سأل الدكتور مصطفي عبدالغني الأستاذ إحسان عبدالقدوس عن »ديمقراطية عبدالناصر«، فأجاب كاتبنا الكبير قائلاً إنه يعتقد أن عبدالناصر كانت تسيطر عليه فكرة الاحتفاظ باستمرارية الثورة وتحمله مسئولياتها المباشرة في الحكم. وتوضيحاً لهذا الاعتقاد الشخصي، أضاف إحسان عبدالقدوس قائلا، في شهادته المنشورة في كتاب»»المثقفون وثورة يوليو«: [لماذا هذا الرأي؟ لأن عبدالناصر كشاب وطني كان يؤمن بالديمقراطية، غير أنه وجد أن أي مبدأ ديمقراطي يمكن تطويعه ليحقق استمرار الثورة واستمرار قيادته(..). فعندما حدثته في أن ينشيء حزباً سياسياً، طوّر الاقتراح بالإعلان عن قيام: »هيئة التحرير«! وعندما صارحته بأن »الهيئة« غير »الحزب«، فهي »هيئة حكومية خالصة« وعلي عكس الحزب السياسي الشعبي. ولم يقتنع عبدالناصر لأنه كان يخشي أن ينحرف باسم الديمقراطية، وهو بالقطع لو مد الله في عمره كان سيحقق الديمقراطية (..). حتي رحيل عبدالناصر.. كان التصوّر العام أنه لا يوجد مجال للديمقراطية أو تعدد السلطات ليس فقط خارج إطار الثورة، إنما أيضاً خارج إطار قيادته. لقد اختلف مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة حول نفس الأمر. كانت الديمقراطية بالنسبة لجمال عبدالناصر حلماً من أحلام الصبا، لكنه لم يستطع أن يحققه. هذا ما أستطيع تأكيده من خلال اقترابي منه ومعرفتي به]. وتفسيراً لل »الثأر« الذي كان بين الثورة والمثقفين، قال »إحسان« في شهادته: [ المثقفون كانوا دائماً يطالبون بضمانات خاصة لتنظيمات ديمقراطية. ولم يكن عبدالناصر مختلفاً معهم من حيث المبدأ، لكنه لم يكن مؤمناً، ولا واثقاً، في أن أي تنظيم من تلك التنظيمات يمكن أن يستمر بالثورة، وبقيادته.. و بالتالي كان يرفض مطالب المفكرين والمثقفين]. ومن المواقف المهمة في شهادة إحسان عبدالقدوس تفسيره للرأي الغريب، والعجيب، الذي أعلنه كاتبنا الكبير في أوج مجده وشبابه مطالباً الرئيس عبدالناصر ب »تأميم« الصحافة المصرية، رغم أنه أي إحسان عبدالقدوس كان مالكاً لدار »روزاليوسف« التي أسستها والدته الفنانة الراحلة »روز اليوسف«. كانت هذه أول مرة يُسمع فيها عن »مالك« مؤسسة، أو شركة، أو عقار، أو حتي »كشك« يعرض علي الحكومة ، ويلح في عرضه يوماً بعد يوم، بتأميم ومصادرة ما يملكه! ليس هذا فقط.. بل ويبادر بتوجيه الشكر والامتنان إليها لأنها »تنازلت«، و »تطوعت«، وأمرت ب »تعيينه« موظفاً في الدار الصحفية التي كان يملكها! في نهاية عام1959 دعا إحسان في اجتماعات »الاتحاد الاشتراكي« إلي تأميم الصحافة، وذلك لسببين ذكرهما إحسان لمحاوره د. مصطفي عبدالغني. السبب الأول: أن الرقابة علي الصحف قبل تأميمها وصلت إلي حد بعيد، مما أعجز كتابها وصحفييها عن التعبير عن الآراء الحرة. وماتعرضت له كل الصحف، وكل الأقلام، حدث مثله في »روزاليوسف«. وهو ما أحزن إحسان عندما وجد نفسه لا يستطيع ممارسة حريته كاملة في كتابة ما يؤمن به من آراء وأفكار. ولم يكتف »إحسان« بالرثاء وإنما فاجأ قيادات »الاتحاد الاشتراكي« في أحد الاجتماعات قائلاً ما معناه: » مادامت الحكومة تراقب الصحافة، وتحدد من يكتب؟ ومن لا يكتب؟ فالمنطقي أن تؤول ملكية الصحافة والعاملين فيها والمنتسبين إليها إلي أملاك الدولة!«. والسبب الثاني: كان أمراً شخصياً بالنسبة لدار »روزاليوسف« ومالكها. ويكشف »إحسان« السر قائلاً: »علي عكس ما تصوّر كثيرون.. فإن روزاليوسف لم تكن كإدارة صحفية تعتمد علي رأس مال. بمعني:السيدة روزاليوسف والدتي كانت »ست بيت شاطرة«، وقادرة علي إدارة المجلة بمبلغ بسيط. أما الآن فإنه من المستحيل أن نواصل، فضلاً عن أن السيدة روزاليوسف قبل أن ترحل عن دنيانا لم تترك من رأس المال غير 750جنيها!«. ويعيدنا »إحسان« في شهادته إلي عام1952 في أعقاب قيام ثورة يوليو عندما تفاقمت الأزمة المالية ومنعت دار روزاليوسف من إحداث التطوير الذي خططه رئيس تحريرها لحاضرها ومستقبلها. يقول إحسان: »وقتها.. بادر عبدالحكيم عامر بموافقة وتأييد أنور السادات علي أن تقدم الحكومة مساعدات مالية عاجلة لدار »روزاليوسف«، فاعتذرت لهما بأني لا أقبل مساعدات، لكن الأفضل أن تشاركني الحكومة في ملكية المجلة. وسألني عبدالحكيم عن المبلغ الذي يحقق هذه المشاركة؟ فقلت: إن أكثر ما تريده روزاليوسف هو تجديد المطبعة، والتطوير الصحفي، لتتمكن من مواجهة منافسة الصحف الأخري. وأظن أن المطلوب من الحكومة المساهمة في رأس المال بمليون جنيه، أو مليونين.. علي الأكثر«. ولم تتم المشاركة لأسباب لم يذكرها »إحسان«، في حواره مع الزميل د. مصطفي عبدالغني. ومرت سنوات الخمسينيات مع الإبقاء علي الأمر علي ما هو عليه. وفي بداية الستينيات.. كتب رئيس تحرير، ومالك، »روزاليوسف« مقالاً تضمن سطرين خصصهما لمطالبة الحاكم بتأميم الصحافة (..). بعدها بأيام.. أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراره الشهير بتأميم الصحافة المصرية. ويعتقد إحسان عبدالقدوس أن كلمات السطرين في مقاله هي التي أوحت لعبدالناصر بإصدار هذا القرار، بدليل أنه أي عبدالناصر لم ينس صديقه إحسان، كما لم يتجاهل »فضل إحسان في الترويج للقرار«.. فأمر بتعيين إحسان عبدالقدوس رئيساً لمجلس الإدارة، ورئيساً لتحرير »روزاليوسف«، وكان الوحيد من بين كل أصحاب الصحف المؤممة الذي عين رئيساً لمجلس إدارتها فور تأميمها! ولم يطل الزمن بإحسان عبدالقدوس قبل أن يعترف بكم كان مخطئاً في اقتراحه، و واهماً في توقعاته لحاضر ومستقبل الصحافة. والأهم من ذلك أن »إحسان« بشجاعة ليست غريبة عنه لم يجد أدني غضاضة في الاعتراف في مناسبات عديدة، ومتتالية بخطأ ما كان يتصوره صواباً. .. وأواصل غداً.