المسافة التي قطعتها قناة البي بي سي العربية في عقل ووجدان مشاهديها خلال عامين، هي حاصل ملل هؤلاء من الآخرين وافتقادهم لوجهة نظر جديدة فيما يحدث حولهم.. الملل هنا موطنه تلك الكثافة الطاغية من أخبار القتل والتظاهرات وبرامج المواجهات والملاسنات التليفزيونية كما تقدمها الجزيرة، أو ملل من نوع آخر من برودة واغتراب مضمون العربية، ثم افتقاد النقيضين «الجزيرة والعربية» لأي حس موضوعي غير مسيس، فالبي بي سي ورثت سمعتها التاريخية كإذاعة أثرت بمهنية برامجها في عقلية أجيال من المواطنين العاديين في المنطقة العربية. لكن المسافة بين الصوت والصورة مازالت واسعة، أي بين تأثير مدرسة البي بي سي الإذاعية ومعالجتها التليفزيونية، فالانتقال لم يكن سلسا من عالم الإذاعة إلي عالم الصورة حتي في النسخة الإنجليزية لهيئة الإذاعة البريطانية، وبخاصة أن النقلة التليفزيونية غالبا ما اعتمدت علي نفس الكوادر الإذاعية القديمة، نفس طاقم المعدين، وبالتالي نفس المحتوي. كيف تأثرت البي بي سي بهويتها الإذاعية؟ ثم كيف تحاول تضييق الفارق بين عالم الصوت الشهير لها وعالم الصورة التي سبقتها فيه كل الفضائيات. مازالت صورة البي بي سي أسيرة صوت مذيعيها الموهبين، لكن حضورهم البصري يعاني خللا جوهريا، أينعم كسر التلفزيون تابو «المذيع الببغاوي»، فاختارت الإدارة أشخاصًا بعيدين عن الوسامة الباردة، فظهر مذيعون سمر البشرة، ومذيعات لسن بمواصفات ملكات الجمال علي الطراز اللبناني، لكن محاولة تحسين صورة المذيعين إلي الحد الأدني المطلوب بصريا، وأقصد هنا علي مستوي مراعاة المكياج لدرجات الضوء في الأستوديو الداخلي، الملابس المناسبة لخلفيات الأستوديو مازالت أقرب إلي محاولات قنوات الأقاليم في مصر، لذلك ينصرف كثيرون إلي معالجة التليفزيون بنفس طريقة «بروي» الإذاعة الذي لا ينقطع. علي جانب تحليل المضمون الإخباري، تحاول شاشة التليفزيون تقديم «بوكيه» إخباري منوع، يجمع المحتوي بين الأخبار السياسية المنوعية وشبيهتها في مجال التسلية ونظم المنوعات، اعتمادا علي أن العالم ينتج أخبارا مثلما تدعو للخوف تعطي الأمل، وبنفس الجدية الصارمة التي يشكل بها مذيعو البي بي سي خبر زلزال هايتي يغطون حفل الأوسكار الأخير، وتبدو محاولاتهم لتغيير النبرة من الجدية إلي القليل من الخفة أقرب إلي محاولات ممثل دراما فاقعة أن يلقي نكتة علي جمهوره في قلب المسرحية الكلاسيكية. علي صعيد المحتوي أيضا، ثمة اهتمام بالغ بما تنكره بقايا الشاشات الإقليمية إما لضرورات المواءمة السياسية مع دولة المنشأ، أو تبعا لدرجة مواءمة كل قناة للظرف السياسي وطبيعة قوي الصراع في دولة المنتج الخبري، فمثلا غطت القناة خبر وتقرير جريمة القتل المتهم فيها أحد أفراد الأسرة الحاكمة في السعودية في ظل صمت إعلامي عربي وصل حتي الجزيرة نفسها عدوة النظام السعودي، كذلك كان الحال في إعادة فتح التحقيقات في قضية أسلحة اليمامة الشهيرة والمتهم فيها أحد أمراء السعودية. علي مستوي جرأتها الاستثنائية للتوازنات في دول المصدر الإخباري، حققت البي بي سي سبقًا شهيرًا قبل سنوات بتغطية استثنائية لقضية انتفاضة المحلة، وهي التغطية التي دفعت النظام المصري للتعامل بحذر مع القناة الجديدة في ذلك الوقت والتضييق علي حركة مراسليها لاحقا. علي مستوي البرامج الحوارية الخاصة، يتقدم حسن معوض ب «في الصميم» بخطي حثيثة نحو تبؤ صدارة مشهد هذا النوع من البرامج، فحواره الأخير مع الكابتن حسن شحاتة قبل ليلة مباراة مصر وإنجلترا كان سبقًا، حيث كشف بلا مايدع مجالاً للشك أن «الكابتن» المحمول علي الأعناق يواجه لأول مرة محاورًا لا معجبًا، وعندما حاصر «معوض» شحاتة بسؤال لمن ستصوت في الانتخابات جاءت إجابته الواضحة: لما «المنتخبات» تيجي.. أنا عارف حدي صوتي لمين.. للريس مبارك.. اصله قبلن مايكون حكيم وعاقل، هو «طيب». كما ظهر مليا تواضع الوعي الثقافي الأصيل في كل المرتبطين بالشأن الرياضي وجهل معرفتهم بالوسائل التي تحول لعبتهم إلي رصيد سياسي تافه. نقلة نوعية أخري حققها تليفزيون البي بي سي، تتمثل في البرامج التواصلية، فبرنامج «نقطة حوار» الذي يتواصل مع حوارات المشاهدين عبر الرسائل النصية ونصوص الفيديو كام والاتصالات التليفونية هو الأهم علي الشاشات العربية، وذلك في اختياره الدقيق لأهم القضايا الجماهيرية في الأسبوع، وتوازنه المدهش في تقديم كل متطرفات الآراء حول القضية، وأخيرًا الحرفية العالية في الانتقال الجدلي من منطقة لأخري داخل نفس القضية المناقشة، ويسجل البرنامج تجربة إخراجية نادرة في هذا النمط، حيث تتجول الكاميرا بسلاسة في الفضاء الخلفي لاستوديوهات البي بي سي، بكاميرات منضبطة الحركة والكادر وخطط حركية «ميزانسيه» دقيقة لتجوال المراسلين في الأستوديو.. كل ذلك دون ارتباك فني غالبا ما يطبع مثل تلك المحاولات من كسر الإيحاء. يعوض قلة التقارير الخارجية وتحديث الأخبار من ساعة لأخري - وهي موطن ضعف في القناة لابد من تفاديه - ملأ الفراغات بالبرامج الوثائقية الشهيرة للبي بي سي، وهي الأكثر حرفية في العالم وذات الطبيعة الخاصة تاريخيا، وهي برامج تجمع بين الحس التربوي والتاريخي والعلمي والاستكشافي، لكن تظل القناة رغم كل ذلك أسيرة بحكم التاريخ للسمعة الإذاعية، ويبدو أن أزمة تمويلها الحكومي التي تجددت مشكلاته قبل عامين هو مايؤثر بشدة في استقدامها لمراسلين محترفين، أو تحديث الأخبار عبر شبكة مراسلين أوسع.