أصبح مستقبل الزراعة المصرية محل اسئلة عديدة. فالمحاصيل الرئيسية الكبري كالقطن, والأرز, والقمح, والذرة, وقصب السكر صارت تباع بأسعار تقل كثيرا عن تكاليف زراعتها. لذلك صار المزارعون يهربون منها. ولا ينفع في هذا المقام أن نتحدث عن قيمة القطن في تاريخ الزراعة المصرية أو عن علاقة القمح, والذرة, والأرز بالأمن القومي.. فليس مقبولا أن يتحمل الفلاح هذا العبء وحده, دون أن يهتم به أحد, في حين أن غيره ينعمون بالأرباح الوفيرة أو علي الأقل تحسب الحكومة لغضبهم ألف حساب. (1) القضية تتلخص في تفتت ملكية الأراضي الزراعية. فالغالبية العظمي من الحيازات أصبحت صغيرة لا تزيد علي10 أفدنة. وتكاد لا تذكر تلك الحيازات التي تبلغ نحو50 فدانا أو مائة مثلا. ولذلك فإن من يتولي أمر الزراعة حاليا هم المزارعون والفلاحون الضعاف ماليا, والذين لا وزن لهم اقتصاديا أو سياسيا, وللأسف الشديد فإن النمط الحالي لسياسة تسعير المحاصيل الزراعية وغيرها من المنتجات كاللحوم والدواجن يتحيز ضدهم. فهو يميل إلي خفض أسعار القمح والأرز وقصب السكر والذرة مثلا, حتي يرضي سكان المدن. في حين أن هذا لا يعني إلا جعل الفلاحين يبيعون إنتاجهم بأقل من تكلفته الفعلية, لذا صرنا نجد أن معظم المزارعين في حالة استدانة دائمة سواء لصالح بنك الائتمان الزراعي أو لصالح المرابين المحليين. لكن لماذا هذا التحيز؟ القضية كلها هي في القدرة علي التأثير علي صناعة القرار, فأهل المدن هم عادة عمال مصانع أو أبناء الطبقة المتوسطة وهؤلاء يجدون طريقهم بسهولة إلي الإذاعة والتليفزيون والصحف, للتعبير عن شكاواهم من ارتفاع الأسعار وضيق الحال. وهكذا يجدون من يستجيب لهم. فإذا لم يجدوا استجابة لجأوا إلي نقاباتهم العمالية والمهنية, ومختلف منظمات المجتمع المدني المنتشرة بكثرة في المدن لتنظيم مظاهرات واضرابات للتعبير عن شكاواهم. (2) لماذا يزرع الفلاحون الأرض؟ من أجل الحصول علي عائد يستطيعون عن طريقه الانفاق علي حياتهم. وإذن هل يعقل أن يشتري الواحد منهم الفدان من الأرض السوداء في الوادي, بربع مليون جنيه مثلا, ثم يزرعه قمحا أو ذرة أو أرزا أو قطنا ليباع بأسعار لا تغطي تكلفة الإنتاج فضلا عن تحقيق نسبة تبرر استثمار250 ألف جنيه في شراء هذا الفدان؟ الواقع أن هذا المبلغ لو تم وضعه في البنك لحقق عائدا لا يقل عن8% بدون أن يبذل صاحبه أي مجهود من زراعة وري ومقاومة آفات وحرث وتسميد.. الخ فهل هناك فلاح في الدلتا أو في الصعيد يحقق له فدان الأرض20 ألف جنيه ربحا سنويا ليكافئ مجرد ايداع هذا المبلغ في البنك؟ قد تقول لي لكن قيمة النقود تتآكل بفعل التضخم في حين آن قيمةالأرض تتزايد ولسوف اقبل هذه الحجة, ولذلك اقول مارأيك في أن يحقق4% فقط؟ أي10 آلاف جنيه؟ هل تجد فلاحا يحقق مثل هذا العائد من الفدان من زراعة القطن والارز والقمح؟ هذا هو السبب في انصراف الناس عن الاستثمار في الزراعة.. فلو ان صاحب الربع مليون حنيه مثلا اشتري قطعة ارض مباني وتاجر فيها أواشتري شقة وباعها أو حتي مجرد إيصال لحجز شقة, لحقق أرباحا لاتزيد فقط علي هذا الرقم المتواضع4%؟ بل ستزيد عن سعر فائدة البنك ولذلك يهجر الناس في مصر بشكل متزايد العمل في الزراعة فهي بدائية, ومتخلفة وشاقة ولاتناسب من تلقي تعليما في المدرسة أو الجامعة, ثم انها لاتحقق عائدا يبرر العناء والشقاء الذي يجده من يعمل بها. (3) ليس من الاقتصاد اصلا استخدام الارض السوداء في الوادي لكي تزرع القمح والقطن والارز والقصب والذرة وغيرها من المحاصيل قليلة العائد, عالية التكلفة والواقع اننا يجب ان نبدأ في النظر بجدية في نقل زراعة هذه المحاصيل جميعا إلي الاراضي الجديدة حديثة الاستصلاح بشرط ان تقام بها شبكات للري, بالرش والري بالتنقيط. فالفدان في تلك الأراضي الجديدة لايزيد ثمنه علي50 الف جنيه بعيدا عن المضاربة علي الاسعار, ولذلك يمكن بزراعتها بمثل هذه المحاصيل, في هيئة مساحات مجمعة واسعة بآلاف الافدنة وأن تحقق العائد المرجو منها اما الاراضي القديمة في الوادي, فيجب جعلها تنتقل إلي الري بالرش والري بالتنقيط, والانتقال إلي زراعتها فواكه وخضراوات وزهورا للزينة ومنتجات عطرية هذه الزراعات هي بطبيعتها تعطي حاصلات عالية القيمة وتحقق عائدا يبرر استخدام هذه الاراضي الغالية الثمن في زراعتها فيستطيع المزارع ان يحقق دخلا يكفيه, ويكفي لسداد التكاليف والاعباء التي يتحملها فضلا عن توفير فائض مالي يجعله قادرا علي التنفس ويمكن زيادة العائد من ارض الوادي بمجرد ملاحظة ان ينضج المحصول ويصير جاهزا للبيع في أوقات تتناسب مع حالة السوق المحلية أو السوق العالمية. نريد ان نقول إن بلدا مثل هولندا تحقق المزرعة الواحدة التي تصل مساحتها إلي50 فدانا عائدا من زراعتها بالزهور والنباتات العطرية ومن تربية حيوانات البان ولحوم من سلالات ممتازة يزيد علي ما تحققه قرية بالكامل زمامها يزيد علي4 آلاف فدان في مصر فهي لاتزرع القمح والارز والقصب والذرة أو القطن.. بل تستغل الارض الخصبة النادرة في زراعات تحقق عائدا قويا, وعن طريق النقود تستطيع ان تشتري من السوق العالمية كل ما تحتاج إليه من قمح أو قطن او ارز أو سكر. *نقلا عن صحيفة الاهرام