(مفتتح) المعرفة الأكيدة.. جهل أكيد (ديستويفسكي) (1) أفهم أن يمنعني النظام القمعي من السفر، وأفهم أن يتضرر من محاولات كسر حاجز الصمت بالكتابة في منابر ليست على هواه، وأفهم أن يعقرني كلاب النظام وينبحون للتشويش على لغتي المتمردة وعنادي المتواصل، ويدينون قفزي خارج أسوار الحجب، كما يدينون محاولات بنائي لسلطة المواطنة، ومد الجسور لتحقيق التقارب السياسي بين فرق المعارضة المتشاحنة.. لكنني لا أفهم أن يتطوع فرسان المعارضة بذلك، ولا أفهم أن يتفرغ الرفاق لمقارعة زملائهم بحجة الخلاف في وجهات النظر، ويخوضون المعارك مع المعارضين ربما بوتيرة أعنف من معاركهم مع النظام وذيوله! (2) وصلتني رسالة على صندوق بريدي الإليكتروني تتضمن ملاحظات كتبها صديق معارض، يلومني فيها على سفري خارج مصر، ويطالبني بالعودة.. ليس إلى مصر فقط، ولكن إلى "جمال الذي يعرفه"، وقد شعرت بالمحبة والحرص في سطور الرسالة، لكنني سألت نفسي: هل جمال الذي يعرفه الصديق، غير جمال الذي يعرفه جمال نفسه؟!، وسألت نفسي مرة أخرى: إلى أين أعود؟.. هل أعود إلى حيث لا أكتب.. إلى حيث لا أستطيع التعبير عن رأيي إلا في صفحة مراقبة ومهددة على "فيس بوك" كتلك التي كتب عليها الصديق رسالته؟.. هل أعود إلى حيث يتم حصاري ومنعي من ممارسة حقوقي كمواطن، إلا بحسب ما تسمح به السلطة؟.. والأهم: هل أعود إلى جمال الماضي.. إلى جمال المنمط في ذاكرة الصديق، أم إلى جمال المتجدد المتماهي، الذي يستشعر مصيبة الوطن فيحاول معالجتها ومواجهتها، بدلا من الاكتفاء بأن يجلس تحت جدران السلطة يلوك الكلمات، ويغني الآهات، ويمصمص الشفاه تحسراً على وطن بلا معين، لأن المناضلين اكتفوا بدور المتعاطفين، بل تحول بعضهم إلى "متطهرين" يرفضون الخوض في الطين لإنقاذ الوطن الغارق في مستنقع القهر والفساد، خشية أن تتسخ ملابسهم، وخشية أن تلتقي يد "عبد الهادي" مع يد "دياب" أثناء سعيهما لإنقاذ بقرة الفقراء التي اختطفها البئر! (3) أتذكر في بدايات عملي السياسي، أن عددا كبيرا من الرفاق التقوا في حفل عيد مولدي، وفي السهرة التي كانت تقليدا يمزج السياسة بالثقافة في أمسياتنا، دارت النقاشات حول القراءات والثقافات والميول الفكرية ونبوءات العام الجديد، ويومها تحدثت عن إعجابي بأفكار التمرد والفلسفة الوجودية وسيزيف وجون أوزبورن، وكولن ويلسون الذي كنت مغرما بكتابه "اللامنتمي"، وفي دعابة لم تسقط من ذاكرتي أمسك زميلنا "جمال عبد الناصر" بهديته، ثم وقف وهو يقول ضاحكا: طيب نقوم نمشي بقى، لأننا مش هنعرف نجند واحد متمرد ولامنتمي بشوية هدايا. ضحك الجميع، وربما لا يتذكر أحد منهم الدعابة، لكنني اعتبرتها إشارة فلسفية، وربما نبوءة مستقبلية عن ذلك الصراع المؤجل بين "المتمرد" و"المُجَنَد"، بين "اللامنتمي" والعضو المطيع.. الفرد في قطيع، وأظن أن هذا الصراع بدأ منذ سنوات طويلة تحت عناوين كثيرة منها: البحث عن منهج للناصرية، تجديد الفكر الناصري، الفارق بين ناصرية التجربة وناصرية المفهوم، وهل ندخل إلى عبد الناصر من سياساته أم من انحيازاته؟، وأظن أن الناصرية انهارت كحركة سياسية نتيجة فشلها المبكر في الاستجابة لهذه الأسئلة، فعشنا حتى رأينا الناصرية تنتج مسوخا ببشاعة مصطفى بكري، بل وتتسع عباءة ناصر لنفايات من الحكام الفاسدين، أدعو الله أن يكون السيسي آخرهم. (4) لا أحكي هذه القصة على سبيل الذكريات، لكنني أستعيدها بهدف استخلاص الحكمة التي وردت كدعابة على لسان الرفيق جمال عبد الناصر عويس، وهي حكمة مبكرة تكشف جوهر الخلاف الذي يتصاعد بيني وبين الأصدقاء الذين يميلون بحكم السن أو العجز إلى اجترار "ناصرية التجربة" والوقوف عند كاريزما عبد الناصر كعلامة تمجد الفرد مع قليل من الارتكاز على الفهم والانحيازات الرئيسة، فأنا بحكم تكويني "الفاسد" الذي لا يلائم شروط الخضوع للتنظيمات المغلقة، والمفاهيم المنمطة، والتجارب النموذج التي يجب استعادتها بمميزاتها وعلاتها، لكنني لا أتلقى هذه الآراء بمرارة، ولا أناصب أصحابها العداء، لأنني أعرف أن هذا الفراق نتيجة طبيعية للعلاقة بين الواقف والسائر.. هم يستمدون عظمتهم من "الثبات على المبدأ"، ومن التمسك بالشعار، وأنا أستبدل الإجابات بالأسئلة، واليقين بالشكوك، لأن الواقع يُكَذّب الإجابات التي حصلنا عليها، واليقين يهتز تحت ضربات التخلف والهزائم التي تتوالى علينا. فكيف أصدق إذن أنني على حق، وأنا أستبدل الشعب بطائفة، وأستبدل تحالف القوى العاملة بحزب، وأستبدل الوحدة بالفراق، وأستبدل الواقع بالشعارات، وأستبدل النضال بالمزايدات، وأستبدل العمل بالرطانة؟! (5) سيداتي آنساتي سادتي.. من مسوخ الزومبي أو كائنات الكهوف المختبئة: ليبدأ العرض البذيء… لا بأس، فاللامنتمي لا يخشى البذاءة، ولا تخيفه لغة الإدانة، فقد سبق الجميع بإدانة نفسه، وقد تقبل باقتناع تام أن يظل منبوذا من المنتمين الأفاضل نظيفي الثياب والأدمغة، واختار بملء إرادته ألا يرد على أحد، ليس احتقارا لرأي المخالفين، ولكن لأنه يعترف بأنه مهزوم، ابن مجتمع مهزوم، أسير سلطات موزعة بين الهزيمة والعمالة والخيانة، وبما أنه لا يستطيع أن يغير ذلك، فليس من حقه أن يواجه الموهومين، ليكسر كبسولة أوهامهم، ثم يتركهم في العراء أمام الحقائق المفزعة.. سيداتي آنساتي سادتي.. من سكان كوكب الأوهام حافظوا على القوقعة الهانئة، تجنبوا الخروج والاشتباك، تمتعوا بنقد الخارجين للمواجهة، اغرقوهم بالنصائح والإرشادات، ثم أكملوا السمر بحكايات النضال القديمة.. ربما ينجح دون كيخوتة في هزيمة أعدائه الخرافيين، ولكن حذاري أيها "الفرسان" أن تطعنوا "سانشو" لأنه حامل الدرع الذي يحميكم من غير أن يفسد عليكم أوهامكم. (6) سيداتي آنساتي سادتي/ المتماهي يا سادتي لا يبيع، ولا يقايض على أحلامه، ولا يتلقى التعليمات من سلطة ولا أوصياء، ويتذكر جيدا أن كولن ويلسون لما وقف نفس الموقف قال ما أريد أن اقوله الآن: "إن الحياة التي كنت أعيشها صارت مجرد منفى، لذلك فإن الرجوع إلى البيت، ليس هو الطريق الصحيح للعودة إلى الحياة التي أنشدها، لأنه بكل تأكيد عودة من منفى في المكان إلى منفى في الزمان والدور والوجدان"، ولعلكم تتذكرون سيداتي آنساتي سادتي الذين تتربصون بي وبغيري، أنكم لم تدعموا موقفا لي في مواجهة السلطات الغاشمة، ولم أراكم في مظاهرة، ولا في اعتصام من اعتصامات الدفاع عن الأرض، ولم تدافعوا عن وقف مقالاتي ومنعي من الكتابة، ووقف مكافآتي المالية، ولم تحتجوا ضد التهديدات الأمنية التي وصلتني وامتدت إلى عائلتي! (7) أيها الأعزاء المتربصون/ من حسن الحظ أنني لست أكثر من فرد.. لن يُضار الوطن إذا غبت أو أخطأت.. لست نبياً كَفَر، ولست أُمّاً هجرت أطفالها الرضع، أنا مجرد مواطن أحلم بوطن يتسع لحياتي كما أريدها، لا كما يريدها القامعون، أنا مجرد "ديوجين" أبحث عن حقيقة أؤمن بها، وأتحرك بهذه القناعات حاملا حلمي في وطن أنشده، أنا مجرد متمرد مستقل لن أقبل بحياة المعية، وأرفض أن أنضوي كسيراً تحت إمرة حاكم يكفل لي طعامي وشرابي مقابل رأسي ومقابل رأيي. لذلك خرجت لأصرخ في وجه السلطان الجائر، لأنني لا أقبل بوطن من الصمت.. لا أقبل بوطن من الركوع، لا أقبل بوطن من العجز ومن المساومات المشينة، كما أنني لا أخشى الخطأ ولا الإدانة، ولا أنتظر مكافأة على عمل أحبه، ودور أسعى إليه بإرادتي، فأنا لست موظفا عند أحد أو جهة، ولا يعنيني المعز، لا سيفه ولا ذهبه.. أنا أفعل ما يمليه عليّ عقلي، وما يأمرني به حبي للناس ولبلدي، فمن شاء أن يشاركني وأشاركه، ومن لا يعجبه قولي وفعلي، فلينساني، أو يطعنني منتشياً، بما تيسر له من كلمات أو خناجر.. كلُ بحسب رؤيته لدوره وسلاحه، وعلى الرغم من أنني لست مسيحاً ولا عبيطاً إلا أنني أتسامح مع كل ذلك، لأنكم لستم خصومي، والمعركة معكم ليست معركتي.. فمعركتي هي بالأساس معركتكم ومعركتنا جميعا، ولا بديل عنها. محبتي لكم جميعا بلا استثناء محبتي للوطن.. أرضُ وماء، ناسُ وسماء جمال الجمل [email protected]