هو ليس حسين السيد أو مرسي جميل عزيز.. ولا هو صلاح جاهين أو عبدالرحمن الأبنودي.. لكنه حالة إبداعية خاصة جدا في جيلنا أيمن بهجت قمر مشكلة جيلنا الحقيقية والأسخف بين كل الأجيال، أننا لا نثق في أنفسنا، ولا نصدق أن هذا الجيل التائه المشتت بين الراغبين في التغيير فعليا - والذين يصفهم البعض بأنهم صيع وبلطجية- والقابعين بين براثن أحلام ثقافة «اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش»، مشكلتنا أننا لا نصدق أنه يمكن أن يخرج من بين أبناء جيلنا وبناته من يحملون راية صلاح جاهين، بل ويتمردون عليها -«الراية»- أيضا، ومن يثورون علي أفكار جمال عبدالناصر ويطورونها، ومن يحترمون سيد درويش وبليغ حمدي ومحمد عبدالوهاب، ويعتبرونهم «أساتذة» يمكن تجاوزهم، أو -علي أقل تقدير- منافستهم، بل ويسهل جدا التفوق عليهم، واحترام أستاذيتهم في الوقت نفسه. مشكلتنا الحقيقية أننا احترمنا رموزنا، وتجاوزنا مرحلة الاحترام إلي حد التأليه والتقديس، حتي فقدنا الرغبة في النجاح وتجاوز ما بلغه الأجداد والأباء، فمازلت أري في دعاوي العودة إلي أصولنا الفرعونية - مثلاً - مبرراً لرغبتنا في الرضا بالأمر الواقع والتفاخر بماض لم نشارك في صنعه ولم نكن جزءا منه إلا بالوراثة، صرنا -كما وصفت صديقتي نوارة نجم - كالطالب الفاشل الذي نطلب منه أن يذاكر حتي ينجح، فيقول بمنتهي البجاحة: «ما أنا ذاكرت السنة اللي فاتت.. مش مهم أذاكر السنة دي»، ثم يسقط بجدارة، ليعلن ويصرخ بمنتهي الفشل: إزاي أسقط وأنا ذاكرت السنة اللي فاتت؟! مازلت أري - رغم سخف الواقع - بين رغبات من يعشقون النظر إلي زمن الفن الجميل - الذي يطلقون عليه هذا الوصف الغريب- ومن يتجاهلون جماليات عصرنا الحالي، أن من بين جيلنا، ومن بين من هم في سني ويحلمون نفس تراثي، ويعيشون في نفس زمني، ويعانون نفس معاناتي، ويتعايشون مع تجربتي التي قد أمر فيها بأزمات وإحباطات مادية ومعنوية.. من بيننا نحن يمكن أن يخرج مبدع.. يمكن أن يخرج شاعر مهم.. عالم محترم.. مفكر عظيم.. فنان جدير بالاحترام. أيمن بهجت قمر.. ابن جيلي، الذي تربي علي أغنيات عبدالحليم وعشقها، لكنه لم يكن أبدا مشاركا في تجربتها، ولذا فقد عشقها بالتعود.. حاول التمرد عليها بمنتهي الاحترام.. خانته موهبته - أقصد الجيل - أحياناً - لكنه استمر في المحاولة. أيمن بهجت قمر نموذج لأبناء هذا الجيل.. صحيح أنه ليس مرسي جميل عزيز أو حسين السيد، ولا هو صلاح جاهين أو نزار قباني وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد رامي، لكنه حالة إبداعية خاصة جدا في جيلنا، ومن ينكر ذلك.. إما جاهل أو حاقد، فليس مطلوب منه أن يكون أي واحد من هؤلاء. استمعت إلي أغنية «ستة الصبح» للمطرب الاماراتي عذب الصوت حسين الجسمي، وتعجبت فعلا من رشاقة وخفة واختلاف كلماتها والتي تبدأ ب«بتعدي في حتة أنا قلبي بيتكسر ميت حتة.. أفضل في مكاني أنشالله لستة الصبح بافكر فيك.. تقابلني في سكة قصادي تفوت.. أبقي أنا علي تكة ومش مظبوط.. حد يقولي أعمل إيه يحكمني عليك».. ما أروع الكلمات وسلاستها و-الأهم- معايشتها لعصرنا. لقد مجدنا وعظمنا وأكدنا وصدقنا علي أن صلاح جاهين شاعر معتبر، وهذه أيضا حقيقة لا ينكرها إلا «متخلف عقليا» مع «عدم» احترامي الكامل لكل المختلفين مع موهبة صلاح جاهين، لكن أليس أيمن بهجت قمر أيضا شاعر يستحق التقدير لنقله لمشاعر هذا الجيل بمنتهي الصدق والتمكن، ألم يكن هو القائل علي لسان المطرب محمد فؤاد: «عديت علي البيت اللي كان فيه الحبايب.. راجع مليني الشوق ولهفة قلبي دايب.. أجمل صبا وناس طيبة.. هنا أجدع جيران.. هنا أصحاب زمان.. هنا حب عدي وفات عليه 10.. 15 سنة»، والتميز هنا في استخدام هذه التركيبة: 10.. 15 سنة.. كلمات ستعرف كاتبها حتي لو لم تقرأ اسمه علي غلاف الألبوم. إننا أمام شاعر دارس للدارما، ويعرف جيدا كيف يوظفها في كلمات شعرية مختصرة تنقل لنا حالة شعورية يصعب تجاهلها، إن لم يكن من الصعب نسيانها، فمازلنا نتذكر أغنية محمد فؤاد: «خدني شوقي عند بابك.. جي دايب من غيابك.. واللي شفته شيء حزين.. شفت إيدك حاضنة أيده.. شفت جوه عنيكي عيده.. شفت ناس متجمعين.. ناس تغني.. ناس تهني.. واللي رد عليكي مني.. دمعتين». أيمن بهجت قمر هو الشاعر الذي تمكن باقتدار وبموهبة متوهجة من أن يُفهم المطرب عمرو دياب أن للكلمات معني، وأن كلام الأغنيات قد يكون أهم كثيرا من الدقات والإيقاعات الصاخبة التي يرغب عمرو دياب دوما في أن تطغي علي كلمات ضعيفة لا يهتم بها المطرب كثيرا، لكن أيمن بهجت قمر، أعاد لأغنيات عمرو دياب هيبة الكلمات وجمال المعني في أغنيات مثل «أيام وبنعيشها»، و«بتخبي ليه»، و«صدقني خلاص»، و«نقول إيه»، و«وحشتيني»، و«كده عيني عينك»، و«حكاياتي» وتأمل جمال الكلمات هنا: «حكاياتي اللي أنا عشتها.. كلها تشبه بعضها». قد يجد البعض سذاجة في الكلمات، لكن من قال إن المعاني العميقة لا يمكن نقلها بكلمات بسيطة؟ ومن قال إن الكلمات البسيطة السهلة، لا تؤثر فيمن يسمعها؟ ثم إن هذا الشاعر الشاب الذي يحمل نفس مفردات هذا الجيل، يحمل أيضا خفة الظل التي يتمتع بها شباب ال« فيس بوك» وربما كان هذا سببا في أن جمل أغنياته كانت إحدي أهم الجمل التي اختارها شباب الفيس بوك للتعبير عن حالهم وعن علاقاتهم، وعلي سبيل المثال.. كانت كل الجمل في أغنية المطرب محمد حماقي أهم الجمل التي تم استخدامها علي الفيس بوك، بكل ما تحمله من خفة ظل: «الله بقي اللخبطة دي ليه.. يا اللي خاطفني يا ريت تقولي.. إيه حصلي علي كده بقي ده اللي بالملي اللي أنا عشت أحلم بيه.. بين يوم وليلة أخدتني علي مشمي وكنت راضي.. ده أحنا يا دوب بنقول يا هادي.. أمال لو فات شهر هيحصل إيه؟».. هل هناك شاب أو فتاة بدآ قصة حب دون أن يرددا تلك الكلمات لبعضهما البعض؟! ومع بساطة الكلمات وصدق المعني، صارت أغنية «باحبك وحشتيني» واحدة من أهم الأغنيات الوطنية، وأهم الأغنيات العاطفية في آن واحد بكلمات عادية جدا، لكن الذي اختارها واستخدمها هنا ليس أي شاعر، ولكنه أيمن بهجت قمر، وما أجمل هذه الجملة المحتارة التي نقلها الجسمي كأحسن ما يكون الإحساس: «بعدت وكنت هاعمل إيه.. مين اختار غربته بإيده.. ليه اتأسف علي الغيبة.. ماغبتيش لحظة وقريبة». النقطة الأهم التي تميز أيمن بهجت قمر هو نقله لمفردات الشارع والكلام العادي وبراعته في توظيفها في أغانيه، فلم نكن نتخيل أن كلمات مثل «اتخنقت».. «أطبطب وادلع».. «حاجة تكسف».. «شيل ده من ده».. «قول عليا مجنون».. «مطلعة عيني».. «جتنا سبعة وستين خيبة».. «جت بظروفها».. «فخ.. أخ».. «جزوا».. «عامل عملة».. و«الواد أبو جيل في شعره». أيمن بهجت قمر ساحر يطوع الكلمات العادية وينمقها ويصفها، ويحولها لأغنيات رشيقة تحمل معان جذابة.. مبهجة وخفيفة ومجنونة أحيانا، وتقطر شجنا وعذوبة ورقة أحيانا أخري. وكما عبر أيمن بهجت قمر عن مشاعر شباب هذا الجيل، وكان خير سفير لهم، فإن تعبيره عن أدق وأعمق مشاعر امرأة وبنت هذا الجيل، كان هو تميزه الحقيقي الذي لم يتمكن أي شاعر غنائي من منافسته فيه، وهل أجمل من أن ينقل لنا هذا الرجل مشاعر امرأة ترفض أن تبدو ضعيفة أمام من تحب فيقول: «مابحبش حد يشوف أي دموع في عينيا علشان لا أصعب عليه ولا يزعل عليا.. وأضحك وكأن الضحكة بجد.. مش محتاجة طبطبة من حد.. ما أنا لو بانكسر من جوايا مش عايزة في نظر الناس اتهد» «مابحبش أبان مغلوبة ضعيفة وصورتي في نظر الناس تتهز، ولا حد يشوفني يقول مسكينة يا عيني عليها وملهاش حظ». أتصور أن صلاح جاهين لو كان يحيا بيننا لسحب هذا الشاب من يديه وقدمه إلي الجمهور معلنا أنه موهوب ويستحق الاهتمام والتقدير، بل وكان صلاح جاهين نفسه سيعلن أن هذا الشاب أفضل من كتب الشعر في جيله، وأهم من عبر عن أبناء جيله.