في خطوة عاقلة تعكس الرغبة في الاحتواء السياسي للأزمة الناشبة مع دول المنبع لحوض نهر النيل جاءت مبادرة مصر بدعوة الدول التسع أعضاء اتفاقية عام 9291 إلي استئناف التفاوض من أجل ايجاد حل عادل يتوافق عليه الجميع.. وبهذه المناسبة أقول انه لم يعد هناك وقت للبكاء علي اللبن المسكوب بعد الخطوة الانفرادية التي أقدمت عليها دول المنبع بتوقيعها علي وثيقة عدم الالتزام بالاتفاقات الدولية المنظمة لتوزيع حصص مياه النهر. ان هذه الدول ووفقا لما جاء في هذه الوثيقة الموقعة في العاصمة الأوغندية عنتيبي تطالب بتعديل هذه الحصص علي أساس المساواة دون مراعاة للقانون الدولي والتعداد السكاني والاحتياجات والحالة المناخية والامكانات المتوافرة للحصول علي المياه اللازمة من مصادر طبيعية أخري خاصة الأمطار. وكما هو معروف قد تم اقرار هذه الاتفاقية الخارجة علي القانون الدولي في غياب كل من مصر والسودان دولتي المصب اللتين تم استهداف حقوقهما بهذه الخطوة من جانب دول المنبع. إننا مطالبون الآن بوقفة للتفكير والتخطيط والتحرك بعد هذا الذي حدث ولا يتفق مع الاخوة الافريقية ولا مع المواثيق الدولية التي تنظم حقوق الانتفاع بمياه الأنهار العابرة لحدود الدول. علينا ان نطوي صفحة اللوم وجلد النفس التي نستحقها عن جدارة جزاء الإهمال الذي شاب سياستنا واستراتيجيتنا لسنوات طويلة تجاه دول القارة التي ننتمي إليها خاصة الأعضاء منها في حوض نهر النيل شريان الحياة للدولة المصرية منذ آلاف السنين. لابد من حملة علاقات عامة سياسية واسعة يكون هدفها الدول الموقعة علي اتفاقية عنتيبي ذاتها إلي جانب كل الدول الافريقية ودول العالم في مشارق الأرض ومغاربها وكل الهيئات والمنظمات الدولية. يجب استغلال كل امكانات علاقاتنا وصداقاتنا الدولية المتميزة التي نجحنا في إقامتها مع الكثير من دول العالم باستثناء الافريقية منها طوال سنوات طويلة. من الضروري الاستفادة من هذه التجربة بالعمل علي ان يكون تحركنا علي مستوي القارة الافريقية في المرحلة القادمة علي اعطاء مزيد من الاهتمام لتبادل المصالح والعمل علي إزالة الاحساس لدي بعض دولها بأننا لا نوليهم حقهم من التقدير والرعاية لمصالحهم. لقد حان الوقت لاستثمار ما بقي لنا من ذكري طيبة جراء الدور الذي قامت به مصر- عبدالناصر- في دعم ومساندة حركات تحرير دول افريقيا ولجوئها في ذلك الوقت لتشكيل الأجهزة المتخصصة في مجالات الشأن الافريقي. إننا نحتاج إلي مزيد من الحملات الإعلامية وفتح الأبواب أمام الإعلاميين الأفارقة لزيارة مصر علي نطاق واسع للاطلاع علي كل النواحي التي يمكن تسخيرها لخدمة العلاقات والروابط مع بلادهم. لابد لهذا التوجه الإعلامي المدروس أن يركز بشكل خاص علي دول حوض النيل من خلال تبادل الزيارات وعقد الندوات والمؤتمرات التي يتحدث فيها مفكرون ومتخصصون في هذه الدول أفارقة ومصريون. لا فائدة من وراء مثل هذه الخطوة دون ان يوضع في الاعتبار ابداء الاهتمام وتقديم الرعاية الكاملة من كل الوجوه لهؤلاء الضيوف بما في ذلك تأسيس اتحاد لاعضاء الاسرة الصحفية في دول حوض النيل. من ناحية أخري.. فإنه يجب ان يتضمن الخطاب السياسي والإعلامي المدروس الحقائق المقنعة التي توضح ان موارد نهر النيل من مياه خاصة تلك التي لا يستفاد منها تكفي احتياجات كل دول حوض النيل العظيم وتفيض. انها ووفقا لتقديرات الخبراء الموثقة تفوق ال061 مليار متر مكعب بينما لا تتجاوز استخدامات كل دول الحوض حاليا أقل من نصف هذه الموارد. اضافة إلي ان معظم هذه الدول حباها الله بموجات لا تنقطع من الامطار التي يمكن أن تسد احتياجاتها. ان تعاون وتكافل وتكامل دول حوض النيل بدعم ومساندة هيئات ومنظمات التمويل الدولي أمر مطلوب ومتاح لتنفيذ عشرات المشروعات التي تحقق الاستفادة من فاقد مياه نهر النيل بالاضافة إلي توليد الطاقة اللازمة لتحقيق التنمية التي تحتاجها شعوبها. لاجدال ان كل هذه العناصر قادرة علي احتواء هذه الخلافات حول مياه النيل والتي لا يمكن أن تكون بريئة منها بعض التدخلات السياسية الخارجية نتيجة غيابنا عن الساحة. المطلوب ومثلما فعلنا في مواجهة قضية استعادة أرض طابا أن نقوم بتشكيل مجموعة عمل علي أعلي مستوي تضم جميع الخبراء الموثوق في قدراتهم وعلمهم. مهمة هذه المجموعة هي التعامل مع ملف مشكلة مياه النيل باعتبارها قضية أمن قومي. النجاح في الوصول إلي النتائج المرجوة مرهون بمدي ما يمكن توفيره لهذه المجموعة من أدوات وامكانات غير محدودة تتفق وثقل وخطورة المسئولية الموكولة اليها. جلال دويدار [email protected]