الجمال في خضم النزاعات نظرة شخصية على "ما نموتش" لنوري بوزيد
العالم أجمع شاهد محمد بوعزيزي وهو يشعل النار في نفسه، لتشتعل بعدئذ الثورة التونسية على شاشات التلفزة الخاصة بنا، وفي داخل منزل كلّ واحد منا. جلسنا على مسافة مما يجري وقلوبنا تقف إلى جانب الشعب وكفاحه لنيل الحرية، وهتفنا حين خرج من ثورته تلك منتصراً. إلا أن المخرج التونسي المخضرم نوري بوزيد، في فيلمه الأخير "ما نموتش" الذي قدم عرضه العالمي الأول في الدورة الحالية من مهرجان أبوظبي السينمائي، يقدم لنا نظرة أكثر تدقيقاً في مشهد الثورة التونسية.
لا يأخذنا بوزيد إلى داخل منازل الثوار، مقدماً لنا لمحة عن حقيقة العيش في خضم النزاع فحسب، بل إنه يجبرنا بجرأة على أن نشهد على العنف الذي رافق أعمال الشغب، حيث نشعر بما كان يشعر به المواطنون التونسيون، ونعيش ما عاشوه، ونقف وجهاً لوجه أمام الوحشية التي واجهوها. كما أنه لا يتوانى عن توريطنا على المستوى الدرامي، مقدماً لنا صورة جلية لمختلف أوجه النزاع الشخصية والعائلية والدينية والسياسية.
تتمحور قصة الفيلم حول شابتين تونسيتين حسناوين مفعمتين بالأمل وحبّ الحياة. وقد أشعلت الثورة النيران الكامنة داخلهما لكي تقاتلا من أجل حريتهما وحقوقهما كنسوة، على نحو ما قاتل الشعب لنيل حريته وحقوقه. ويقدّم لنا الفيلم زينب وعائشة بوصفهما أكثر من صديقتين، فهما أشبه بالشقيقتين، تحمي واحدتهما الأخرى وتقف إلى جانبها كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فحين تشعر زينب بالخوف من السير بمفردها إلى البيت ترافقها عائشة دون تردد. بيد أن الأمور ليست على خير ما يرام في عالم هاتين الفتاتين.
ففي الوقت الذي تعاني فيه زينب من ضغط خطيبها إبراهيم وشقيقها حمزة لكي ترتدي الحجاب، فإن مدير عائشة في العمل يضغط عليها لكي تنزع الحجاب وإلا طردها من العمل. وأمام اضطرارها إلى إعالة عائلتها بعد موت والديها، ليس من السهل عليها أن تفقد عملها. هكذا، وبينما يحاول الرجال المحيطون بكل من زينب وعائشة السيطرة على حياتهما، فإنهما تسعيان إلى الترويح عن نفسهما بالأغنيات والموسيقى، وبالسخرية من أوضاعهما، كما بالهتاف تأييداً للثوار الذين خرجوا إلى الشوارع. هكذا تتبدّى روحية الفتاتين وهما تجابهان على المستوى الداخلي والخارجي لكي تحافظا على قوتهما، من دون أن تهتز قناعاتهما الرافضة لهيمنة المجتمع الذكوري عليهما والإملاءات التي يفرضها على حياتهما، بل إنهما في نهاية المطاف تغيران، ببطء وإنما بثقة، عقليات الأفراد المحيطين بهما.
أما حمزة شقيق زينب، فقد فرّ من السجن عند بدء الثورة وتحول إلى إسلامي، وتتبدى شخصيته رجلاً صلباً عنيداً مفعماً بالأحكام المسبقة، إلى درجة أن عائشة لا تعود ترى فيه الشخص الذي وقعت في غرامه سابقاً. وربما كان مشهد زيارته لها في شقتها في اللحظة التي لم يعد قادراً فيها على احتمال الفراق عنها، هو من أقوى مشاهد الفيلم بما ينطوي عليه من توتر درامي يمكن الإحساس به وهما واقفان على جانبي الباب.
شعرت وأنا أشاهد هذا الفيلم بأنه يضغط على جرح داخلي خاص بي، لاسيما أمام التغيرات الكثيرة التي شهدتها حياتي خلال العامين الماضيين والمعارك العديدة التي خضتها مع عائلتي، والنزاعات الداخلية التي عشتها فيما يخص معتقداتي وقيمي والتي جعلتني أتفاعل مع شخصيتي الفيلم على السواء. من الصعب اتخاذ القرارات المتعلقة بنمط العيش والتي يعارضها جميع من حولك. ومن الصعب القتال من أجل ما يؤمن به المرء أمام وقوف الجميع في وجهه. إلا أنني أشعر بأنني خرجت من تلك المواجهة منتصرة، تماماً كزينب وعائشة، وكشعب تونس.
نوري بوزيد في هذا الفيلم لا يخيب أملنا، إذ يخوض في قضايا حساسة وسجالية ويتمكن من إيجاد التوازن المناسب بين تصوير بشاعة العالم وجماله، ولعلّه ليس من قبل الصدفة أن يلعب المخرج نفسه دور عازف أكورديون ضرير يظهر في شتى مراحل الفيلم، ملامساً شغاف قلوبنا بأغنياته، وتاركاً إياناً ونحن أكثر توقاً للسلام في هذا العالم.