تشهد اسواق العالم الكبري وبالتالي التجارة الخارجية الدولية متغيرات عاصفة خلال الفترة الأخيرة تشكل الصين محورا رئيسيا من محاورها الفعالة والمؤثرة ليس فقط في أسواق الدول النامية ومنها مصر ولكن ايضا علي امتداد اسواق الدول الصناعية الكبري ويعكس المتغير العاصف الوافد حقائق جديدة في التجارة العالمية تقول بعكس ما كان يقال في الماضي القريب ولا يزال يظنه البعض انه قائم في الحاضر ومستمر في المستقبل والمرتبط بالاحاديث المرسلة عن الصادرات الصينية الرخيصة. وكذلك الحال بالنسبة للصادرات الاسيوية الرخيصة المتوافرة بتراب الفلوس وبحدود دنيا من الاسعار يصعب حسابها وتقديرها بحكم الانخفاض الشديد والمغالي فيه والمبالغ فيه والذي لا يفسره التحليل الاقتصادي من قريب او من بعيد بل يجد تفسيره فقط لاغير في حديث الاغراق إلي حدود تصعب ايضا علي التحليل الاقتصادي المتعارف عليه لاستخدام الاغراق بمعني تخفيض الاسعار بأقل من التكاليف الحقيقية بغرض السيطرة علي الأسواق واخراج المنافسين سواء كانوا مصدرين دوليين او منتجين محليين. وقد تجمعت بعض جوانب المشهد الجديد للمستجدات الصنينية من احاديث متفرقة مع عدد من اقطاب صناعات وانشطة مختلفة بالسوق المحلية كان اخرها شكوي مرة وحادة اطلقها الدكتور احمد برهان الدين اسماعيل رئيس الشركة المصرية الدولية للصناعات الدوائية ايبيكو ورئيس جمعية منتجي الدواء المصرية ارتبطت بظاهرة مفاجئة علي امتداد الاشهر القليلة الماضية تضمنت توالي الارتفاع المتواصل لاسعار المواد الخام اللازمة لانتاج شريحة هامة من المضادات الحيوية واسعة الانتشار في مصر وهي الامبيسللين حتي وصل الحال أخيرا إلي ان بلغت نسبة الارتفاع في الاسعار ثلاثة اضعاف مما تسبب في تغيير جذري لهيكل تكلفة الانتاج بشركات الدواء المصرية للمضادات الحيوية التي هي الأقدم, وبالتالي الأرخص سعرا بحكم تسعيرها في فترات زمنية قديمة وهو ما يعني انها نوعية المضادات الحيوية الاكثر ملاءمة للامكانيات المادية للمستهلك المصري الفرد, وكذلك لامكانيات المستشفيات العامة والتأمين الصحي الذي يغطي بالكاد قاعدة عريضة من المرضي يعجز في الكثير من الاحيان عن تغطية الجانب الهام والاكبر من احتياجاتهم العلاجية الضرورية والاساسية. *** وتحتاج التفصيلات التي شرحها رئيس جمعية منتجي الدواء المصرية إلي وقفة للرصد والتحليل لمعانيها وأبعادها المؤثرة ليس فقط علي صناعة الدواء المصرية, ولكن ايضا علي العديد من الصناعات التي تعتمد علي الصين ودول جنوب شرق آسيا لاستيراد احتياجاتها ومتطلباتها من المعدات والآلات وقطع الغيار والمواد الخام لأن ما حدث في موضوع الامبيسللين يعكس سياسة عامة في الصين وغيرها من الدول الاسيوية لا تقتصر علي صناعة بذاتها ولكنها تمتد إلي كامل البيئة الصناعية بجميع مفرداتها ومكوناتها فهي تبدأ من خيط أولي تتحكم من خلاله المصانع الصينية من الانتاج بالسعر الأرخص والأدني الذي لايمكن منافسته حتي علي مستوي صناعات الدول الصناعية الكبري صاحبة الخدمة التاريخية في الصناعة والانتاج, وارتبطت اهم عناصر فقدان القدرة علي المنافسة بعدم تشدد الحكومة الصينية في فرض اجراءات حماية البيئة المكلفة استثماريا والمكلفة علي امتداد فترة التشغيل والنشاط وهي اجراءات تسببت في اوروبا بالذات في زيادة التكاليف الاستثمارية وزيادة تكاليف التشغيل والانتاج وبالتالي في الزيادة المستمرة والواضحة لاسعار المنتجات النهائية في كافة الدول الاوروبية ذات الخبرة والتاريخ الصناعي الممتد والطويل وتعمقت هذه التوجهات مع اتفاقيات التجارة العالمية وقيام منظمة التجارة العالمية وتشدد الدول المتقدمة في فرض المعايير البيئية والصحية علي الانتاج والواردات. وكانت النتيجة المنطقية والطبيعية للواقع الصيني وما يتيحه من ظروف انتاج صناعي اقل تكلفة في مواجهة الواقع الدولي الذي يفرض ظروف انتاج صناعي اكثر تكلفة ان تكون هناك مبادرات اوروبية علي الأخص ترحب بالاندفاع الصيني لانتاج المنتجات الملوثة للبيئة بأرخص التكاليف والاسعار بشرط التزامها بالمواصفات والمعايير القياسية, وهو ما نجحت فيه الصناعة الصينية إلي ابعد حد ومدي خلافا للأفكار الشائعة والدارجة عن المنتجات الصينية قليلة الجودة التي تباع علي الارصفة وفي المحلات الرخيصة وافرز هذا الواقع الصناعي العالمي مستجدات علي ارض الواقع تضمنت اغلاق الصناعات الاوروبية الاكثر تلويثا للبيئة والاكثر تكلفة وتوسع الصين ودول جنوب شرق آسيا في المقابل في زيادة انتاجها وبناء المزيد من المصانع حتي وصلت خلال السنوات الماضية إلي مرحلة المحتكر بكل المعاني الرديئة والسلبية للاحتكار ولكنه في هذه الحال احتكار دولة لانتاج سلعة ومجموعة من السلع وتعامل كل العالم بفرح وقبول مع المحتكر الجديد طالما انه يوفر السلعة بالسعر الأرخص والادني والاقل, وفي مثال الامبيسللين فإن الصين وصلت في الفترة الأخيرة إلي احتكار70% من الانتاج العالمي وهو وضع احتكاري يعني قدرات هائلة في التحكم والسيطرة سعريا وتسويقيا علي امتداد خريطة العالم النامي والمتقدم علي السواء. *** وقد انتقل الاحتكار الصناعي الصيني من المرحلة الحميدة التي استمرت فترة زمنية ليست بالقليلة إلي المرحلة الخبيثة التي تتيح الفرصة للتكشير عن الأنياب واستخدام المخالب لفرض السعر وفرض شروط التصدير المتشددة إلي درجة الخضوع الكامل لمستورد مع فقدان البدائل وارتبط ذلك بسياسات عامة اصدرتها الحكومة الصينية وقننتها لأخضاع الصناعة للقيود البيئية والصحية بكل ما تعنيه من تكاليف واستثمارات جديدة وايضا بما تعنيه من خروج فعلي وواقعي لجانب من المصانع القائمة من العملية الانتاجية بصورة نهائية أو بصورة مؤقتة, ويعني ذلك بالمنطق البديهي ان ارتفاع اسعار الانتاج الصيني لايمكن اعتباره ظاهرة مؤقتة او موسمية ولايمكن اعتباره ظاهرة طارئة تزول بزوال مسبباتها, بل يعكس واقعا صناعيا مستجدا في الصين يفرض نفسه علي الدولة والحكومة والمجتمع لوقف التدهور البيئي الحاد واعادة توفيق اوضاع البيئة الصناعية لبناء النهضة التكنولوجية الصناعية وفقا للمعايير الاكثر تقدما في العالم بما يحول الصين بالفعل في المستقبل القريب إلي قوة اقتصادية عالمية مكتملة العافية ومالكة لكافة الاشتراطات المؤهلة للتعامل مع اسواق العالم بكل الحرية والمرونة وخارج كافة الضغوط والاملاءات السياسية والاقتصادية من القوي الكبري والعظمي المسيطرة علي ادارة شئون العالم وتحديد مصائر دوله وشعوبه وشركاته ومصانعه ومزارعه. ومشكلة المشاكل الآن ترتبط بضرورات رفع اسعار المضادات الحيوية من فصيلة الامبيسليين تحديدا حتي لاتجد شركات الدواء المصرية خاصة في القطاع العام والاستثماري نفسها في مواجهة خيارات صعبة تبدأ بتخفيض الانتاج عن معدلاته الحالية لتقليل الخسائر وتصل مع الاحتمالات الاسوأ للمزيد من الارتفاعات السعرية للمادة الخام إلي مرحلة التوقف الكامل عن الانتاج بكل تداعياته وسلبياته الحادة علي المستهلك والمرضي والموازنة العامة ومخصصاتها المتواضعة بوزارة الصحة والتأمين الصحي وهو الأمر المرفوض اجتماعيا والمرفوض سياسيا والمرفوض اقتصاديا مما يستوجب التحريك المعقول بنسبة لاتتعدي20% وتصل في حدها الاقصي إلي25% وفقا لحسابات تكاليف اقتصادية دقيقة تأخذ في الاعتبار أن تكلفة المادة الخام لاتشكل التكلفة الاجمالية للمنتج النهائي, بل تشكل جزءا منها لايتعدي في المتوسط30% إلي40% من التكلفة الاجمالية وهي نوعية من القرارات الصعبة التي لايمكن التأخر في اتخاذها كثيرا خاصة ان كبري الشركات المنتجة للدواء في مصر يشكل انتاج المضادات الحيوية من نفس الشريحة نحو50% من انتاجها الاجمالي وتوفر نحو70% من احتياجات الاستهلاك من هذه النوعية. *** وتتعقد مشكلات الصادرات الصينية إلي السوق المصرية وتشمل العديد من المجالات منها علي سبيل المثال صناعة الاقلام الرصاص, وقد زارني بالاهرام المسئولون عن شركة مصرية لانتاج الاقلام الرصاص من نوعية خاصة صديقة للبيئة وبمواصفات خاصة جدا تصلح لاستخدام الاطفال ووجدتهم يشكون مر الشكوي من الاغراق الصيني إلي درجة ان سعر بيع الانتاج الصيني المثيل يصل إلي سدس وإلي ثمن سعر بيع الانتاج المصري في السوق الداخلية, وكانت المعلومة الغريبة والملفتة للنظر أن نفس الانتاج يتم بيعه في الاسواق الداخلية للصين بنفس سعر الانتاج المصري مما يؤكد حدوث الاغراق المتعمد ويفسره المسئولون عن المصنع المصري بأن الرغبة الصينية في عدم اغلاق المصانع باعتبارها منافذ لتوفير فرص العمل ووجود رصيد انتاج فائض يدفع إلي التصدير للخارج بأسعار هامشية ومتدنية لا ترتبط من قريب أو بعيد بالتكاليف وحساباتها واقتصاديات التشغيل ومقتضياتها وتفصيلات هذه الوقائع تستوجب تحركا جادا من المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة والدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة لوضع الكثير من النقاط فوق الحروف حماية للصناعة الوطنية للمستهلك المصري. ولكن الجانب المثير في الشكوي ارتبط باساليب التحايل التجاري والابواب الخلفية التي يلجأ اليها المصدر الصيني وهو في هذه الحالة وغيرها من حالات الاسعار المتدنية مصانع عامة وهيئات عامة للتصدير أن القرار المصري يفرض رسوم اغراق كبيرة تصل إلي نحو280% علي الاقلام الرصاص قد تحولت إلي مجرد حبر علي ورق حيث يتم دخولها للسوق المصرية بشهادات منشأ من دول خليجية وبالتالي لايطبق عليها عقوبة رسم الاغراق, بل تستفيد بالاعفاءات الجمركية المقررة وفقا لاتفاقية التجارة العربية الحرة ويمتد التحايل التجاري إلي تصدير الاقلام الرصاص كجزء من مجموعة ادوات مكتبية وبالتالي لاتخضع لعقوبة رسم الاغراق وتدخل إلي السوق المحلية بغير اعباء اضافية لتباع بالسعر الارخص والاقل. *** وبعيدا عن قضية السعر وما تتعرض له الصناعات المصرية من منافسة غير عادلة فإن الوقائع المرتبطة بالسياسات العامة الصينية وتأثيراتها المباشرة والجذرية علي البيئة الصناعية لابد وأن تتسبب في تغييرات حادة لتكاليف الانتاج الصناعي في الصين بشكل عام وشامل ولابد ان ينعكس ذلك علي تكلفة المنتج النهائي مهما تكن درجة جودته ومهما تكن مواصفاته مع ضرورة رصد ملاحظات هامة ترتبط بالانتاج الصيني وتمكنه خلال السنوات العشر الأخيرة من الدخول إلي مرحلة انتاج سلع بمواصفات جودة عالمية سواء كانت مواد خام أو سواء كانت منتجات نهائية قابلة للاستهلاك المباشر وكذلك الحال في نطاق المعدات والآلات وقطع الغيار وغيرها وأن الانتاج الصيني الذي كان يقتصر وجوده في اسواق العالم المختلفة المتقدمة والنامية علي مراكز البيع والمحلات الرخيصة والشعبية قد انتقل منذ سنوات إلي مرحلة جديدة من مراحل المنافسة مع السلع المرتفعة والغالية السعر والتي تحتكر انتاجها وتصديرها واسواقها العالمية الدول الصناعية الكبري بحكم انها تتيح الفرصة للحصول علي قيمة مضاعفة مرتفعة وارباح عالية ومثالها الملابس وقدرة الانتاج الصيني علي الوجود في البوتيكات في امريكا جنبا إلي جنب مع الماركات العالمية المشهورة وبيوت الموضة العالمية وما يعنيه ذلك من امتلاك للجودة الفائقة والمواصفات العالمية المتميزة مع القدرة علي المنافسة جنبا إلي جنب فيما يرتبط بالاذواق والموضة بكل تطوراتها ومستحدثاتها ومستجداتها الدائمة والمتدفقة. *** ما يحدث علي الساحة العالمية من متغيرات عاصفة في البيئة الصناعية في الصين ودول جنوب شرق آسيا وما يتربط خصوصا بالمتغيرات الحادة في الانتاج الهندي الرخيص والمتنامي خاصة في المواد الخام والمعدات والآلات المرتبطة بالتكنولوجيا الوسيطة الاقل تقدما يفرض علي مصر ان تعيد رسم استراتيجية تجارتها الخارجية استيرادا وتصديرا والخروج من الانماط التقليدية والمتعارف عليها للمعاملات والاعمال لتوفير جانب رئيسي من احتياجات الاستهلاك من المصادر الأرخص والاجود والترتيب للخروج المنظم من الاسواق التقليدية التي تتعدل تركيبتها واوضاعها إلي تصدير الانتاج الاجود والاغلي استغلالا لاوضاع احتكارية تكونت عبر العقدين الأخيرين من الزمن بغير رصد حقيقي ومعمق لدلالتها ومعانيها وتأثيراتها السلبية المفاجئة والصادمة؟!