتمي لأبناء البشر، وباعتباره نظاماً يقوم علي القهر فقد اختفت حرية القول والتعبير والتفكير والنقاش والاجتماع والاحتجاج، وباعتبار أن أزلام النظام خدم يعملون بلا قناعات أو ضد قناعاتهم مهما كان نوعها، فلا مكافاة معنوية أو نفسية كما يحدث مع الإنسان الذي ينخرط في مشروع وطني، لأن مشروع الطاغية مشروع فردي لتمجيد نفسه وتكريس حكمه، ومن يعمل معه يعمل لتحقيق هذا الهدف الذي لا هدف آخر غيره، بل تنتفي معه كل أهداف أخري تتصل بنهضة وبناء الأوطان، ومن هنا فلابد أن يكون ربح هذا العون من أعوانه مادياً، ولهذا شرع الطاغية الكسب الحرام لأعوانه، ليس فقط مكافأة لهم وهو غرض أساسي، إلا أن هناك أغراضاً أخري، يمكن أن نذكر هنا غرضين منها باعتبارهما أهم هذه الأغراض، الهدف الأول أو الغرض الأول هو تحقير هؤلاء العاملين وإبقائهم في مستوي أخلاقي شديد الانحدار والدونية والسقوط، فهذا الأجير المنخرط في تنفيذ المباذل والرذائل التي يأمر بها الطاغية لا يتلقي دائما مكافاة علنية شرعية علي عمله مهما كان العمل خسيساً، ولكنه لابد أن يسرقها سرقة ويسطو عليها كما يفعل أي لص حقير، عملاً بالحكمة التي قالها المتنبي والتي لابد أن يجعلها أي طاغية قانوناً يركن إليه ملخصة في هذا البيت من الشعر:
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
أما الغرض الثاني فتحت حكم الطاغية لابد وأن يكون كل إنسان خاضعاً للسيطرة، بمعني أن يكون له ملف في المخابرات يحمل إدانة له في زلة ما لكي يستطيع الحاكم جره إلي المحاكم لتشويه سمعته وكشف مثالبه وعرض هذه الزلة علي الناس، خاصة بعد أن ظهر عصر الإعلام المرئي الذي ينقل الصورة إلي أرجاء المعمورة وهو ما برع طغاة العصر الحديث في استخدامه، فهذا العون من أعوانهم، لا استمرار له إلا إذا كان تحت طائلة الأجهزة الأمنية للطاغية، ولذلك فهو مجبر أن يرتشي أو يسرق أو يرتكب الفواحش والانحرافات التي تسجل ضده، وتوضع في ملفه لاستعمالها إذا أظهر أي عصيان أو كفر بنعمة سيده، وما عدا ذلك فهو يبقي متنعماً بفساده وانحرافاته وأمواله المسروقة من خزينة الدولة ما شاء له الحظ والمزاج تحت رعاية الدولة وحراسة الأجهزة الأمنية والرقابية ومباركتها وتشجيعها. وهو فساد يتجاوز الحلقات الأولي حول الحاكم إلي حلقات أكثر بعداً، ولكنها لابد وأن تغرق في الفساد باعتباره هواء لابد وأن يتنفسه جميع أهل الحكم، من داوئر النظام العليا إلي أصغر حاجب في قرية بعمق الريف أو عمق الصحراء، بعد أن صار الفساد عصبا ضروريا وجزءً من النظام العصبي لجسم النظام، ويتصل اتصالاً عضوياً بمؤسساته التي تمثل ركائز حكمه ويشيد عليها الطاغية جدران وأعمدة الأبنية التي يحتمي بها، ولعله من الفضول القول بأن دولة الطغيان لا تقوم علي أي أساس من أسس الدولة الحديثة التي تتميز بفصل السلطات، ونزاهة القضاء، دع عنك حرية الصحافة والإعلام، فالإعلام لا يكون إلا أبواقاً للطاغية، والسلطات الثلاث وهي سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، اجتمعت في شخص الزعيم وانصهرت في جهاز واحد له أفرع أخطبوطية هو جهاز الأمن بكل أنواعه وأصنافه السرية والعلنية والأخري المتقنعة في شكل إدارات وسفارات وهيئات خيرية وكلها تصب في سواقي القمع والقهر والقتل لصالح تمتين وتقوية سلطة الطاغية وأحكام قبضته علي عنق الشعب واستمرار البقاء في حكمه حاكماً فرداً واحداً أحداً.
عبقرية الطاغية
تتجلي عبقرية الطاغية، في شيء واحد، وهو تسخير كل شيء بما في ذلك الماء والهواء، وما يمشي فوق الأرض أو يطير في السماء، لاستمرار حكمه وضمان إمساكه بزمام الدولة، ولتحقيق هذا الهدف يسخر كل شيء بما في ذلك الأهداف والمباديء، خاصة في بداية حكمه، بمعني أنه يستخدم هذه المباديء والأهداف والشعارات التي يريدها الناس، حتي يتمكن من السيطرة علي البلد الذي يحكمه، ليفصح بعد ذلك من خلال سلوكه وأفعاله قبل أقواله، عن حقيقة أنه إنسان لا مبدأ له ولا هدف ولا غاية إلا ممارسة جنونه في الحكم والسيطرة، اللهم إلا إذا كان يملك فكرة مشوهة مثل هذه النظريات العنصرية التي تتحدث عن تميز عرق دون آخر، كما رأيناه يحدث مع نظامي الفاشية والنازية أو أنظمة الحكم العنصري في روديسيا وجنوب إفريقيا، فالطغاة في هذه الحالة يتميزون عن بقية أقرانهم بأن لهم شيئاً ممسوخاً يؤمنون به، يسهم في إضفاء غطاء أيديولوجي لجرائمهم.
ويفلح الطاغية دائماً في البحث عن كل ما في التراث أو التقاليد أو العادات أو العرف الاجتماعي لاستغلاله لصالح بقائه في الحكم، فهو يرتدي قلنسوة الدين ليستميل عن طريقها قطاعات واسعة من أبناء شعبه المتدينين، أو لتحقيق أغراض لا يمكن تحقيقها إلا بأن يتمسح بالدين حتي لو كان غير مؤمن به، بل من السهل أن يستخدم الدين في تنفيذ جرائمه صانعاً من الدين غطاء له، ويعرف تاريخ الاستبداد في ليبيا فصلاً دامياً حدث عام 1793 عندما زيف أحد عساكر الانكشارية واسمه علي برغل فرماناً سلطانياً بتعيين نفسه والياً علي طرابلس، وجاء ليلقي استقبالاً وترحيباً من أعيان البلاد، ورغبة في عزل الوالي القديم والسير بالوالي الجديد تحت الحراسات ليصبح سيد قلعتها العريقة، وعمل قبل اكتشاف تزييفه علي جمع أكبر ثروة من هذه المغامرة، وعرف أن تجار المدينة المنتمين للجالية اليهودية يتمتعون بمركز مالي متميز فعمد إلي اتخاذ غطاء إسلامي لتصفية تجار هذه الجالية لكي يسلبهم أموالهم، وسط سكوت وتواطؤ من بقية السكان قبل أن يتضح زيف المرسوم الذي جاء به، وهروبه أمام الزحف العسكري الذي تحرك ضده.
وهذا الغطاء الديني هو ما يستعمله أي طاغية لتصفية حسابه مع خصومه الذين يسميهم أعداء الدين، المارقين علي الشرع.
في مدح الزعيم
وفي مناسبة أخري يرتدي الطاغية قلنصوة القائد العسكري ويتقدم الصفوف في معارك مفتعلة ليمتطي بارجة أو يركب طائرة ويختار مسافة آمنة يقول منها إنه الفدائي الأول والمقتحم الأول ورجل المنازلة والتصدي الأول، ويفتعل في وقت آخر أسلوب رجل العصر خاصة وهو يزور منتجعات أوروبية فقد نراه يتزحلق علي الجليد أو يجلس مع مضيفه الرئيس الأوروبي في مقصورة دار الأوبرا، كما أنه مهووس بدور المثقف ورجل الفكر يقود المؤتمرات الفكرية في جامعات أغدق عليها من خزائن شعبه لتقوم بواجب المجاملة والمصادقة علي أقواله أو منحه شهادات الدكتوراه الفخرية، ويرتدي في حين آخر قلنصوة رجل الفلكور القادم من أغوار التراث الشعبي، ليقول للناس إنه رجل ينتمي لأعمق الطبقات الشعبية وأكثرها تعبيراً عن الأصالة والانتماء والالتصاق بالأرض وفي هذا المجال فهو لابد وأن يذهب لهذا التراث ويستغل ما فيه من اتجاهات لتكريس حكمه والإشادة بحكمته، فإذا كانت هناك إشارة في التراث الديني إلي الأمام فهو يأتي بمن يتولي ما تحتاجه من حفريات لإخراجها والنفخ فيها ليصبح وجود الطاغية في الحياة، والولاء له فرضاً دينياً، وإذا كانت هناك خرافة تعتبر السلطان حامي الحمي، فهو لابد وأن يجعلها طعاماً لأطفال بلاده في المناهج الدراسية، وإذا كان هناك تراثاً في الشعر الشعبي يحتوي لوناً هو المديح فهو يترك كل الألوان الأخري، ولا يري في هذا الشعر إلا هذا اللون تحتفي به الإذاعة وتعقد له المؤتمرات وتقدم له الجوائز، وكله شعر في مدح الزعيم، وغناء مكرس للزعيم، وكثيراً ما سمعنا حملات يسميها الدكتاتور العودة إلي الجذور والأصول ويعلن ثورة شعبية لتحقيق هذا الغرض كما حدث في ليبيا وقام بتقليدها ديكتاتور إفريقي صغير بائس في مطلع السبعينيات اسمه توم بالباي، كان يحكم بلداً صغيراً بائساً هو تشاد، وكان الرجل ضابطاً جاء بانقلاب عسكري إلي الحكم ويحمل في وجهه آثار عادة قبيحة من عادات القبيلة التي ينتمي إليها هي إحداث جروح في الوجه لأبناء القبيلة أثناء مرحلة الطفولة مثل التوسيم الذي يطبع علي أعناق الإبل ليكون علامة علي مالكها، المهم أن هذه الندوب تستمر مرسومة في الوجه، وتحدث فيه تشويهاً وقبحاً، ويبدو أن هذا الطاغية الصغير، جاء إلي الحكم يحمل عقدة بسبب هذا التشويه الكريه في وجهه، فأعلن ثورة ثقافية مولتها له جارته الغنية ليبيا، أمر بموجبها أن يعود شباب ورجال بلاده إلي الالتزام بالتراث، وأرغم جميع من وصلوا إلي سن البلوغ دون وجود هذه التشوهات في وجوههم، أن يذهبوا إلي مراكز انشأها لهم، كي يبرهنوا علي انتمائهم لتراث شعبهم، فلا يخرجوا منها إلا وقد تركت أسياخ الحديد الموضوعة في اللهب خطوطاً فوق وجوههم، لكي يتساووا في حمل التشوهات مع رئيسهم، ولعل هذه الثورة الثقافية التراثية هي التي كانت وراء قتله في فراشه علي أيدي عدد من حراسه، هكذا يستخدم الطاغية التراث، مسخاً وتشويهاً، بل لا يستحي من إحداث هذا المسخ والتشويه بأية قيمة دينية نبيلة، ليحيلها إلي جزء من مؤسسة الأكاذيب التي يدعم بها عرش سلطته وطغيانه، وبطبيعة الحال فإن هناك دائماً مخزوناً من فقهاء السلطان القادرين علي الانخراط في جيش الخزي والتزوير الذي يستخدمه.
ويبقي السؤال المهم هو كيف تنعكس تقنيات التزوير والقمع واستراتيجيات التحكم والسلطة وآلياتها الفاعلة في بنية الحكم تتبيتاً وتأبيداً، علي عامة الناس في الشوارع والأسواق والبيوت؟، وطبعا هؤلاء هم الشعب الذي يستهدفه الطاغية بطغيانه وبكل ما يقع داخل أجهزة السلطة من جلاوزة ومؤسسات أمنية وعسكرية، بحيث يضع أبناء الشعب وبناته في حالة خنوع واستسلام، وهو يعمل علي أحداث هذا الخنوع والاستسلام بسياسات في التعليم والإعلام والدعاية والعلاقات العامة، لتدجين المواطن واجتتاث أي إحساس بحقوقه، وكلما استطاع أن ينقص من قيمته ويزيد من إهانته، كلما كان ذلك أدعي لتحقيق الفائدة المرجوة، لأنه بهذه الأساليب والإجراءات يضع المواطن في حالة يكاد ينسي فيها حقوقه وتنشأ في نفسه حالة انفصام نتيجة الخوف، فنراه يتكلم دائما عكس قناعاته، ويفعل عكس ما يؤمن به، ويكون كارهاً للطاغية، ناقماً عليه، ولكنه يحضر أعراس الطاغية السياسية، وكما يحدث دائما مع كل من عرفهم العصر الحديث من طغاة، هناك طقس لا تكتمل شخصية الطاغية إلا به، فلهم جميعاً جنون خاص بالاحتفالات التي تمتليء بحشود من أبناء الشعب، حتي أصبحت هذه الحشود ملمحاً رئيسياً من ملامح المشهد الذي يحبه الطاغية، ويتيح لملكاته الخطابية أن تتجلي في أقوي صورها، يصيح ويصرخ ويرفع رأسه إلي سقف الكون، تعالياً ونفخة كاذبة خاصة في تلك اللحظات التي يتعالي فيها تصفيق الجماهير وهتافها الذي يستمر أحيانا لأكثر من نصف ساعة، وهي حفلات تتحول فيها أمراض الهستيريا والعصاب الموجودة في شخصية الطاغية إلي مزايا تزرع كهرباء الحماس في نفوس الناس الذين يشاهدونه ويستمعون إليه، بل تنتقل منه هذه الأمراض إلي حشود المواطنين، تمشياً مع ما يسمي روح القطيع فنري هؤلاء المواطنين الذين لا يحملون له في حقيقة الأمر إلا الكراهية والنقمة نتيجة ما أذاقهم من مهانة ومذلة وعذاب وما أدخلهم فيه أحيانا في حروب فقدوا فيها أعزاء من أهلهم، يتحولون إلي أصوات تهتف وأياد تصفق وحناجر تصرخ بحب الطاغية وتقوم بتمجيده. ومن خصائص حكم الطغاة أنهم لا يستطيعون العيش والاستمرار إلا بخلق الأزمات وافتعال أجواء التوتر، وصولاً إلي إثارة الحروب، فالطاغية عادة ما يجد مجالاً في مثل هذه الأجواء لإرضاء عقده الاستعراضية القيادية، واستنفار الغرائز التي تتصل بالخوف وطلب الأمان واستغلالها لصالحه باعتباره رمز الوطن وحامي الحمي، كما تتيح له فرصة الانغماس في العنف واستخدام رخصة الحرب لممارسة القتل دون حسيب أو رقيب، وتاريخ الطغاة من جنكيز خان وهولاكو ونيرون، إلي هتلر وموسيلني، وصولا إلي صدام والقذافي، يشهد بحقيقة هذه الحالة الحربية التي يضع فيها الطاغية شعبه، حتي لو وصل الأمر إلي استثارة حرب أهلية يكون هو علي رأسها يقتل فيها المواطن ابن بلده.
إدارة لمحاربة النجومية
نعم، يتنوع الطغاة في أساليبهم وغرابة أطوارهم، وقد يختلفون في مستوي كفاءاتهم وقدراتهم ومستوي ثقافتهم، فطغاة أوروبا الحديثة من أمثال هتلر وموسيليني لهم علاقة بالتأليف والكتابة، فموسيليني كان رئيس تحرير إحدي الصحف، وهتلر كان قد أصدر كتابه "كفاحي" قبل أن يصل إلي الحكم، مختلفين عن طغاة عرب شبه أميين مثل علي عبدالله صالح، الشاويش في الجيش اليمني، كذلك يختلفون عن بؤساء الطغاة العرب بأن لهم دون شك ما يسمي كاريزما، لا اعتقد أن صدام حسين أو معمر القذافي أو علي عبد الله صالح أو عمر البشير أو عبد العزيز بوتفليقة يملكونها، بل أنهم جميعا يملكون ما يمكن تسميته بالأنتي كاريزما، أي ما هو ضد الكاريزما، لما نراه أحيانا من مظاهر لا تستقطب الإبهار والإعجاب، بل التقزز والاشمئزاز، وكذلك لا يملك هذه الكاريزما طغاة أقل طغياناً وإجراماً مرضياً، مثل مبارك وبن علي، وهذه الكاريزما التي يملكها موسيليني وهتلر هي التي تجعلهما يسيطران أثناء الخطابة مثلا علي مئات الآلاف من الجماهير، تنصت إليهما بإنبهار، وتقع تحت سحر أسلوبهما إلي حد التنويم المغناطيسي، كما تقول الشهادات التي صدرت عن أناس من أتباعهما، ولكن الخلاف ليس هو موضوعنا في هذا المقال، وإنما الاتفاق والعوامل المشتركة بينهم، وإحداها أن طغيانهم لا يقتصر علي المجال السياسي، فالحاكم في الأنظمة الطبيعية يقع نشاطه الأساسي في المجال السياسي وما يتصل به من مجالات اقتصادية وديبلوماسية، ويترك للمختصين الاهتمام بمناحي الحياة الأخري التي لا يعنيه أن يتدخل فيها أو تدخل فيها الدولة إلا بما تقتضيه المساعدة، مثل الجوانب الفنية، ففي البلدان ذات الأنظمة الحرة نجد لكل مجال عدد من المختصين تكون لهم الكلمة الاولي فيه، فهناك بجوار الحاكم الموجود في دوائره السياسية، اقتصاديون ينشطون في المجال المالي وهم المرجعية لأهل هذا المجال، ونجد في الرياضة ناشطين وخبراء وأصحاب تاريخ في إطار اختصاصهم، هم المرجع والحكم فيه، وفي مجال الطبابة أناسا من أهل المهنة يجيدون التخطيط والتوجيه، لهم الكلمة الفصل في مجالهم، وفي مجال الفن مسرحاً أو سينما أو موسيقي أو رسما أو أدبا، أهله وأساطينه، الذين تكون لهم الكلمة الأولي التي ينصت لها الناس قبل كلمة صاحب الحكم، وهكذا الحال مع بقية المجالات، فهناك رجال للصناعة وهناك رجال في الفكر الاستراتيجي وهناك أهل اختصاص في مجالات ذات شعبية مثل الموضة، بينما يختلف الأمر في أنظمة الطغيان، فلا رأي في كل هذه المجالات مع رأي الطاغية، ولهذا اكتسبت أنظمة الطغيان اسماً ثانياً هو الأنظمة الشمولية، لأن تحت عباءة الحاكم يختفي البشر جميعاً من أهل التخصصات وأهل الخبرات في كل المجالات، ولا تبقي إلا كلمة الطاغية في الفن والاقتصاد والسياسة والرياضة والصحة والتعليم والطبابة والصناعة والموضة أيضا، وفي رواية الكاتب النوبي الراحل إدريس علي "الزعيم يحلق شعره" التي كتبها من وحي إقامته في ليبيا، بيان واضح لكيف يتدخل الزعيم في شأن شخصي مثل الحلاقة ويفرض علي الناس إتباعه فيما يراه، ولم يكن غريبا أن نري السيد القذافي قد اخترع حلاً نهائياً للمشكل السياسي، وحلاً نهائياً للمشكل الاقتصادي، وحلاً نهائياً للمشكل الاجتماعي، كما اخترع سيارة اسماها الصاروخ تنقذ الناس من الهلاك في حوادث المرور، واسمي نفسه مهندس النهر الصناعي العظيم، كما اسمي نفسه الفدائي الأول والقائد الأعظم والأديب الأول وكاتب الأغاني الذي لا يشق له غبار في هذا المجال، ولا اعتقد أن الأخ العقيد ترك مجالا لم يتدخل ويدلي برأيه فيه مصراً علي أن يكون له في كل باع باع، ماحياً وماسحاً اقصاء وإبعاداً أهل هذه المجالات، لكي لا تبقي إلا صورته، وقد لا يصدق الناس خارج ليبيا أنه رفع شعاراً يقول "لا نجومية في المجتمع الجماهيري" لكي يطفيء كل النجوم فلا يبقي إلا نجمه، ويهدم كل التماثيل فلا يبقي إلا تمثاله ويمحو كل الأسماء فلا يبقي إلا اسمه، وربما لا يصدقون أكثر أن هناك إدارة في الأمن الداخلي أنشاها نظام العقيد هي إدارة محاربة النجومية، بمعني أنه لا يكتفي بأن يسخر أجهزته لمحو أسماء البشر، بل يخصص أرتالا من أفراد الشرطة لملاحقة الناس من أهل الفن والأدب والسياسة ومتابعتهم وملاحقتهم والقيام بمهمة محاربة هذه النجومية لأي عنصر ليبي قد يغافل أجهزته الإعلامية ويحقق اسماً من ورائهاً، وقد حكي لي اخوة ليبيون رشحتهم هيئات دولية لمناصب رئاسية وجاءت الأوامر بإيقاف هذا الترشيح وحركت ليبيا أجهزتها الرسمية وترسانتها المالية للحيلولة دون أن يصل هذا المرشح إلي المنصب لأنه بهذه الطريقة سيصبح له اسماً عالمياً يهدد راحة وقلق السيد الرئيس، وفي هذا السبيل تمت محاربة عنصر ليبي من الوصول إلي رئاسة الجمعية العامة لليونسكو، وآخر إلي الجمعية العامة للإيسيسكو، وآخر من الوصول إلي منصب قيادي في البنك الدولي.
هناك بالتأكيد دراسات كثيرة عن كيف استطاع مجنون مثل هتلر، أن يستقطب هؤلاء الناس الذين آمنوا به، وساروا وراءه، وذهبوا سعداء إلي حتفهم بإشارة منه، وليس هذا هو العجب، فقد اتضح أن أناسا كثيرين ساروا مرغمين، ولا شك أن الطاغية سيقف بعد ذلك عارياً من أغطيته الزائفة التي صنعها بالمكر والحيلة والخداع، ولكن يحدث أحيانا حتي بعد أن يفتضح أمر الطاغية، وتظهر نتائج قراراته، ويعرف الجمهور جرائمه، يبقي هناك اتباع له يؤمنون به، فكيف حدث هذا؟ كيف وقع الناس في دائرة سحر الطاغية وكيف بعد أن انقلب السحر علي الساحر استمر بعض الناس يؤمنون به؟ ورداً علي الجزء الأول من السؤال فإن أساليب صعود الطاغية غالباً ما يتخذ فيها صورة المخلص الذي يتبني مطالب الشعب والعزم علي تحقيق طموحاته وآماله حتي يتمكن ويستقر في الحكم، ويبدأ في الكشف عن حقيقة أهدافه وميوله، ويباشر ممارساته الشاذة وميوله الإجرامية، وهنا يدخل الطاغية في تطبيق تقنيات الطغيان، وهو ما يمكن أن نسميه المرحلة الثانية لتأسيس دولته وتمتين أساسها وبنيانها، فالمرحلة الأولي تعتمد علي الاستحواذ علي الرضا والقبول، إلا أن الطاغية لا يستطيع أن يستمر في هذا الطريق ولا يمكنه أن يحكم بالرضا والمحبة لأن ميوله الإجرامية ستتناقض مع مثل هذا الأسلوب ولابد أن يدخل بسرعة إلي المرحلة الثانية وهي تلك التي أوصي بها ميكافيللي في كتاب "الأمير" وتقضي بأن يعمد الأمير إلي الاعتماد علي الخوف بدلاً من الحب ويباشر في إشاعة الخوف وترويع الناس وتطبيق أساليب السيطرة، وهي التي يبدأ بها بناء الأسس القوية لدولة الطغيان حيث السجون وغرف التعذيب الوحشي وتصفية الخصوم واستهداف أية بادرة للتعبير عن السخط وإغلاق كل منافذ التعبير وحرية الرأي وهدم كل الأبنية المستقلة عن الدولة سواء كانت اقتصادية أو فكرية أو سياسية، وقد يستخدم الاشتراكية باعتبارها تقدمه من تبرير لمصادرة أموال الناس واختطاف ممتلكاتهم، وهناك كتابان لابد من الإشارة إليهما باعتبارهما لابد وأن يكونا بجوار رأس كل طاغية: الأول كتاب "الأمير" لميكافيللي الذي تنسب له مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" فكل شيء مباح في عرف الطاغية لتثبيت حكمه وتنتفي هنا الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، وينتفي العدل أو المساواة، بل وقيم الخير والمحبة والجمال والوداد والرحمة، وهناك تقنيات يصفها ميكافيللي في كتابه، الذي اهداه إلي حاكم فلورانسا الأمير لورانزو دي ميديشي، ليقدم له النصح في كيف يحكم سيطرته علي الشعب، ومن هذه التقنيات كسر شوكة كبار القوم، وخلق كبار يدينون له بالولاء، وغيرها من تقنيات السيطرة، الكتاب الثاني الذي ينافس كتاب "الأمير" في مكانه عند رأس الطاغية هو مسرحية "فاوست" وهي المسرحية التي استقاها الشاعر الألماني جوته من التراث الشعبي في مطلع القرن التاسع عشر، وأعاد كتابتها الكاتب الألماني توماس مان في مطلع الأربعينيات ليصور فيها معاناة العالم علي يد هتلر لأن المسرحية تتحدث عن الدكتور "فاوست" الذي وقع عقداً مع شيطان اسمته الأسطورة مفيستوفيليس يبيع له روحه بعد مماته علي أن يسخر الشيطان نفسه لخدمته أثناء حياته. وليس غريبا أن نري هذا الربط بين الطاغية والشيطان في أذهان الشعوب التي تضررت من أفعاله، ولكن أن يكون الطاغية نفسه واعياً بحقيقة أن هناك عنصراً شيطانياً فيما يفعل ويصل إلي حد أن يقع هذا التماهي بينه وبين شخصية الرجل الذي باع روحه للشيطان في قصة فاوست فهذا ما يبدو غريباً، إلا أن الطاغية في حقيقته ليس بالضرورة جاهلاً بما في نفسيته من شر وميول شيطانية، وأورد هنا قصة قرأتها في الصحافة الأمريكية عن طريق الإنترنت عن مريض سايكوباتي ارتكب جريمة قتل وأودع السجن حتي حان موعد اطلاق سراحه، فجاء هذا السجين إلي مدير السجن يطلب منه أن يقضي بقية عمره في السجن لأنه يخشي إن وجد نفسه حراً خارج السجن أن يعود لممارسة اجرامه ويموت علي يديه أحد الأبرياء، فضحك مدير السجن من أوهام القاتل العجوز ورفض طلب بقائه في السجن، وبعد أيام من خروجه، حدث ما قاله السجين، فقد وجد نفسه يستفرد أثناء الليل بصبية في مدخل إحدي العمارات هجم عليها بغتة وتمكن من قتلها، مما يدل علي أن المريض السايكوباتي يعرف نفسه ويدرك ما لديه من ميول إجرامية، أراد هذا القاتل العجوز أن يتجنبها باستمرار وجوده في السجن، فلم يصدقه الآخرون، وقد ظنوا أنهم يعرفونه أكثر مما يعرف نفسه فكان ثمن هذا الظن كارثة إنسانية وصبية بريئة فقدت حياتها نتيجة ذلك، ولعل هذا الفهم لغريزة الإجرام في نفسه، هو سر الإعجاب بشخصية فاوست لدي عدد من طغاة العصر الحديث كما تتواتر الأخبار المنقولة عنهم، وتجدر الإشارة هنا إلي كيف يحدث بسبب تراكم الخوف من الطاغية وأساليبه الإجرامية الوحشية في معاملة الخصوم، النظر إليه باعتباره شيطاناً من قبل الشعب، ولكن بدلاً من نبذه ورفضه وإعلان الثورة عليه، يحدث نوع غريب من السلوك لدي هؤلاء الناس هو التحول إلي عبادته اتقاء لشره كما يحدث مع بعض الملل التي تنسب لمثل هذه العبادة ويعترفون أنهم لا يخافون بطش الله لأنه رحيم غفور ويخشون الشيطان لأنه فاجر زنيم فيعبدونه لنيل رضاه وتجنب ما يمكن أن يوقعه بهم من أذي وتنكيل إن هم اغضبوه، وبمثل هذا السلوك وهذا التفكير يواجه أغلبية الشعب مكر وشرور وجرائم الطاغية.وهناك قصة رائجة بين الليبيين ، تدل علي اقتران صورة حاكمهم العقيد، بهذا الرمز الادبي للشر، بغض النظر عن صدقها من عدمه ، وهي تقول ان الملك ادريس السنوسي الذي انزله عن عرشه الانقلاب العسكري ، سمع من شباك قصره ، مظاهرة ضده ترفع شعار ابليس ولا ادريس ، فقال الملك الشيخ، المعروف بالزهد والتقوي والتصوف، لمن حوله " قولوا لهم بان يبشروا ، فسيلبي الله نداءهم ، وسيأتيهم قريبا هذا الابليس الذي يطلبونه"
وكنت أعرف مشاعر أديب صديق من العراق، يكره الطاغية صدام إلي حد الموت ولكنه تمرس ذات عام في إذاعة النظام العراقي يكتب قلائد المديح في صدام التي تشبه التسابيح لخالق الكون، ولم أكن احتاج عندما التقيت به بعد ذلك تفسيراً لهذا السلوك فقد كان نوعاً من السلوك المعروف الذي يمارسه أغلب الناس بما في ذلك حشود المواطنين الذين يهتفون في الساحات لكل هؤلاء الطغاة الذين يسومونهم العذاب، وأذكر أنه التقي في ندوة دولية عدد من العرب والأجانب وكنت بينهم، ودار الحوار في الكواليس ساخناً حول بعض موضوعات الندوة السياسية، وأبدي الزملاء العرب آراء جريئة في الطرق التي تدار بها بلدانهم، إلا أنهم جميعا عندما خرجوا للكلام أمام الجمهور قالوا كلاماً معاكساً لما كانوا يقولونه في أجنحة المؤتمر وبخاصة فيما يتصل بأنظمة البلدان التي ينتمون إليها، وكان استغراب الزملاء الأجانب كبيراً لهذا التناقض بين ما كنا نقوله في السر، وما قلناه في العلن، وكان صعباً جداً أن نشرح لهم أن هذه الأنظمة العربية أصابتنا جميعاً بانفصام الذات.. نقول ما نؤمن به في الخفاء ونقول في الجهر ما يخالف قناعتنا ويتناقض مع سابق أقوالنا اتقاء لشر الأنظمة وبطشها بعد انتهاء أيام المؤتمر والعودة إلي أوطاننا.
وجدير بالقول إن كثيراً من طغاة العصر الحديث وجدوا في النظرية الاشتراكية، بما تبيحه من إجراءات التأميم والمصادرة والاستيلاء علي أرزاق الناس وأملاكهم، نظرية ترضي ميولهم للاستبداد، والسيطرة علي مقدارت المواطنين، والتحكم تحكماً مطلقاً في كل حاجاتهم واحتياجاتهم
فاتخذوها غطاء لتدمير أبنية المجتمع الاقتصادية والمالية التي يمكن أن تنشأ بعيداً عن سيطرتهم لأن أي كيان اقتصادي يخرج عن تلك السيطرة يمثل تهديداً لهم، ويمكن أن يشكل عوناً أو مورداً لنشاط سياسي ضدهم، فأغلبهم تبنوا النظام السياسي الوحيد الذي يتيح للحاكم الفرد أن يستفرد بالشعب ويفرض عليه إرادته وهو نظام الحزب الواحد، ولا مانع من اعطاء هذا الحزب أي اسم براق ليكن اسمه الاتحاد الاشتراكي، وليكن المحتوي المزيف الممنوح له أنه يضم التحالف المقدس لقوي الشعب صاحبة المصلحة الحقيقية في النظام أو الثورة أو الوطن، أو أي شيء آخر، وليكن في مناسبة أخري الحزب القائد، أو الاتحاد القومي، أو مؤتمر القوي الثورية، أو الهمبكية البزرميطية، فأصدق تعبير عنه هو التعبير الذي كان يطلقه المصريون علي الاتحاد الاشتراكي، وهو تأطير الفراغ، فهي هياكل كرتونية لا قيمة لها، ولا فعالية إلا كونها إطاراً يتحرك من خلاله الزعيم، ويلم له الحشود، ويساهم في تغييب وعي الناس، وترويج الدعاية للنظام، وإدارة عمليات العلاقات العامة له داخلياً وخارجياً، واستقطاب أهل الرخص والنفاق ممن يركضون وراء الفتات الذي يرميه الزعيم لأفراد عصابة المنتفعين، وهي عصابة تكبر وتتسع كلما طال عمر الزعيم في الحكم وظن الناس أن لا فكاك من حكمه، فالعمل علي استقطاب الأعوان وأهل الولاء، هي واحدة من المهمات الأساسية لهذا الحزب أو التنظيم أو الكيان الوحيد الذي لا مجال لوجود منافس له، ولا تنظيم غيره إلا إذا كان تنظيماً باهتاً، كما هو الحال في سوريا الأسد، أو في عراق صدام حسين، عندما كان حزب الرئيس؛ وفي كلا البلدين هو حزب البعث، أو كما كان الحزب الحاكم في تونس تحت سيطرة بن علي، أو الحزب الوطني الحاكم في مصر تحت سيطرة مبارك، ويتم إنشاء أحزاب رمزية صورية، كما فعل حافظ الأسد، وفعل صدام حسين، تسند رئاستها لعدد من أزلام الرئيس أو عناصر مخابراته يقودها الحزب القائد باعتبارها بعض دكاكينه لحفظ الشكل العام، المهم يكون هذا التنظيم أو هذا الحزب وسيلة الزعيم الطاغية، لتغذية الولاء له، والطاعة العمياء لتوجيهاته، والمصادقة علي كل ما يقوله، وطبعاً فإن باب العطايا والهبات غالباً ما يكون مفتوحاً لتأكيد وتعميق وتمتين هذا الولاء وهذا الانصياع المطلق للسيد الزعيم وتحت هذا الإطار يتم انشاء ما يشبه رياض الأطفال، ومعسكرات لتلاميذ المرحلة الابتدائية، لينخرط في شئ اسمه أشبال وبراعم الحزب أو التنظيم، حيث يغذونهم مع حليب أمهاتهم شعارات الحزب ودروس الولاء للقائد والطاعة له، وهي وسيلة حتي وإن لم تكن ناجعة مع الجميع ممن يكبرون ويكبر وعيهم ويدركون مع الوصول إلي سن البلوغ زيف ما كانوا يلقنونهم اياه، فإن عدداً كبيراً من هؤلاء الأطفال الذين تستمر معهم أنظمة البرمجة حتي في المراحل المتقدمة من العمر، تنجح هذه البرامج في قولبة أفكارهم وتحجر رؤاهم إلي حد مرضي يصبح صعباً معه أن يتحولوا عن هذه الأفكار والرؤي مهما رأوا من جرائم هذا الطاغية، وما تقوله الشواهد الكثيرة الموجودة فوق أرض الواقع عن ظلمه وجنونه واقترافه لكبري الكوارث ضد شعبه، والذين شاهدوا أفلاماً عن هتلر وموسيلني وبعض طغاة الكتلة الشرقية الواقعة خلف الستار الحديدي رأوا بالتأكيد مشهداً يتكرر في هذه الأفلام هو خشية الأباء والأمهات من أطفالهم في مدارس النازي أو الفاشي من أن ينقلوا أسرار البيت أو أحد المعارضين من أفراد الأسرة إلي المخابرات، وهو ما حدث في حالات كثيرة عندما كان هذا البرعم أو هذا الشبل من براعم وأشبال الحزب أو التنظيم يتجسس علي أهله، وقد يقود أمه أو ابيه إلي السجن.
واعرف كما يعرف غيري أن بعض الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، تعمد إلي ملاجيء الأيتام واللقطاء لتقوم بتربيتهم علي طاعة الزعيم وحيث أنهم بلا أهل ويعيشون خلف جدران أربعة لا يختلطون إلا اختلاطاً محدوداً بالعالم الخارجي، فهم لا يتنفسون إلا كلمات الزعيم ولا يتغذون إلا علي خطاباته ولا يشاهدون إلا صوره ويبرمجون بحيث لا يعرفون لهم أباً أو أما إلا الزعيم، وهناك حالة معروفة في تونس أيام بورقيبة عندما كانوا يسمون جميع ساكني الملاجيء أبناء وبنات بورقيبة، إلا أن بورقيبة، باعتباره رجلاً حقوقياً وصاحب سجل في النضال الوطني، لم يكن يستغل هؤلاء المساكين لأغراض سياسية، وقد رأيت فرقاً تونسية للفنون الشعبية تزور طرابلس ويتكون جميع أعضائها من أولاد وبنات بورقيبة، وكان مشهداً جميلاً أن يراهم الإنسان يشكلون أسرة واحدة بعد أن قامت زيجات بين أعضاء الفرقة واتقنوا مهنتهم يقدمون الفن الشعبي التونسي بكفاءة وجدارة باعتبارهم بدأوا التدريب عليه منذ الصغر وتفرغوا له وصارت تجمعهم رابطة واحدة مع كل فرق الرقص الشعبي في تونس، هي رابطة الولاء للأب الحاني السيد الرئيس، لكن زعماء الانقلابات العسكرية التي يتزعمها في كل الحالات احد المرتدين للزي الكاكي واصحاب الثقافة الضحلة، فانهم لايكتفون عادة بما اكتفي به بورقيبة، ولا يرضون بغير الانصهار الكامل في شخصية الزعيم والموت فداء له، ولا يتحرجون من تحويل هؤلاء الأولاد والبنات عن طريق البرمجة الي قنابل موقوتة تتفجر في خصوم الزعيم، ولا يفعلون ما فعله ابورقيبة بتوجيههم الي فن الرقص والغناء والاستعراضات لملء فراغ نشأ بسبب تردد بعض الناس والعائلات في دفع ابنائها وبناتها عبر هذا الطريق، وإنما يبدأون معهم منذ بداية النشأة في التوجيه العسكري للانخراط في سلك الشرطة السرية أو كتائب الحراسة والمهمات الخاصة، وقد سمع الناس المندوب الليبي في الأمم المتحدة السيد عبد الرحمن شلقم يهزأ بأسلوب النظام في حشد المؤيدين ويقول إن الحكومة عمدت إلي أن تملأ الساحة الرئيسية في طرابلس بقاطني الملاجيء ودور الرعاية، ولكن الذين سمعوا هذا الكلام لا يعرفون الخلفيات التي تشرح ما قاله المندوب وهو أن ابناء وبنات هذه الملاجيء التي يدخلها أطفالاً لقطاء وأطفالاً يتامي منذ سن الولادة، يتربون هذه التربية الممنهجة المبرمجة القائمة علي مطلق الولاء للزعيم، ولأن الزعيم قد بقي في الحكم الآن ما يقرب من اثنين وأربعين عاماً، فيمكن عبر هذه السنين حسبة كم فوج خرج وانضم إلي كتائب الحراسة، وانضم إلي فرق خاصة للجيش ويعرف الذين انخرطوا في حرب الليبية-التشادية، وهي حرب مضي عليها الآن ما يقرب من ثلاثين عاماً، أن مجموعات عسكرية مكونة من هؤلاء الأيتام هي التي كانت تقوم بمراقبة أفراد الجيش، وهي التي تقوم بتصفية من يعصي الأوامر أو يرتد أثناء الزحف، بل وهم بالتأكيد من تتكون منهم كثير من الكتائب الأمنية التي تجابه الثوار بعد انطلاق الثورة ضد نظام العقيد.
خصائص أنظمة الطغيان
من يشكل الأغلبية في كل شعب من الشعوب، هم العوام، أي ذلك الإنسان البسيط صاحب الفهم المحدود، والأفق المحدود الذي يقتصر فهمه علي القرية وأهلها ومشاكلها، إذا كان قروياً أو الحي الذي يعيش فيه من أحياء المدينة، ملتفتاً فقط لأموره المعيشية، وقد لا يقرأ الصحيفة ولا يعرف إلي الكتاب سبيلاً، وهذا الكم الهائل من الناس الذي يشكل الأغلبية هو الذي يريده الطاغية، وهو الذي يتجه إليه عندما يخطب، وهو الذي يزرع صوره في كل مكان، ويصل بأبواق دعايته في كل ركن من أجل الوصول إليه، والتأثير في عقليته واجتذابه إليه، ولعل من خصائص الزعيم الأوحد وأنظمة الطغيان أن تنشيء لنفسها أضخم ما تستطيع إنشائه من آلة للدعاية يتزعمها عنصر أو عناصر من نوعية جوبلز في ألمانيا النازية يجيد احتراف مهنة الكذب، ويعتمد علي نظرية تقول بإن الكذبة إذا تمت اعادتها المرة تلو المرة فإنها تأخذ في أذهان العامة صفة الحقيقة، أو تكون بديلاً عن الحقيقة، ولهذا فإن هذه الآلة تغرق البلاد في بحر من الأكاذيب والافتراء، وتغرق الخصوم بكل النعوت السلبية وتلصق بهم كل المثالب والعيوب، فلا حقيقة ولا صدق ولا شرف ولا فضيلة إلا اقتصرت علي الزعيم، ولا شيء غير الزعيم، وتلتقي الدعاية التي يروجها كل زعيم علي نفسه في إضفاء صفة القداسة؛ فهتلر كان يسمي في بعض الأغاني هتلر المقدس، وتصفه بصاحب الرسالة المقدسة للبشرية جمعاء باعتباره مسيحاً جديداً، وهو ما اقتدي به إعلام صدام حسين وإعلام القذافي الذي تسميه إحدي الأغنيات عظيم الشأن وتصرف الآلة الإعلامية الأموال الطائلة وتنفقها علي كُتّاب أجانب يصدرون كتباً سماه إحداها رسول الصحراء، واسمته صحيفة شهيرة نبي يحمل بندقية، وعرضت دار الأوبرا البريطانية العريقة عملاً أوبرالياً اسماه كاتبه الهندي ومؤلفه الموسيقي الهندي "القذافي الأسطورة الحية"، وكلاهما تلقيا رشوة بما يزيد عن عشرين مليون دولار، ولا تشير إلي الكتاب الأخضر إلا باعتباره الوثيقة المقدسة، وكأنه الإنجيل أو القرآن أو التوراة، وتقرأ الإذاعات مقاطع منه قبل النشرات في الصباح والمساء والليل، أكثر مما تقرأ القرآن الكريم، وطبعا هذه الآلة الإعلامية الجهنمية التي اعتمد عليها هتلر وموسيليني في النصف الأول من القرن الماضي، تعززت بعد ذلك بإمكانيات علمية ومعرفية هائلة هي هذه القنوات التلفزية التي بدأت محلية وصارت دولية تنتشر في كل أنحاء الكرة الأرضية بقوة الأقمار الصناعية، وطبعاً الصحافة المطبوعة أيضاً عبر الأقمار الصناعية، غير إعلام الإنترنت، وإعلام الإسطوانات المضغوطة، وإعلام آخر للأطفال من خلال الألعاب الإلكترونية والبلاي ستيشن وأجهزة الحاسوب وغيرها تعمل غسلاً للأمخاخ وبرمجة للعقول مستهدفة هذا المواطن، أي المواطن البسيط، ومن نافلة القول إن مثل هذه الأنظمة التي يديرها حاكم فرد، تعمد منذ البداية إلي تكريس الجهل، وإفساد التعليم، وتغييب الوعي، وتستمر ميزانيات الدولة في انتشار مزيد من الجهل، وقد تعمد تمويها وخداعاً إلي تقديم بعض برامج محو الأمية، لأنه ليس المهم أن يكون المواطن أميا، ولكن أن يكون مع ذلك جاهلاً، ولم يكن غريباً أن نري نظاماً مثل نظام القذافي يدعو إلي ما يسميه بالتعليم المنزلي، أي إلغاء المدارس الابتدائية، قائلاً إن الانفاق علي هذه المدارس مضيعة للمال فالطفل تعلمه أمه، مع أنه يدرك أن أكثر من نصف نساء ليبيا جاهلات أميات، كما عمد في مناسبة أخري إلي إلغاء اللغة الإنجليزية من كل المستويات الدراسية ومراحلها من الروضة إلي الجامعة، بحجة أن التربية القومية وغرس الروح العربية تتناقض مع تعليم اللغة الأجنبية، ولكي نعرف أن الأمر كذب وتدجيل ولا علاقة له بالروح القومية، فإن جميع ابنائه وكذلك ابنته يتكلمون إنجليزية بطريقة لا تختلف عن الطريقة التي يتكلمها أهل اللغة أنفسهم مما يؤكد أنهم باشروا تعلمها من مرحلة الروضة إلي مرحلة ما بعد الجامعة، ولابد هنا من الإشارة إلي أن أغلب الطغاة لا يرتاحون لبلد يعتمد علي نظام المواطن الفرد مثلما هو الحال في البلدان الليبرالية التي تعطي للفرد هامشاً ودوراً وصوتاً في صناديق الاقتراع، لأن هذا يتعب الطاغية في تكوين الاجماع الذي يريده علي شخصه ومنهجه والرضا بنزواته وأفكاره وأحيانا أحلامه التي يراها في المنام ويسعي لتطبيقها في الصباح، كما كان يفعل عيدي أمين، ولهذا فهو، حتي لو جاء عن طريق صناديق الاقتراع كما فعل هتلر، فإنه لابد وأن يسحق دولة الفرد وإرادة الفرد ويسعي لتأسيس دولة الجماهير كما تسميها هذه الأنظمة التي يتحول فيها البشر إلي كتل وأكداس ويفقدون فرديتهم وتمايزهم، لأن الزعيم لا يريد أن يسعي لإرضاء الناس فرداً فرداً ولا يريد الاعتراف بتمايزهم واختلافهم وتنوع الأفكار والآراء لديهم، إنه يريد كتلاً صماء عمياء بكماء عن أي شيء آخر غير الهتاف والعواء كما تفعل الحيوانات، وقد لا يعلم القراء من خارج أهل البلاد أن الإذاعة المرئية الليبية، قبل عصر القنوات الفضائية، كانت تخصص حصصاً لإذاعة هتاف الجماهير، أي كتل بشرية لا تفعل شيئاً إلا إخراج أصوات اشبه بالعواء وكأنها مجموع حيوانات متراصة في قفص كبير تعاني عطشاً أو جوعاً وتنتظر مجيء الموكول بتغذيتها وتمضي في مواصلة الصراخ بلغة خفية مجهولة لا يعرفها ولا يستمتع بها إلا السيد الزعيم الذي سخر أرقي تقنيات العصر وخبراته التقينة والإعلامية وإنجازات عصر المعرفة والذكاء الاصطناعي لشيء واحد هو تكريس حكمه وتعميق الولاء لشخصه بدلاً من تسخيرها لما اخترعت من أجله وهو توعية الناس وتثقيفهم وتحقيق الوصول بهم إلي استيعاب ثقافة العصر واللحاق بركب التقدم والحضارة كبقية المجتمع الإنساني، بل وأكثر من ذلك فهو ملأ هذه الوسائل المعرفية بالأكاذيب التي تهدف إلي تغطية الكوارث التي يصنعها لأهله بشكل يأخذ معني عبثياً مثل الذي يقتل إنسانا قائلاً له إن هذا القتل سيكون مصدر فرح وسعادة له وازدهار لأحوال عائلته وأقاربه، وعلي المواطنين الذين يذبحون علي يد الطاغية أن يصدقوا إعلامه الذي يقول هذا الكلام ويصنع نهضة عظيمة للوطن، لا وجود لها إلا في الإذاعة والتلفاز ويشنف آذان الناس بغناء التمجيد لنهر علي سبيل المثال لا وجود له إلا في الخيال، وجنات تجري من تحتها جداول الماء في مكان لا توجد فيه إلا صحراء قاحلة جرداء خالية إلا من اغراد الرمال والأحجار البركانية السوداء، هكذا كان إعلام جوبلز النازي، وإعلام من جاء بعده من أبناء قبيلة جوبلز ونسله في العالم الثالث، الفرق بينه وبينهم أن جوبلز كان يعتمد علي دولة صناعية يستند إليها فيما يقوله من أكاذيب عن الفتوحات الهتلرية والانجازات النهضوية، وعلي بعض المصانع والمنشآت الموجودة علي أرض الواقع، تقدم للمواطن مبرراً لتصديق هذه الأكاذيب، بينما سلالته العربية العالمثالثية لا تملك إلا الأرض اليباب، ومهما كان حجم البناء الذي يبنيه الديكتاتور، ومهما كان حجم الإنجاز الذي يحققه فهو لابد- وأقول لابد لأنها لازمة مع كل طاغية في كل العالم وعبر كل مراحل التاريخ- أن يحطم هذا الإنجاز مهما طال به الأمد، ويحطمه لا بسبب غزو خارجي، هو الذي جلبه إلي بلاده، وإنما يحطمه عامداً متعمداً تحت غطاء الحرب أو حرمان العدو منه أو لتبرير آخر، تخرج التعليمات لسلاح طيرانه، إذا كان من طغاة عصر الطيران، أو نيران المنجانيق، إذا كان قبل ذلك العصر، لحرق ودك وتدمير تلك المنجزات، وإذا كان نيرون احرق روما، وشمشون قال عليّ وعلي أعدائي، فإن من جاء قبلهما أو جاء بعدهما من سلالة الطغاة، لم يكن أقل منهما شأواً في الهدم والتدمير، ولابد من لحظة تأتيه ليقول فيها: أنا ومن بعدي الطوفان، ويمكن لتصديق هذا الكلام النظر إلي الطغاة صغاراً وكباراً وما تركوه خلفهم من دمار بدءا بجينكيز خان وهولاكو، وصولاً لمن عاصرناهم في عالمنا الحديث من طغاة، وشاهدنا بأعيننا علي شاشات التلفاز كيف ترك صدام حسين العراق، وكيف ترك زياد بري الصومال، وكيف ترك عيدي أمين أوغندا، وكيف ترك توم بالباي تشاد، وكيف ترك بول بوت كامبوديا، وكيف ترك صامويل دو ومن بعده تشارلز تيلر ليبيريا، وكيف ترك بوكاسا إفريقيا الوسطي، وكيف ترك ميلوزوفيتش بلاد الصرب، أي كلهم تركوا هذه الأوطان خراباً ودماراً وحرباً تستعر بين أطراف كثيرة، دون أن ننسي الإشارة للظروف التي صنعها كل من مبارك مصر وبن علي تونس قبل خروجهما وما تشهده الآن اليمن علي يدي علي عبد الله صالح أو ليبيا علي يد العقيد القذافي، وربما سوريا علي يد بشار الأسد، والجزائر علي يد بوتفليقة.
إضافة صغيرة لابد منها، تتصل بهذه الجماعات التي يعمل الطاغية علي برمجتها والسيطرة عليها، إذ إن هناك فئة، ليست بالضرورة ممن تعرضوا لهذه البرمجة، لأن لديها دائماً ميلاً لأن تمضي في طريق التبعية للطاغية والانصياع له، لأن في نفوسها تشوهات تجد فرصتها للتماهي مع خطاب الطاغية، وتجد تنفيساً لتشوهات الطاغية فيما يريده من سلوكيات، وما يتطلبه من ولاء، وما يدعو له من إجرام وانحراف وتوحش، وليس أدل علي وجود مثل هذه الفئة من هذه الجماعات التي نراها تتخلق وتعلن عن وجودها وتشبثها بأفكار الطاغية ومنهجه المريض في السلوك والعمل أعواما بعد هلاك الطاغية وتدمير مشروعه وردم أفكاره تحت جبال الإدانة والعار، وبرغم كل ذلك نجد هذه الجماعات تطل برأسها وتعلن عن حضورها باعتبارها استمراراً وانبعاثاً لمشروع الطاغية فور هلاكه، وأحيانا بعد هذا الهلاك بأعوام وعقود وربما قرون، فدعنا من أتباع الحاكم بأمر الله، فقد يكون في الأمر شيئاً من اللبس والخلط بين عقيدة من العقائد وشخصية هذا الطاغية، ودعنا من هيلا سيلاسي في إثيوبيا وأتباعه من زنوج كندا وأمريكا فقد يكون للأمر علاقة بالهوية والجذور، ولكن ماذا عن أتباع هتلر في الغرب وسجل هذا الطاغية والدماء التي أسالها والمحارق التي نصبها للبشر ما تزال ذكراها حية في أذهان شهود بعضهم ما زال حياً، وماذا عن موسيليني بكل ما يرمز إليه من جنون ودموية ومع ذلك نري له أتباعا في إيطاليا نفسها التي تجرعت علي يديه نتائج هذا العته والجنون والإجرام، إذن فإن هناك بشراً تشوهت نفوسهم وطمس الله ما فيها من خير، ترتضي دون حاجة إلي برمجة ولا حاجة إلي ارتباط بمصلحة أو مقابل رشوة أن تنخرط في مسيرة الطاغية وتبقي علي ولائها له أثناء حياته وبعد موته. وسأغامر في ختام هذا الجزء من خصائص الطاغية بالاتيان علي حقيقة، قد يصعب تأكيدها، لأنها غالباً ما تبقي غاطسة في أسرار دول أخري، لا تريد أن تفضح ممارساتها، ولا سبيل لوجودها في أرشيف الطاغية، لأنه لا يحتفظ في أرشيفه علي دليل إدانة له، وهذه الحقيقة هي أن الطاغية لابد وأن يكون عميلاً لجهة ما، حتي لو كان يسعي لرئاسة قوة عظمي تصنع العملاء والأتباع وتجعل من الدول الأخري ذرات تدور في فلكها، لأن الجنون الغريزي الذي يدفع به للوصول إلي الحكم، يجعله علي استعداد لدفع أي ثمن والرضوخ لأي شرط، والانطلاق في كل اتجاه يمكن أن يجد فيه عوناً للوصول الي الحكم حتي لو كان هذا الاتجاه العمل لصالح مخابرات أجنبية أو الاتصال بجهات مشبوهة، وهناك حالات كثيرة يثبت فيها العمالة لدولة أجنبية أوصلت العميل لحكم بلاده كما هو الحال مع نورييجا الذي كان لعمالته للمخابرات المركزية الأمريكية دور في الوصول به إلي الحكم، وبينوشيه وهو الضابط الذي قفز علي حكم تشيلي عندما كانت أمريكا تبحث عن بديل للحزب الشيوعي الذي جاء بانتخابات حرة ورئيسه الليندي الذي قتل قتلا في قصر الحكم، وحالة بينوشيه تنطبق علي كثير من عتاة العسكريين الذين جاءوا لحكم تلك البلدان التي تسميها الولايات المتحدة الحديقة الخلفية لها وكانت تؤمن في ذلك الوقت بضرورة تأمينها من شرور ويتحدث عميل أمريكي عمل في العالم العربي اسمه مايلز كوبلاند صاحب كتاب "لعبة الأمم" عن الدور الذي لعبته أمريكا في جلب عملاء لها عن طريق الانقلابات العسكرية. وليس الأمر خاصاً بمثل هذه العمالة الأمريكية، ولكن الحديث يدور عن كثير من هؤلاء الطغاة، وعن كيف استعانوا بمحافل ماسونية وجمعيات سرية، بل وعصابات مافيوزية لإيصالهم إلي الحكم، واعتقد أن مزيدا من الحفريات في العوامل التي انجحت بعض الانقلابات العسكرية في البلدان العربية سوف يسفر عن كثير من العجائب والغرائب التي احاطت بمجيء هذه الانقلابات، وعلي رأسها هؤلاء الطغاة الذين اسهموا في تدمير الوطن العربي وعرقلة نموه علي مدي أكثر من ستين عاماً.
فاتح بوابات الجحيم
نقطة أخيرة تتصل بعتاة الطغاة ذوي الميول الإجرامية، أنهم يحبون أن يراهم الناس في صورة صانعي الكوارث ومثيري الرعب لدي الدول الأخري، أو كما يسميه التعبير الإنجليزي The hell raiser وهو ذلك الذي يفتح بوابات الجحيم علي الآخرين، فما فعله هتلر بدءاً من غزوه لبولندا واجتياحه لفرنسا وعزمه فيما بعد علي الانتقال لفتح بلاد الروس لم يكن إلا انسياقا وراء رؤيته لنفسه باعتباره فاتح بوابات الجحيم للآخرين حتي لو كانوا أكثر من مجرد قطاعات من شعبه كما فعل وهو يفتح أفران الغاز أو معسكرات الاعتقال لليهود والغجر، بل دول لها مكانة علي خريطة العالم، ولها أحيانا مستعمرات وأتباع، وهذا طبعا ما فعله ترويعاً وإرهاباً صدام حسين وهو يبدأ حربه علي إيران عندما ظنها في موقع الضعف بعد أن تقوض نظام الشاه وانهكت الثورة قوي إيران العسكرية والأمنية فظنها فرصة مناسبة لنقض الاتفاق الذي عقده مع الشاه دون اعتبار للويلات التي سببها لشعبه كما سببها لبلاد فارس، أو لحظة الترويع الكبري التي هزت العالم عندما أراد في لحظات أن يبتلع دولة مجاورة له هي دولة الكويت ويضعها بين فكيه بحكامها وأعلامها وبرلمانها وأناشيدها ويطمسها أرضاً وشعباً، ويجعلها المقاطعة أو المحافظة التاسعة عشرة، أو ما شابه ذلك برئاسة علي الكيماوي، لكنه طبعا يكتشف فيما بعد أنه ليس وحده من يفتح بوابات الجحيم، وليس وحده من يصنع العواصف، وإنما هناك في العالم قدرات أكبر من قدراته، وقوي لديها من قوة النار ما يحرق نيرانه ومن عواصف الصحراء ما يهزم عواصفه، ولعل هذا ما لم ينتبه إليه القذافي وهو يفتح نيران ترساناته العسكرية التي ظل يحشدها لأكثر من أربعين عاماً، علي الخارجين علي طاعته من ابناء شعبه، فجاءته قوات التحالف العالمي كما جاءت قبله لصدام تذيقه ملعقة مما عاش كل منهما، وعلي مدي عقود كثيرة يذيقه للآخرين. وقد يجدر بنا هنا أن نتساءل إن كان لهذا الطاغية، ورجوعاً إلي التناقض في شخصيته، وجه يقابل وجه فاتح بوابات الجحيم، هل يمكن بمثل هذه البطولات في الترويع وأعمال الشر، أن يكون قادراً في بعض اللحظات علي القيام بأعمال الخير؟، واعتقد أن هذا سؤال يمكن أن يجيب عليه أناس كثيرون ممن استفادوا من كابونات النفط التي كان يوزعها صدام علي اشتات لا حصر لهم من البشر، ويمكن أن يجيب عليه بالنسبة للقذافي كثير من شيوخ القبائل الإفريقية الذين يسمون أنفسهم الملوك والسلاطين التقليديين وجعلوا الأخ العقيد الملك الأعلي لهم بسبب ما أغدقه عليهم من العطايا والهبات، بمعني أن للطاغية أحيانا وجه مضيء لا يراه عادة أبناء شعبه، ويمكن أن يشرق علي أقوام خارج حدود الوطن الذي يحكمه، لكي لا نقول إن كل ما يفعله الطاغية ينتمي إلي عالم الرعب والكراهية والشر والجريمة.
ميزات السايكوباتي
ولعلنا وصلنا الآن إلي ما أشرنا له سابقا وهو التحليل النفسي لشخصية الطاغية، وتجمع الكتب والتحليلات التي تناولت شخصية أدولف هتلر باعتباره عميد الطغاة في عصرنا الحديث، علي أنه شخصية سايكوباتية، وهو تشخيص لحالة تنطبق علي أغلب الطغاة الذين عرفهم العالم خاصة عتاة الطغاة، ولذلك فسنقوم بتخصيص مساحة للتعرف علي هذه الخصائص التي يتميز بها الإنسان السايكوباتي، وهي حالة مرضية جعلت بعض البلدان تضع لها نصاً قانونياً يقضي بالحجر علي كل من تشخص حالته بأنه شخصية سايكوباتية لخطورة المسلك الذي يسلكه هذا الشخص كما حدث في بريطانيا التي اصدرت منذ سنوات قليلة قانوناً يقضي بهذا الأمر، ولابد من القول إن معظم المجرمين الكبار الذين يسكنون سجون الحالات القصوي من شروط الأمان، ومن يصلون إلي غرف الإعدام بسبب جرائمهم البشعة، هم من المصابين بهذا المرض النفسي كذلك عدد من أخطر المجانين القاطنين في مناطق الحجر المحكم في مستشفيات الأمراض العقلية، وغالباٍ ما يكون هذا الطاغية رجلاً وصل إلي سدة الحكم بدلاً من الإمساك به من طرف حراس العيادة النفسية لوضعه في السترة الحديدية والانطلاق به ليحجز في إحدي الغرف المحكمة الرتاجات والمغاليق، ولنبدأ بالقول إن هذا المرض لا يعني مرضاً واحداً وإنما مجموعة من الأمراض النفسية التي قد تتباين مع بعضها البعض فهو مصاب بعقد النقص، كما هو مصاب بعقد العظمة والمكابرة وهو شخص تسكنه البارانويا التي تجعله مليئاً بهواجس الخوف والتمويه والمداراة، كثير الشكوك والريبة والحالة التي يضربون بها المثل في عقدة البارانويا ما فعله عطيل بديدمونة، عندما أدي به هذا المرض إلي قتلها إثر دسيسة من خصومه وشبهة واهية لا وجود لدليل واضح عليها فذهبت المسكينة ضحية ضعفه النفسي، وفقد هو حبيبته ثم فقد حياته بسبب سلوكه المحكوم بأمراض البارانويا، بينما يملك هذا المريض بأمراض السايكوباتية في ذات الوقت عقد الاستعراض والظهور، وهو مرض وثيق الصلة بانفصام الذات والشيزوفرينيا إلا أن شخصيته ليست مقسومة إلي حالتين، كما في "دكتور جيكل ومستر هايد"، وإنما تعدد الشخصيات التي قد تتناقض مع بعضها، وهو بالضرورة مريض بالسادية؛ ولكنها سادية من نوع خاص لا يسد حاجة صاحبها أو يرضي حالته المرضية أن يأخذ سوطاً ويضرب به خادماً، كما يعالج بعض حاملي هذه الأمراض أنفسهم، وإنما يحتاج لأكثر من ذلك لإرضاء جنونه، ومع هذا المرض يظهر مرض آخر في شخصيته يكاد يكون مناقضاً له هو مرض المازوخية الذي يعني الاستمتاع بالأذي وتعذيب الذات وجلدها، وهو أيضا يختلف فيما يبدو عن المازوخي العادي الذي قد يرضيه أن تأخذ عشيقته سوطاً تجلد به ظهره فيرتاح ويؤدي واجباته السريرية معها هانئاً سعيداً بعد هذه الجلدات كما نري في أفلام نفسية تتحدث عن مثل هذه العاهات، وهناك أمراض نفسية كثيرة أخري سنأتي عليها واحدة بعد الأخري، وسنري كيف أن لها تجلياتها لدي كل طاغية نعرفه أو نعرف سيرته، وينسب علماء النفس هذه العاهة إلي عطب وتشوهات في المخ لم يتم تشخيصها بالشكل الذي يمكن أن يساعد الطب علي وجود علاج لهذا العطب أو التشوه، ويكاد هناك اتفاق علي أن هذا التشوه في المخ ينتج عن خلل يحصل للإنسان في مراحل عمره الأولي دون استبعاد وجود عامل جيني وراثي، ونعرف جميعاً أن فرويد ينسب أغلب الأمراض النفسية إلي السنوات الأولي من عمر الإنسان، ولعل هذا الخلل في شخصية الطاغية قد بدأ منذ السنة الأولي لوجوده علي الأرض، وهو خلل يتصل بنمو هذا الطفل نمواً تتواشج وتتوافق فيه وتنسجم كل أنواع النمو التي يحتاجها هذا الكائن الإنساني بمعني أن نموه الجسمي يرافقه في ذات الوقت وبذات الدرجة نموه العقلي، كما يرافقه وبتوافق وانسجام نمو جهازه العصبي، ونموه الانفعالي والعاطفي، وهو ما يحدث لكل إنسان طبيعي، ما يحدث للشخصية السياكوباتية أن خللاً يحدث لهذا التوافق والهارموني في هذا النمو فيتخلف مثلاً نضجه العاطفي والانفعالي عن نضجه أو نموه العقلي والبدني، أي غياب الهارموني في هذه الأنواع من النمو، فيحدث بها اضطراب وفقدان توازن ينعكس علي شخصية الطفل، إلا أنه لا يظهر عليه ظهور المس علي الممسوس أو ظهور التخلف العقلي علي المتخلف عقلياً، فمن ميزات الشخص السايكوباتي أنه يمكن أن يتصرف بمنتهي العقل والتهذيب، وقد لا يعلن مرضه السايكوباتي عن نفسه إعلاناً قوياً إلا في لحظات الفوران والغضب، ولكنه مع ذلك قد لا يظهر ظهوراً قوياً إلا بعد أعوام من سن البلوغ حيث يخرج الشخص من عوالم الطفولة والصبا بما فيها من براءة وبعد عن المواجهات، إلي العالم الواسع بتحدياته ومواجهاته عندئذ يمكن أن تخرج شخصيته الإجرامية أو شخصيته العنيفة في مواجهة من يحاول أن يقف في طريقه، إلا أن هناك مناسبات ظهرت الحالة السايكوباتية علي اناس في مرحلة الطفولة يعرفون بالكذب والنشل والسرقة، وقد عرف عن واحد من ملالي الثورة الخمينة، اسمه خلخالي واشتهر بدمويته، أنه كان يتفنن أثناء طفولته في مطاردة القطط وشنقها وخنقها ومن بين الكتب الكثيرة التي تخصصت في عرض وشرح هذا المرض يمكن اعتبار كتاب "The Mask of Sanity أو قناع العقلانية" لصاحبه هارفي كليكلي من أهم الكتب عن الأشخاص المبتلين بهذا المرض، حيث يؤكد في هذا الكتاب أن المظهر الخادع لهذا المريض ليس إلا قناعاً للجنون الإجرامي الذي يتلبسه.
وبالنسبة إلي الطاغية طبعاً يحتاج الأمر إلي أن يصل هذا المريض السايكوباتي إلي موقع يتآمر فيه علي أناس حتي لو كان رئيس غفر، عندئذ ستظهر امكانية التنفيس عن عقده ويبدأ الناس الذين يقعون تحت سيطرته بتلقي أنواع ما يتقنه من تعذيب وإيذاء كانت في حالة كمون قبل وجوده في موقع المسئولية، وقبل أن أشير لأعمال فنية تناولت شخصية السايكوبات، سأشير إلي مسلسل أمريكي شاهده الناس علي الشاشة الصغيرة في دول العالم ومن بينها العالم العربي، هو مسلسل "الرجل الاخضر"، وعنوانه الرئيسي The incredible hulk ويعني العملاق الخارق أو المسخ، وقد صنعوا منه ألعاباً في الحاسوب وغيره، وشخصية هذا الرجل الأخضر تشبه تماماً ما يحدث من تغيرات للرجل السايكوباتي فهو رجل يتصرف بشكل طبيعي ويعيش مع الناس في أمان وسلام حتي إذا مرت به لحظة عصبية انفعالية شديدة القوة والتأثير ينقلب هذا الرجل المسالم إلي رجل آخر؛ بشكل عضوي في هذه الحالة، أي أن قميصه يتمزق لأنه يضيق علي هذا المسخ المهول الذي تحول إليه فنري رجلاً عملاقاً عنيفاً قادراً علي تدمير الإنسان الذي آثار غضبه ويكتسي جسمه بالاخضرار ويصبح أشبه بغول بدلاً من شكله الإنساني، وما أن يحقق انتقامه وتنتهي تلك الحالة حتي نراه يركض إلي مكان خفي لتعود إليه شخصيته الطبيعية، ويعود لارتداء ملابس طبيعية، ويذهب إلي مكان آخر يبحث فيه عن عمل يتفق مع إحدي مهاراته الكثيرة، كما ظهر في المسلسل الشهير، ولا أجد صورة أقرب من هذه الشخصية لتصوير المريض السايكوباتي الذي نراه يتنكر في هيئة إنسانية طبيعية بل أحيانا في شخصية إنسان شديد التهذيب والتحضر، كما نري في أفلام تصور عتاة المجرمين ممن يسمونهم سفاحي الجماعات، وكيف يصطاد هذه السفاح ضحاياه وبخاصة إذا كان هؤلاء الضحايا من النساء بأساليب يتحول فيها إلي إنسان يسحر المرأة بإجادته للرقص وشدة تهذيبه ومبادرته لاستضافتها وتقبيل يدها والإسراع بإشعال لفافة تبغها والبقاء واقفاً حتي يراها تجلس والانحناء لها أو لأية امرأة عند التحية، حتي تنبهر بشخصيته وجمال أسلوبه، ليستدرجها بعد ذلك إلي المكان الآمن الذي يقوم فيه باغتصابها وقتلها، فهو هنا يرتدي قناع الرجل الحضاري ليمارس القتل والاغتصاب والرعب، والمحاكم التي تحاكم مثل هذا المجرم لا تعفيه من جريمته باعتباره مجنوناً، لأن ذلك ينطبق علي من فقد عقله، لكن السايكوبات ليس فاقداً للعقل، ولكنه إنسان فاقد للضمير، فهو إنسان بلا ضمير، بمعني أن لا رادع يردعه عن ارتكاب أي شيء، متبلد الإحساس، متحجر القلب، يخلو من مشاعر الندم أو الأسف لما يبدر منه وما يقوم به من ظلم أو يقترفه من جرائم بحق الأبرياء، إطلاقا لا يعرف مثل هذا الألم أو الندم، كما تقول الكتب التي تتحدث عن السايكوبات، ولنبدأ في تحديد أهم خصائص الطاغية السايكوباتي:
1- يستمد السايكوباتيك أقصي أنواع المتعة من التنكيل بالآخرين وإنزال الألم والعذاب بهم، ومثال ذلك في ذاكرة أهل هذا الزمان الرئيس صدام حسين، الذي أدخل العراق في سلسلة من الحروب، لكي يستمتع بخروج جنازة من كل بيت فهذا هو ما يجلب له متعة لا يستطيع الاستغناء عنها، مثله مثل المدمن الذي تصبح هذه الجنازات حقنة يومية لإرضاء حاجاته المرضية، ولذلك فما إن تنتهي الحرب في جهة حتي يشعلها في جهة أخري، وهو ما يؤكد أن وجود المريض السايكوباتي في الحكم، يعني بالضرورة امتلاكه رخصة للقتل دون محاسبة ولا رقابة ولا عقاب، يمضي في القتل، ما ظهر منه إلي العلن، وما تم في أقبية مجهولة، لن تظهر حقيقتها إلا بعد انتهاء عهد النظام، وأحيانا يلجأ هذا الحاكم عند اقتراب أجله إلي توريث الحكم لابنه حتي لو كان يقود نظاماً جمهورياً من أجل أن يبقي الصندوق الأسود لجرائمه مخفيا، كما فعل الطاغية السوري حافظ الأسد وطغاة صغار في إفريقيا مثل عمر بونجو في الجابون وقبله كابيلا حاكم الكونجو كينشاسا.
2- السايكوبات شخصية متمحورة علي الذات لا يري في مرايا الأرض والسماء إلا صورته، نرجسي، لا يطيق أن يذكر اسم معه، مصاب بأمراض العظمة التي تجعله ينتفخ مثل بالون فارغ مملوء بالهواء، ويصرف الأموال الطائلة التي ينفقها من خزائن الشعب علي مؤتمرات واحتفاليات وصور وأفلام وكتب تتحدث عن نواحي عبقريته تزييفاً وكذباً، وفي اتجاه آخر يعمد إلي طمس كل جهود البشر الآخرين، والذين يعرفون ليبيا يعرفون أن لا اسم يظهر مع اسمه فهو يمنع المذيع أن يذكر اسمه ويمنع اللاعب الرياضي أثناء وصف المباراة أن يشار إليه بغير الرقم الذي يحمله، فاسمه ممنوع كما هو ممنوع ظهور أسماء أي صاحب منصب في البلاد. ولعل هذه الحالة النرجسية هي أقل الحالات ضرراً في طبيعة السايكوبات لأنها غالباً ما تتحول إلي حالة كاريكاتورية، ذات جوانب مؤسفة لكنها تدعو إلي الضحك والسخرية، غير جوانبه الكثيرة الأخري ذات النتائج الكارثية التي تدعو إلي الألم والحزن، وقد علمت علي وجه اليقين، أن الرئيس الليبي ، استجلب بمئات الملايين تقنيات علمية واستأجر علماء ووكالات، لكي تعكس صورته علي القمر، فوق ليبيا بالذات ، ولمدة لعلها استمرت عاما كاملا، وانتشرت في اواخر السبعينيات اخبار في الاوساط الشعبية تتحدث عن معجزة ظهور صورة الاخ العقيد معكوسة علي البدر الطالع في السماء .
3- يشير الباحثون في شخصية السايكوبات إلي أن لديه ميزة تميزه عن خصومه، قد تؤمن له في حالات كثيرة النصر عليهم، علي الأقل في مرحلة من مراحل الصراع كما كان الحال مع هتلر في بداية المحارق وبداية الحروب، وهذه الميزة أن السايكوبات لا ضمير له يردعه عن ارتكاب أي شيء، بعكس خصومه من البشر العاديين الذين لابد أن تحد الاعتبارات الإنسانية من أفعالهم، فقد أظهرت محاكمة صدام حسين حول جرائمه في قرية الدجيل أنه من أجل القضاء علي حلقة صغيرة من خصومه ممن أرادوا التآمر ضده، كان مستعداً لإبادة قرية كاملة وقصفها بالطيران دون اعتبار لموت أطفال ونساء ورجال لا علاقة لهم بتلك الحلقة من أعدائه. وعندما أراد القذافي تصفية أمره مع الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز لم يعمد إلي ما عمد إليه أعداء الملك فيصل عندما أرسلوا قاتلاً يستهدفه شخصياً، وإنما دبر مؤامرة تقتضي ضرب موكب الملك عبد الله بصاروخ كان بالضرورة سيقضي علي مئات الناس الأبرياء ممن تصادف وجودهم في موكبه أو قريبا منه، لولا أن الله سلم وتم كشف المؤامرة.
4- كل ما يمكن أن يظهره السايكوبات الطاغية من مشاعر، وبخاصة في خطاباته المملوءة بالشعارات، مجرد كوموفلاج للتمويه والتسويف والمخادعة، ويمثله صاحب كتاب "قناع العقلانية"، بمثل الوحش الذي يستخدم كل الحيل لاصطياد فريسته، فهو يختبيء في الدغل، ويقطع علي فريسته الطريق، ويسعي للاستفراد بها، ويلجأ إلي كل الوسائل من أجل أن يتمكن من افتراسها، هو لا يعرف عاطفة، ولا هدفاً، إلا الوصول إلي ما يريد، وما يريده الطاغية طبعاً الحكم والسيطرة وامتلاك رخصة القتل دون حسيب، ولا يسمح لأحد يقف في طريقه، ولن يتردد في إزاحته بالقتل أو غيره، حتي لو كان ابنه أو شقيقه، إنه لابد وأن يقوم بتصفية من يقف ضد تنفيذ رغباته، وقد عرض في برنامج تلفزي سينمائي تقدمه السيدة القديرة درية شرف الدين فيلماً نفسياً يقوم فيه البطل بإشعال حريق في بيت تقطنه زوجته وأطفاله، وسألت ضيفها الطبيب النفسي عن كيف لإنسان أن يحرق زوجته وأطفاله؟، فكانت إجابته هو أن البطل شخصية سايكوباتية، ومن أجل الوصول إلي غرض الحصول علي امرأة أخري يتعشقها، يقوم بقتل أسرته التي رآها عقبة في طريق تحقيق هدفه.
الكذب المجاني
5- إحدي خصائص الشخص السايكوباتي أنه لا يري النتائح لأفعاله، ولا يهتم بحسابها، فهو يتصرف حسب ما تمليه النزوة التي تراوده في تلك اللحظة، إذ يستطيع صدام وهو يغتاظ من الصدر أن يبعث بمن ينتزعه من بيته ويقتله، دون اعتبار لما يمكن أن يثيره هذا الفعل من انقلاب جزء كبير من الرأي العام عليه ويورثه أحقاداً لا حصر لها ولا نهاية، كما يستطيع في لحظة غضب أخري أن يقتل أصهاره _ اي أصهار صدام - الاثنين وزوجي ابنتيه لأنهما خرجا عليه، وقد عادا إليه تائبين، ولكن غضبه لن يجد متنفساً إلا بقتلهما، رغم ما يورثه هذا القتل من حقد أحفاده عليه وترمل ابنتيه وزرع الدمار داخل بيته، وهذا طبعا ما حدث مع القذافي وهو يأمر بإخفاء إمام آخر اسمه الصدر أيضا هو الإمام المناضل السيد موسي الصدر، ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ الصحفي عباس بدر الدين، وظل الرئيس الليبي ، وعلي مدي أكثر من ثلاثين عاماً يدفع ثمن هذا العمل دون أن يستطيع إنهاء المشكل.
6- الشخص السايكوباتي صاحب قدرات كبيرة علي تعبئة الناس نحو الشيء الذي يريده، مستخدماً الغش والكذب والتزوير، مستعينا بقدراته الخطابية، التي يغطي بها أفعاله، بل وأكثر من ذلك يدين بها خصومه إذ يكفي أن ينعت هؤلاء الخصوم، الذين يسعون لتعريته وكشف أكاذيبه وفضح أفعاله الإجرامية، بالخيانة والعمالة للأعداء، ليجد من يصدقه دون دليل، ويردد أقواله حول هؤلاء الخصوم, وهكذا يصابون بالعمي عن رؤية أفعاله الشائنة، بل أحيانا يقودهم هذا السايكوبات إلي حتوفهم، كما فعل في أواخر السبعينيات رجل اسمه جون جونس صنع مع مجموعة من الأتباع الأمريكان، الذين أبوا الاستجابة لعناصر من الدولة حاولوا انقاذهم من هذا المجنون وهم في كاليفورنيا، وأصروا علي الهروب معه إلي غويانا، وعندما استحكمت حلقات الحصار حوله أمر هؤلاء الأتباع؛ وكان عددهم أكثر من تسعمائة شخص بشرب السم، فقاموا بتنفيذ أوامره وماتوا معه في مجزرة من أبشع وأغرب ما شاهد العالم من مجازر، يقوم فيها الضحية بمساعدة القاتل علي قتله.
7 - الشخص السايكوباتي لا يكف عن الكذب، وهو يكذب بيسر وسهولة ودون أن تطرف له عين أو ترشح من جبينه نقطة عرق واحدة، يكذب كأنه يتنفس، وهو لا يكذب مضطراً كما يفعل المتهم الذي ينكر جريمته طلباً للنجاة، إنه يكذب كذباً مجانياً في أغلب الاحيان، يكذب لأن الكذب يشكل مصدر سعادة له، يكذب ليبتهج ويري نفسه قد خدع الناس وانتصر علي ذكائهم، والشواهد تقول إن الطغاة أكثر طغياناً من السايكوباتيين الآخرين ممن هم أقل منزلة، لأن هناك دائما من يمكن أن يعترض علي كذبه، بينما الطاغية وهو يخطب من منصة عالية، وبين حشود من اتباعه والموالين له، أو الجماهير التي ترتعب من بطشه وقهره، لا تستطيع اعتراضا علي ما يسوقه من أكاذيب، بعضها كما قلنا لمجرد المتعة التي يحصل عليها من قول الكذب، وبعضها طبعا للتغطية علي اخفاقاته بتحويل هذه الاخفاقات والهزائم إلي انتصارات أو تحويل الجرائم والمحن التي يعرض لها أهل بلاده إلي مكارم وفتوحات ومنجزات، وخلاصة القول إنه يكذب استجابة لحاجة نفسية مرضية.
8- المريض السايكوباتي، لا حدود لقسوته، ولا رادع لقيامه بارتكاب أفظع الممارسات وإيقاع الأذي بمستويات لا يرضاها الحس الإنساني، لأنه شخص لا يعرف الرحمة، ولا يملك الحس الذي يملكه بقية الناس والذي نسميه عاطفة، تمد رباطاً بينه وبين اخوته في الإنسانية، لأنه لا وجود عند السايكوبات لهذه الرابطة، ولا وجود لرادع من دين أو إيمان لأنه لا إيمان له ولا علاقة بأي دين إلا عبادة نفسه وعبادة شيطان مصالحه، ولهذا فإنه لا أحد يستغرب المدي الذي يصل إليه في تعذيب ضحاياه أو الوسائل التي يلجأ إليها وهناك شهادات تقول بإن بعض الطغاة العرب كانوا يشرفون بشكل شخصي علي تعذيب ضحاياهم، ولعله لم يكن غريباً ما كان يقال عن عيدي أمين أنه كان يأكل أكباد ضحاياه، أو بوكاسا الذي كان يضع لحم أطفال في ثلاجة منزله ممن رفضوا أوامره بشراء ملابسهم المدرسية من حانوت يملكه، وثابت عن صدام حسين أنه قام بإطلاق النار في مكتبه علي اثنين من وزرائه أثناء انعقاد جلسة لمجلس وزرائه.
9- إحدي خصائص المريض السايكوباتي، التقلب، فهو لا يثبت علي حال، ويقول اليوم شيئا، يمكن أن يقول عكسه في اليوم التالي، ولا يتورع إذا كان حاكماً عن إصدار الوعود التي لا ينفذها، ويتنكر لها بعد قولها، وهو تقلب ناتج عن اضطرابه النفسي، وعن حقيقة أنه شخص بلا مبدأ ولا إيمان بشيء إلا إذا كان مشوهاً ممسوخاً، مثل الإيمان بالعنصرية والتفوق العرقي الذي يقول به بعض الطغاة لأنفسهم وأقوامهم، لكي يمنحهم هذا الإيمان رخصة بتقتيل وذبح وحرق الأقوام الأخري، ولهذا فالسايكوبات لا يوثق به، ولا يعتمد عليه، ولا يفي إذا وعد، ولا يحفظ العهد إذا عاهد، ولا تقوده إلا نزواته وغرائزه وأمراضه ومنافعه الشخصية.
10- المريض السايكوباتي، لا يملك قدرة علي مراجعة أخطائه والاستفادة منها فلا يقوم بتكرارها، فهو يشتهر بالإصرار علي تكرار نفس الأخطاء، ربما لأنه لا يتعظ بما يفعل ولا يشعر بحرج ولا خجل ولا ندم، فتكراره للأخطاء ربما يكون جزءً من هذا التركيب المرضي لشخص لا يملك ضميراً، وهذا يجعل السايكوباتي بعد أن يصل إلي مرحلة العتو في إجرامه وطغيانه، يتوقف تماماً عن أي نمو لفكره أو عقليته، ولا مجال لأن يحدث له أي نوع من التحول في شخصيته، لأن هذا المرض لا يصاحبه نضج عقلي، ولا يصاحبه وصول إلي مرحلة من الفهم أو الرجوع عن غيه، وبعد أن قلنا هذا الكلام نقول أيضا إن الشخص السايكوباتي لا يوجد علاج له حتي الآن، ولا أمل له في الشفاء بسبب أن الأطباء لم يصلوا بعد إلي أية علاجات يمكن استخدامها لاستئصال التشوهات في عقله، والآن هناك دراسات حقلية وكلينيكية قائمة علي تشريح مخ المريض السايكوباتي بأمل الوصول إلي نتائج تؤدي إلي العلاج.
11- هناك اضطراب في الحياة الجنسية للشخص السايكوباتي، ولهذا لا يثبت علي حالة واحدة ولا قدرة له علي الحياة مع شريك أو شريكة واحدة، وقد لا تكون له قدرة علي الثبات علي سلوك جنسي واحد، فهو قد يكون متذبذباً بين السلوك السوي والمنحرف، وربما تتباين السلوكيات حسب درجة العتو والقوة للحالة المرضية، ولكن الثابت من كل الشواهد أن الشخص السايكوباتي لا وازع أخلاقي له، ولن يتورع عن ارتكاب كل المباذل والانغماس في ممارسة الغرائز وتجريب كل ما هو رخيص ومبتذل وخسيس وتشمئز منه النفوس السوية لأنه لا يملك نفساً سوية يمكن أن تشمئز. إنه لا يطيق البقاء علي حالة واحدة، ولا يطيق الإخلاص لشريك واحد، ولا يري الناس في ضوء الشراكة الإنسانية؛ وإنما يراهم كأدوات يستخدمهم لقضاء مصالحه، وسيكون هذا الشريك أو الرفيق معرضاً للرمي بعد الاستعمال مثل الأشياء المصنعة للاستخدام المؤقت، ويمكن إضافة قضية أخري تتصل برؤيته للجنس، باستخدامه وسيلة للسيطرة وإذلال الآخرين حتي من معاونيه الذين يستمتع بانتهاك حرماتهم، وقراءة لمسرحية ألبير كامي "كاليجولا" تعطي فكرة كاملة عن أسلوب الطاغية السايكوباتي في استخدامه المشوه والمرضي للعامل الجنسي، بالنسبة إلي نفسه وللآخرين.
12- شيء مشترك بين الطغاة السايكوباتيين هو عدم الاعتراف بمسئوليتهم عما اقترفته أيديهم، إنهم ينسبون المسئولية إلي غيرهم، ويجتهدون في البحث عن أكباش فداء لأفعالهم، ولن نستغرب إذا ما وجدنا الطاغية يحاكم ضابطاً ميدانياً خسر المعركة لأنه استجاب لتعليمات القائد الأعلي، بل حدث أن وقف ذات مرة الأخ العقيد في ميدان الشهداء بطرابلس وفي حفل عام، يضع مسئولية الحرب التي قام بها ضد تشاد علي الشعب الليبي، قائلاً لهم: إنكم كلفتم خزينة بلادكم 24 مليار دولار بهذه الحرب الغبية التي خضتموها، ومثل هؤلاء الطغاة لن يتعلموا، مهما مضي عليهم الوقت في الحكم، كيف يتحملون المسئولية أو يعترفون بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.