الحرية ليست فى أن تخلع المرأة الحجاب أو ترتديه، ولكن أن تصبح هى صاحبة القرار فى الحالتين، ورغم ذلك فليست هذه هى حكاية الفيلم التونسى «مانموتش» للمخرج نورى بوزيد، الذى يتنافس داخل المسابقة فى مهرجان أبو ظبى.. يذهب الفيلم إلى منطقة أبعد، وهى حق الإنسان ومن ثم المجتمع فى تحديد مصيره، وهو سؤال عاشته أغلب الدول العربية التى انتفضت للحصول على حريتها وكرامتها بعد ثورات الربيع. قد يراها البعض نظرة تشاؤمية ترصد ما يجرى على أرض الواقع الآن ونحن نرى قوة التيار الإسلامى ووثوبه إلى السلطة، وكأن هذه كانت هى مطالب الثوار التى رفعت شعار عيش حرية عدالة اجتماعية، ولم تقل أبدًا جمهوريات إسلامية!!
التنظيمات الدينية التى ترتكن إلى الإسلام مهما اختلفت التسميات بين دولة عربية وأخرى استغلت حالة الفراغ السياسى التى نحياها، ومع خفوت صوت المجتمع المدنى فكانت هى القوة الوحيدة المؤهلة لاقتناص السلطة، ورغم ذلك فإن المواجهة وشيكة.. قبل نحو 6 سنوات قدّم بوزيد فيلمه قبل الأخير واسمه «آخر فيلم»، كان الهاجس الذى يؤرقه هو التغير الحادث فى المجتمع التونسى الذى صار يرتكن للتزمت، والأحداث تجرى فى أثناء تصوير الفيلم، ومن يؤدى دور البطل يخشى من أداء مشهد به قبلة، ثم ينتهى به الأمر إلى تحريم الفن والتمثيل.. إنه التخوّف الذى يؤرّق المخرج قبل وبعد الثورة ودائمًا البداية هى تحجيب الإبداع.
الفن أيضًا فى «مانموتش» يحتل جزءًا رئيسيًّا فى الشريط، حيث إننا فى النهاية نرى الأوكورديون وقد ألقى به فى صندوق القمامة بعد رحيل العازف الضرير، ولكن يظل لدينا بصيص من الأمل ونرى بطلة الفيلم «عائشة»، تُمسك به وتبدأ العزف مع صديقتها «زينب» وكأنهما تتشبثان بطوق نجاة لتنتصر الحياة على مَن يريدون إطفاء المصابيح وإغلاق الشبابيك.
فى «مانموتش» نتابع فى لمحات متعاقبة طوال الأحداث غُسل لرجل ميت يؤدى دوره المخرج نورى بوزيد، حيث إنه ينتقل بين المشاهد ويعود إليه فى تتابع لعملية الغُسل حتى نصل فى اللقطة قبل الأخيرة من الفيلم إلى تشييع الجثمان.. المخرج لا يقف ضد الحجاب ولا معه، وربما لهذا نجد أن الصديقتين سهير بن عمارة وبحرام علوى، الأولى تؤدى دور «زينب» ترفض أن تضع الحجاب استجابة لخطيبها وشقيقها، وأمها التى تمارس الضغوط لتحقيق هذا الهدف، بينما الفتاة الأخرى «عائشة» التى تعمل فى محل حلويات داخل المطبخ يريدها صاحب المحل أن تصعد للطابق الأعلى لتبيع الحلويات على شرط أن تخلع الحجاب، ورغم حاجتها إلى المال، فإنها تتمسك به، لأن هذه هى قناعتها.
الفيلم يقدم تنويعات على هذا التباين داخل المجتمع، ولكنه يحمل توجهًا حادًّا ضد تعنت الرجال.. الحقيقة أن تونس بلد يحمل تناقضًا حادًّا فى طبيعته، مثلًا على المستوى الاجتماعى هناك قوانين وضعها الحبيب بورقيبة أنصفت المرأة التونسية، وزين العابدين بن على حافظ على ما بدأه بورقيبة، ورغم ذلك فإن النيران لا تزال تحت الرماد ولا يمكن أن نغفل أن التيار الإسلامى فى تونس لديه كوادره النائمة، وهناك محاولات لتحجيم وجود المرأة ونزع حريتها وتغيير حتى القوانين الاجتماعية التى تحمى حريتها بحجة أنها مخالفة للشريعة.
ورغم ضبابية المشهد ونزعة التشاؤم، فإن المخرج نورى بوزيد، حرص على أن يمنح فيلمه مسحة من الأمل، كما أن جدية الحدث لم تلغِ أبدًا حالة المتعة البصرية التى يبثها المخرج فى فيلمه لتجد أن الحياة فى نهاية الأمر تنتصر وتبتسم.
الموت الذى عبّرت عنه شخصية الرجل العجوز، كانت تحمل أيضًا فى عمقها أملًا فى التجديد والعبور إلى الشاطئ الآخر.. العجوز الذى نراه ميتًا منذ البداية يبدو لنا كأنه يولد من جديد فى النهاية مرة أخرى من خلال الفتاتين.
هل يجد الإنسان المصرى نفسه فى نفس الكادر؟ الحقيقة نعم، لأن الهم واحد والصوت المتزمت الذى تسمعه فى تونس له أصداؤه فى الوطن العربى.. الحرية التى يتمتع بها السينمائى التونسى منحت المخرج القدرة على أن يناقش تلك القضية الشائكة.
هل تملك الرقابة فى مصر أن تمنح السينمائى نفس المساحة؟! إجابتى هى أن الدولة العميقة لا قبل الثورة ولا بعدها من الممكن أن تسمح باقتحام حقل الألغام!!