أياً كان حجم المكابرة والإنكار إزاء ما شهدته العاصمة اللبنانية وجوارها من تدفق غير مسبوق للمواطنين السوريين المقيمين في لبنان والخارج للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، فان أحداً من المكابرين أو المنكرين أو "المصدومين" بهذا المشهد لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة شعبية وسياسية صارخة طالما جرت محاولات محلية وإقليمية ودولية لتجاهلها، وهي أن الشعب السوري بكل مكوناته بات مدركاً، بما لا يقبل الشك، إن المستهدف بكل ما شهدته بلاده هو الدولة والمجتمع، الشعب والجيش، السيادة والكرامة، الوحدة الوطنية والإرادة المستقلة، الخيارات والتوجهات القومية الرافضة للهيمنة الاستعمارية. واللبنانيون، ومعهم أشقاؤهم السوريون والعرب وأحرار العالم، رأوا في هذا التدفق الشعبي، مشهداً مماثلاً لذلك التدفق الشعبي الذي شهده لبنان اثر حرب تموز 2006، حيث كانت عودة الجنوبيين الفورية إلى بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم انتصاراً لا يقل في أهميته عن الانتصار الذي حققته معادلة الشعب والجيش والمقاومة في مواجهة العدوان الآثم يومها. ومثلما لم يكن تدفق الجنوبيين يومها مجرد فرحة بانتصار على عدوان فحسب، ولا مجرد تمسك بمقاومة دافعت عن الأرض والبشر والسيادة والكرامة فقط، بل كان كذلك تمسكاً بوطن وقراره، وببلد وأمنه، وبأمة ومستقبلها، كذلك كان تدفق السوريين بالأمس، اللاجئون منهم والمقيمون رسالة تعلن تمسكهم بوطنهم واستقلاله، وببلدهم واستقراره، وبأمتهم وأمنها، وثوابتها القومية، وهي رسالة ينبغي على كل المتورطين في المحنة السورية أن يقرأوها جيداً، وان يعيدوا النظر في حساباتهم على ضوئها، وأن يتحرروا من جملة الافتراضات والافتراءات التي أطلقتها، على مدى سنوات أبواقهم، فيصبحون هم فريستها وضحاياها بعد أن قتلت هذه المخططات ما قتلته من السوريين، ودمرت ما دمرته من بيوتهم ومرافقهم، وممتلكاتهم، وهجرّت ما هجرّته من أهلهم وأبناء وطنهم. لقد كشف هذا التدفق الذي انضم إليه كثيرون مما انطلت عليهم في بداية الأحداث أحابيل أعداء سوريا الذين استدرجوا بعض شبابها إلى أتون حرب مدمرة، وأثاروا لدى بعضهم أبشع أشكال الغرائز البدائية المتخلفة، كشف هذا التدفق سطوع التمييز بين مطالب مشروعة للشعب السوري وبين أجندات مشبوهة لأعداء هذا الشعب، كما كشف وضوح التمييز بين اعتراضات وانتقادات مفهومة ومبررة لأخطاء وخطايا وبين مؤامرة دموية أرادت أن تحرق الأخضر في سوريا واليابس وان تنتقم من كل موقف أو وقفة لشعبها وجيشها وقادتها منذ الاستقلال بوجه الاستعمار وأدواته ومخططاته وحتى الآن. ولعل من محاسن الصدف أن تتذكر سوريا هذه الأيام القصف الفرنسي لمبنى البرلمان في 31 أيار/مايو 1946، وان تتذكر حرب الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 ضد سوريا ومصر وفلسطين والتي أسفرت عن احتلال الجولان وسيناء ومزارع شبعا وصولا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ومعهما القدس التي يحتفل العدو اليوم "بعيد توحيدها" في السابع من يونيو/ حزيران، كما تتذكر كيف خرجت جماهير 9 و 10 حزيران/يونيو في مصر والأمة العربية رافضة تنحي القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر كعنوان لرفضها الهزيمة وتمسكها بمقاومة الاحتلال. إن قانون التحدي والاستجابة الذي أطلقه يوماً المؤرخ البريطاني الكبير الراحل ارنولد توينبي، حيث اعتبر أن لكل تحد استجابة، وانه إذا كبر التحدي كبرت معه الاستجابة، يظهر لنا كيف إن تاريخ هذه الأمة المجيدة كان دائماً محكوماً بهذا القانون بدءاً من فلسطين إلى لبنان، إلى العراق إلى مصر إلى كل الأقطار من جبل طارق إلى مضيق هرمز، وما رأيناه في بيروت ليس إلا ترجمة جديدة لذلك القانون الذي نتطلع دوماً أن لا تنحصر الاستجابة فيه للتحدي عبر مواجهة أعداء الأمة، بل أيضاً عبر مواجهة الأخطاء والخطايا التي يقع فيها المدافعون عن هذه الأمة. كما جاء منع السوريين من الاقتراع في العديد من العواصم العربية والدولية ليكشف أيضاً زيف تلك الادعاءات فإذا كان السوريين في لبنان وغيره مغلوبين على أمرهم كما يقول هؤلاء فكيف يفسرون قرار بعض العواصم العربية والأجنبية بمنعهم من التصويت والمشاركة في استحقاق ديمقراطي طالما أدعوّا إن ما جرى في سوريا كان يهدف إلى تحقيق الحرية والديمقراطية معاً وقد رأى السوريون ترجمة مفجعة لهذين المطلبين الساميين التي لا تنهض الامم بدونهما. فهل يعيد المراهنون على سقوط سوريا حساباتهم، ويراجعون السياسة التي تورطوا فيها، وورطوا السوريين بدمائهم وعمرانهم في أتونها ؟ قد يقول البعض، إن في الأمر ما هو أكثر من خطأ في الحسابات لدى هؤلاء، بل أن فيه إمعان في تآمر صهيوني – استعماري – رجعي ما زالت فصوله مستمرة على هذه الجبهة أو تلك، ولكن من قال إن المتآمرين لا يضطرون احياناً إلى مراجعة حساباتهم، والى التراجع عن سياساتهم، لانتهاج سياسة أكثر قدرة على خدمة مخططاتهم. البعض يتحدث عن تقدم سياسي تحققه الدولة في سوريا، والبعض الآخر عن تقدم ميداني يحققه الجيش العربي السوري، لكن ما شهدته العاصمة اللبنانية وجوارها وغيرها من عواصم الاقتراع يتحدث عن تقدم سياسي وميداني معاً، وأبرز ما في هذا التقدم المزدوج انه فضح كل دعاوى الترهيب والترغيب التي كانت تستخدم في تفسير المسيرات المليونية داخل سوريا والتشهير بها قد سقطت، وأن كل من ذرف دموع التماسيح يوماً على الشعب السوري ونازحيه يتحوّل اليوم إلى استخدام كل المفردات العنصرية التي تحاول إهانة كرامة السوريين إنما كان يخفي حقدا على الشعب السوري بأسره وهو الذي رفع بالأمس بعض أبنائه شعار "الموت ولا المذلة" فإذ بهم يواجهون الموت والمذلة في آن. فهذا التدفق غير المسبوق يرفض "الموت والمذلة" معاً، ويتمسك بالوطن والدولة، والأمن والأمان.