سافرت الأحد قبل الماضي نائبا عن السيد وزير الثقافة، وعلي رأس وفد من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، لحضور المؤتمر الدولي الأول للتراث العمراني بالدول الإسلامية. عقد المؤتمر علي مدي خمسة أيام في الرياض بدعوة من الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار وبرئاسته. لا أود هنا كتابة تقرير عن المؤتمر. إذ من السهل الرجوع إلي مواقع الصحف علي الإنترنت لمعرفة كل التفاصيل الرسمية. جريدتنا الأخبار أرسلت زميلي الأستاذ مصطفي بلال مدير التحرير لتغطية وقائعه . فيما قابلت عددا من زملائي العاملين في مكاتب الصحف المصرية في الرياض حاضرين في أروقته. أريد هنا الحديث عن جانب آخر له علاقة بانطباعاتي الشخصية خلال ثلاثة أيام ونصف اليوم فقط قضيتها في الرياض. خاصة هذا الاكتشاف الجديد تماما بالنسبة لي علي المستوي الإنساني: وهو الأمير سلطان بن سلمان ذاته. قبل الاستمرار في الحديث يجب أن أنوه أن لدي حساسية قديمة من الكتابة عن دول الخليج بما فيها المملكة العربية السعودية. ترجع هذه الحساسية لاختلاف فكري مع أنظمة الحكم هناك، فضلا عن حساسية شخصية من حالات إساءة استخدام الثروة الخليجية والتي يطلقون عليها مصطلح البترودولار. لذا فلم ترد سيرة المملكة العربية السعودية في كتاباتي من قبل سوي مرة واحدة في العام الماضي، عندما نشرت سلسلة مقالات وثائقية بعنوان " قبس من روح مصر " في جريدتي " الحياة " التي تصدر من لندن و"المصري اليوم". استهللت هذه السلسلة بمقالات عن علاقة السيدة كوكب الشرق أم كلثوم بالأسرة المالكة السعودية. عدا ذلك لم أكتب. لكنني أجد نفسي اليوم أراجع هذه الحساسية القديمة من واقع ما رأيته في زيارتي الأخيرة للرياض.. ذلك أن من الظلم أن يكتم الإنسان شهادته الواقعية بسبب حساسيات خاصة أيا كانت. وتظل حدود الكتابة هي حدود المكتوب فيها. أقول: فوجئت بشخصية هذا الأمير الشاب ابن الأمير سلمان أمير منطقة الرياض. كنت التقيت بوالده منذ عشر سنوات في قصره بالرياض علي رأس وفد من الاتحاد العربي للأرشيف بعدما انتخبت أول رئيس له أثناء رئاستي لدار الكتب والوثائق القومية في مصر. ذهبنا وقتها بدعوة من دارة الملك عبد العزيز وهي دار الوثائق السعودية . كانت تلك تجربتي الأولي مع السعودية. أذكر جيدا تفاصيل القاعة شديدة الاتساع التي استقبلنا فيها الأمير سلمان. وأذكر تفاصيل ملامحه الشخصية فلقد جلست قريبا منه. كما اذكر نبرات صوته الهادئة العريضة. وأذكر القهوة الخليجية الصفراء وتقاليد شربها من يد الساقي الملتف بزي احتفالي مزركش غالي الثمن. سألت مرافقي عنه فقال إنه الزي ذاته الذي يمكن أن يرتديه الأمراء في الاحتفالات العامة. كانت أيضا تجربتي الأولي في أداء مناسك العمرة. تجربة لن تتكرر بالنسبة لي للأسف. فقد صحبتني فيها نصف روحي المرحومة الدكتورة سامية الملاح. كانت أيضا عمرة ملكية. ركبنا طائرة الأمير سلمان، وأقمنا ليلة في القصر الملكي بمكة الذي تفتح أبوابه علي أبواب الكعبة. لم ننم في القصر فعليا، فلقد قضيت الليلة مع سامية بجوار الكعبة انهمرت خلالها دموعنا بلا بكاء. لن تمحي من ذاكرتي تفاصيل تلك العمرة ما حييت. رغم مرور عشر سنوات علي الزيارة الأولي للمملكة لم أكتب عنها سوي اليوم. هأنذا اكتب عن زيارتي الثانية. أهم ما فيها علي المستوي الشخصي هو هذا الاكتشاف الإنساني. رأيت الأمير سلطان بن سلمان للمرة الأولي مساء الأحد الماضي في قصر المؤتمرات بالرياض في القاعة الكبيرة التي خصصت لاجتماع الوزراء من الدول المشاركة. لم أتبين تفاصيل ملامحه من بعيد. كان يجلس علي منصة الرئاسة بالزي السعودي المعروف بالثوب الأبيض والعقال. بدأت ملامح شخصيته تتضح رويدا رويدا من كلامه وطريقة إدارته للجلسة . كان بسيطا في حديثه، مقنعا، مثقفا، يمتلك حسين: التواضع والفكاهة الرقيقة. كان يجلس بجواره الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام. عندما قدمه ليتحدث قال عنه أنه كان رئيسه السابق في العمل ضحك الوزير في خجل. كان ذكيا في إدارته للجلسة. أعطي الكلمة لكل الوزراء الحاضرين. ولما لم أكن وزيرا، وكان الاجتماع علي وشك الانتهاء. أردت أن لا ينتهي قبل أن يسمع الحضور اسم مصر. إذ لا ينبغي أن يعقد اجتماع فيه ممثل لمصر دون ذكر لها. تحدثت. وفوجئت بالأمير يعلق علي حديثي بأطول مما تحدثت. مشيدا بمكانة مصر وأهميتها وثراء تراثها في مختلف المجالات. أرجو أن يأمر الأمير بإرسال نسخة من تسجيل هذه الجلسة لنحتفظ بها. كانت مذاعة علي الهواء في القناة الثقافية السعودية »وتلك مفاجأة أخري«. في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر فوجئت بالعدد الضخم من الوزراء وممثلي المنظمات الدولية والوفود والخبراء المشاركين. ودقة التنظيم الذي سهل علي الجميع المشاركة. كان مع كل وفد مرافق سعودي شاب يدله علي مكانه ويستجيب لطلباته. كان من حظي أن يرافقني منذر الأنصاري، وهو شاب دمث مثقف يعمل مديرا عاما لإدارة الإحصاء والمعلومات بهيئة السياحة والآثار ويحضر للدكتوراه في القاهرة. استقبلني بعد هبوطي من الطائرة ولم يتركني إلا وأنا علي أبواب الطائرة عائدا لبلدي. فشكرا له. كان الإعداد للمؤتمر جيدا . الإمكانيات المادية السخية بادية في كل شئ. من استضافة الوفود إلي المطبوعات الفاخرة وإعداد القاعات والوسائل التكنولوجية الحديثة وحفلات الغذاء والعشاء اليومية. عقب انتهاء الجلسة الافتتاحية زار الأمير سلطان أجنحة الدول والمؤسسات التي شاركت في معرض ضخم أقيم علي طابقين في قصر المؤتمرات. كان الجناح الذي شارك به الجهاز القومي للتنسيق الحضاري باسم مصر في الطابق الثاني. وخشيت أن لا يمر عليه وقد بدأ جولته بالطابق الأول. ذهبت إليه معترضا طريق جولته. وإذا بي أفاجأ عندما رآني أن أخذني بالحضن مرحبا بحرارة. لا يملك المرء إلا أن يتأثر بمثل هذا اللقاء. قلت له : " ألن تزور جناح مصر ؟" فرحب فورا، واصطحبته لزيارة جناحنا فتجاوز خط السير المقرر له. فوجئت في اليوم التالي بزيارته لمعرضنا مرة أخري دون موعد مسبق. كنت وقتها في الجلسة الخاصة بعرض التجربة المصرية في حماية التراث المعماري. بعد انتهائها أخبرني زميلاي في المعرض الدكتور عباس الزعفراني ورمضان غانم بمرور الأمير وسؤاله عني فاعتذرا لوجودي في الجلسة. فأخبرهما أنه يدعونا لزيارة بيته الخاص، وأنه سيرسل مرافقا الساعة الخامسة والنصف لاصطحابنا. ذهبت مع زملائي في المؤتمر والمهندس شريف الغمراوي إلي بيت الأمير في منطقة الدرعية، وهي العاصمة القديمة للمملكة. كان البيت قصرا من الطين مسقوفا بجريد النخيل وكتل الخشب. كان قصرا قديما رممه وأعاد بناء أجزاء كبيرة منه المهندس المصري المعروف الدكتور صالح لمعي. حكي لي بعد ذلك بالتفصيل كيفية ترميمه وإعادة بنائه بما يستحق أن ينشره علنا للاستفادة منه. البيت نفسه يعتبر تجسيدا للحفاظ علي التراث المعماري الإسلامي موضوع المؤتمر. كنت قد بدأت اليوم ذاته بحضور الجلسة الصباحية وكانت مخصصة لعرض تجارب مدن تراثية إسلامية. عند دخولي للقاعة فوجئت بمرافقي منذر يتوجه بي إلي حيث يجلس الأمير في منتصف الصف الأول. فوجئت بالأمير يقف مرحبا بي ويخلي المقعد المجاور له لأجلس. علق علي كلمات المتحدثين بآراء سليمة متخصصة في العمارة والتراث. ظننته مهندسا دارسا للعمارة وبخاصة التراثية. سألته فأجابني أنه درس العلوم السياسية والطيران. كنت أعرف أنه رائد الفضاء العربي والمسلم الوحيد الذي شارك في رحلات الفضاء في المكوك الأمريكي الشهير ديسكفري. سعدت أن هناك مسئولا آخر عن التراث المعماري، غيري، ليس مهندسا. كان الأمير أصلا خصص موعدا للقاء الوفد المصري عقب الجلسة نفسها. ذهبت مع زميلتي الدكتورة سهير حواس إلي صالونه. كان ينتظره عدد من الوزراء المشاركين. طلب مني برفق الانتظار حتي ينتهي من لقاءاته. كانت لقاءات سريعة تخللها التقاط صور تذكارية. فماذا حدث في لقائنا ؟