قصصت علي الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار في المملكة العربية السعودية خبر زيارتي الأولي للرياض ولقائي بوالده أمير منطقتها . فقص علي الأمير بعضا من ذكرياته مع والده في القاهرة . وكيف أحبها من رحلاته معه إليها. من المعروف أن الأمير سلمان محب كبير لمصر ولأهلها . قال لي ابنه أنه كان يأتي مع والده منذ صغره إلي القاهرة. وتذكر وقوفه في الشرفة المطلة علي النيل مختزنا المشهد بكل تفاصيله ومؤثراته. حكي لنا عن صداقات والده بالمشاهير من الأدباء والفنانين المصريين أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب محفوظ وغيرهم ، ولقاءاته بهم التي اصطحب فيها ابنه. وعندما جلست مع السفير المصري لدي المملكة العربية السعودية محمود محمد عوف حكي لي تفاصيل أكثر يعرفها عن تاريخ محبة الأمير سلمان بن عبد العزيز لمصر والتي نقلها لكل أولاده. ذلك أنه يمكن القول أن السفير محمود عوف مخضرم في السعودية حيث عمل من قبل قنصلا عاما في الرياض، مما أتاح له معرفة جيدة بالمملكة والارتباط بصداقات عديدة مع كثير من كبار المسئولين هناك. فضلا عن تمتعه بشخصية بسيطة جذابة وصريحة، تشعر معه بعد قليل بأنك تعرفه منذ زمن. لذا فهو ناجح تماما في عمله هناك. ومن حسن الحظ أن جاء اختيار المستشار الثقافي المصري في الرياض موفقا أيضا ، وهو الصديق الأستاذ الدكتور عبد الله التطاوي الذي عرفته من قبل نائبا لرئيس جامعة القاهرة . سعدت بتعاون رجال أعمال مصريين في السعودية لتأثيث المقر الجديد للمركز الثقافي المصري في حي النموذجية بالرياض. وهو مقر لا يقارن بالمقر السابق للمركز الذي زرته قبل عشر سنوات. أعود إلي لقاء الأمير سلطان. تحدثنا عن التراث المعماري وضرورة التعاون بين الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في مصر وبين الهيئة العامة للسياحة والآثار السعودية المسئولة عن الحفاظ علي التراث العمراني هناك . كما تناولنا فكرة اتفاق تعاون بين الهيئتين لتبادل الخبرات وإقامة مشروعات مشتركة للحفاظ علي التراث المعماري في البلدين. عرضت علي الأمير سلطان القيام بزيارة للقاهرة بعد عطلة عيد الفطر القادم إن شاء الله للنظر تفصيلا في هذا التعاون. وكذلك لزيارة المشروعات التي قامت بها وزارة الثقافة للحفاظ علي الآثار الإسلامية وتعظيم الاستفادة منها ، مثلما حدث في شارع المعز لدين الله بالقاهرة التاريخية وترميم وصيانة المئات من المباني الأثرية الإسلامية في مصر. فضلا عن التعرف علي المشروعات التي قام بها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. سعد الفنان فاروق حسني وزير الثقافة بالمشاركة المصرية في مؤتمر الرياض ورحب بما اتفقت عليه مع الأمير سلطان، بل وجه له الدعوة لحضور افتتاح مشروع تطوير المتحف الإسلامي في باب الخلق، ربما كانت هذه أول دعوة يوجهها الوزير لهذه المناسبة المهمة. الواقع أنني اكتشفت خلال الأيام الثلاثة التي قضيتها في الرياض أن هناك علاقة تمت بالفعل بين الجهاز القومي للتنسيق الحضاري والتراث العمراني في السعودية. تمثلت في مشروعين: 1- مشاركة الزميلة العزيزة الأستاذة الدكتورة دليلة الكرداني عضو اللجنة النوعية العلمية للمباني والمناطق التراثية بالجهاز في مشروع ترميم المباني التراثية في قرية »رجال ألمع« السعودية والحفاظ عليها. يعتبر المشروع نموذجا في المشاركة الأهلية في مثل هذه المشروعات، حيث بادر أهالي القرية بالمشاركة في العناية بمساكنهم التقليدية. فاز هذا المشروع بجائزة خصصها الأمير سلطان للحفاظ علي التراث العمراني منذ أربع سنوات. أعجبني أن البنوك السعودية تعطي قروضا بلا فوائد وتسدد علي أجل طويل للأهالي الذين يريدون الحفاظ علي مبانيهم التراثية. 2- عمل الأستاذ الدكتور جلال عبادة مستشارا للتطوير الحضري في هيئة تطوير مكةالمكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة ومقرها مدينة جدة . جلال كان أول وكيل وزارة يعمل معي في الجهاز عند افتتاحه وحتي سفره للعمل في السعودية. قدمت للأمير هدية رمزية هي كتابان فاخران أصدرتهما وزارة الثقافة عن مشروعين من مشاريعها في مجال الآثار الإسلامية، وهما كتاب »الشارع الأعظم« عن ترميم آثار شارع المعز لدين الله وإعادة تأهيله، وكتاب آخر عن مشروع الحفاظ علي القاهرة التاريخية أو الفاطمية. فقدم لي هدية ثمينة وهي نسختان من كتابه الفاخر »سيرة في التراث العمراني«، إحداهما لوزير الثقافة الفنان فاروق حسني والأخري لي. وعلي كل نسخة إهداء رقيق بخط يده. أما الكتاب فهو كتابه بقلمه وتصويره. فمن هوايات الأمير التصوير الفوتوغرافي الذي وصل فيه إلي درجة فنية متميزة. قرأت الكتاب بعد عودتي إلي مصر. فوجدته مستعرضا علاقة الأمير بالتراث العمراني السعودي. وهو يعتبر هذه العلاقة »جزء أثير من سيرته الذاتية« علي حد قوله . أعجبني ربطه بين سيرته الذاتية وسيرة الأفكار التي »كانت في يوم مجرد أحلام، وتحولت مع الوقت إلي حقائق«. تداخلت هذه السيرة الشخصية -العامة في الوقت نفسه- مع أشخاص وأحداث تشكلت هذه الأفكار معهم. يبدو أن الأمير سلطان هو أول من فكر في القيام بعمل منظم للحفاظ علي التراث العمراني السعودي ، ومن بعد تأسيس هيئة معنية به . ترجع البداية إلي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، بعد عودة الأمير من رحلته الفضائية، عندما اقترح برنامجا وطنيا للمحافظة علي التراث العمراني من خلال تأسيس لجنة وطنية يساندها مكتب في وزارة الشئون البلدية والقروية. وجد في أثناء إعداد هذا البرنامج أن مناهج كليات العمارة في المملكة لا تدعم فكرة المحافظة علي التراث العمراني. لذا عمل علي حث كليات العمارة علي المشاركة بشكل مباشر في تبني هذه الأفكار من خلال تطوير مناهج التعليم. يبدو أن الأمير نجح في ذلك لأن المدير التنفيذي للمؤتمر الدولي الأول للتراث العمراني في الدول الإسلامية ورؤساء جلساته النوعية كانوا من أساتذة العمارة المعنيين بالتراث العمراني في المملكة. كما يبدو أن الأمير سلطان نجح في تحقيق عديد من مشروعات الحفاظ علي التراث في بلده الذي يعرفه معرفة جيدة من خلال جولاته العديدة في أرجاء المملكة. من هذه المشروعات قرية ذي عين والعذيبات. والأهم أنه نجح في تكريس التراث العمراني والمادي بشكل عام كقضية وطنية يجب أن تكون ضمن اهتمام المجتمع بأكمله . تبلور هذا النجاح في إنشاء »مؤسسة التراث« عام 1996 لتوثيق التراث ودراسته والمحافظة عليه. ثم تأسيس الهيئة العليا للسياحة عام 2001 وكان الأمير سلطان أمينا عاما لها، وأصبحت بعد ذلك هيئة عامة برئاسته. لذا فالأمير محق عندما يعتبر أن مسيرة الحفاظ علي التراث العمراني في السعودية هي جزء من سيرته الذاتية خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة. دعم الأمير اهتمامه الشخصي بالتراث بدراسات ميدانية في مدن تراثية عريقة مثل مدن الأندلس الإسبانية والقاهرة وعمان ودمشق وغيرها فضلا عن العمران السعودي، تعلم من خلالها الكثير عن التراث وكيفية الحفاظ عليه، واعتمد علي أساتذة كبار في هذا المجال علي رأسهم المصريان عبد الواحد الوكيل وصالح لمعي. وكتابه »سيرة في التراث العمراني« فضلا عن كونه نوعا من السيرة الذاتية عبر سيرة موضوعية، هو عرض مفصل لأفكاره في موضوعات التراث العمراني المتعلقة بالقيمة والأفكار والتجارب العملية والتعليم والبعد الإنساني وتأثيره، والهوية والطابع المعماري والبعد المهني المؤسسي، وأخيرا قراءة مستقبلية. يقول الأمير سلطان بن سلمان إن »كتابا مثل هذا هو جزء من قصة، ولابد أن تكون هناك فصول أخري لهذه القصة سيتم روايتها بإذن الله في كتب أخري«. لذا فنحن في انتظار تكملة القصة.