ضيف حواري اليوم هو الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي الذي يقيم بالإسماعيلية بأمر من الأطباء بعيدا عن التلوث والغبار الذي ملأ القاهرة.. وبعيدا عن الصخب والضجيج الذي لازماه طيلة حياته خاصا في بداية مشواره وكفاحه هو والعديد من شعراء جيله الذين زاملوا قصة حياة مليئة بالمعارك نتجت عنها قصائد وطنية وأغان عاطفية ظلت عالقة بالأذهان إلي الآن تملء الفراغ الذي خلفه جيل من الشعراء فاقدي الهوية والموهبة.. الأبنودي الخال والشاعر والفارس في عصر الكلمة.* قلت.. في البداية أود الحديث عن تجربتك الشعرية منذ النشأة.. فاحكي لنا كيف تشكلت وما هي مراحل تطورها..؟ ** البداية كانت بالقرية.. ثم تلتها ثلاث تجارب مهمة شكلت بقية التجربة هذه التجارب الثلاث تلخص بقية حياتي في المدينة الأولي كانت تجربة السد العالي... التي قربتني من العمال في مواقع العمل وهناك اكتشفت أن التخلف الذي نراه في صفوف الفلاحين.. نحن المتسببون فيه نتيجة لعدم قدرتنا علي تحديث المجتمع ودفعه للأمام اما التجربة الثانية فهي السجن.. وهي تجربة مهمة لأنه لا يمكن لأي إنسان ان يكتشف معني الحرية وهو طليق.. ولذلك أري اذكي رجل في العالم هو الذي اخترع القفص وهذه الفكرة كانت لسجن الحيوانات في البداية ولكن حين اكتشف فائدتها طبقت علي البشر ففي الزنزانة الإنفرادية الزمن لا يتحرك فيكتشف الانسان قيمة البشر وقيمة العلاقات الإنسانية فيخرج بعدها معافي تماما.. وكتبت هذه التجربة في قصيدة سميتها الاحزان العادية.. اما الثالثة فكانت تجربة الحرب فبدون ان نعرف الحرب لن نعرف الوطن ومعني السلام لقد ذهبت بعد النكسة لأحدي قري شاطئ السويس واقمت مع الفلاحين الذين رفضوا الهجرة وعشت تجربة حرب الاستنزاف الرائعة الشريفة المظلومة.. لقد دفنا وكنا نموت اكثر من مرة وهناك كتبت عددا من الأغنيات منها يا بيوت السويس يا بيوتنا انت استشهد تحتك وتعيش انت.. وغيرها.. حيثما كانت مصر اذهب انا.. * قبل الحرب كتبت انت الاغاني الوطنية وغني عبدالحليم.. ثم كانت النكسة.. فحملوك جزءا من اثارها.. هل كان الشعر يعيش خيالات تملؤها الأحلام البعيدة عن أرض الحقيقة أم كان يحمل نظرة استشرافية بعيدة عن الواقع...؟ ** اغنياتنا الوطنية لم تصدر عبثا.. ولم نؤلفها في الغرف المكيفة.. لقد عايشناها علي ارض الواقع والحقيقة وحين قلت ابدا بلدنا ليل نهار في اغنية عدي النهار كانت هذه مشاهداتي الخاصة ولم يكن حلما أو إحساسا وانما كان رؤيا العين.. كل اغنياتي وقتها كانت اغنيات حقيقية ولكن تنقصها المعركة.. كانت تحمل صدقي وفشل المعركة لا يعني فشل اغنياتي والدليل إنها تذاع حتي الأن وصالحة لكل وقت.. * وبعدها...؟ ** كان لابد من النكسة فحين يسجن شباب وطني ملثي وجمال الغيطاني وسيد حجاب وصلاح عيسي وأخرين من خيرة مبدعي هذه الأيام يكون ثمة خطأ في فهم الوطنية في ذلك الوقت.. وللعلم لقد حققنا حريتنا داخل السجن فقد كنا نتكلم ونقول ما نريد لأن أخر جدار هو جدار السجن ونحن فيه فمما نخاف اذا. * برأيك كيف تجمد الشعور بالأغاني فلم تعد لدينا المقدرة علي سماع اغنية واحدة اكثر من مرتين بينما إلي الآن نستمع دون ملل إلي أغاني حليم وأم كلثوم ووردة وفريد الاطرش وغيرهم ممن فقدناهم وباعد الزمن بيننا؟ ** من الطبيعي في زمن الاستهلاك الشديد وزمن الاحتفاء بأغنيات لا تحمل أي مضامين عدا الشتائم التي يتبادلها المطربون والمطربات كل لحبيبه أو حبيبته ان يحدث ذلك.. كما ان ابتعاد الاغنية عن الشعر ساعد في ابتعاد المستمع ايضا عنها.. واضف إلي ذلك ان المجلات التي تحتفي بالشعر والشعراء صارت نادرة الوجود وربما شجع ايضا علي ذلك امران.. هو أن بعض الشعراء المؤسسين كفوا تماما عن كتابة الشعر.. والأمر الأخر هو استشراء ما يسمي بالحداثة التي باعدت بين القصيدة وبين متلقيها سواء كانوا قراء أو مستمعين.. ولكن مازال هناك بعض الشعراء الذين لم يفقدوا شعبيتهم بعد والذين ينتظرهم جمهورهم مع كل قصيدة جديدة. * لماذا لم يظهر إلي الأن شعراء بحجم صلاح جاهين وفؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودي..؟ ** لا يمكن عزل التجربة الحياتية والسياسية عن الحياة الاجتماعية في تكوين شخصية الشاعر إلي جانب نوع الثقافة التي اسهمت في وضوح رؤياه وعمق نظرته إلي الحياة والبشر واعتقد أن شعراء اليوم مظلمون.. فقد جاءوا بعد ان اجهضت قضايا الوطن ليجدوا الفراغ والمساومة والتغاضي واختلال القيم لذا اعتبر أن كل قصيدة من قصائدهم هي جهد خاص مدفوع الثمن اذ أن الواقع لا يلهمنا بغزارة وما علينا إلا أن نثق هذا الفيض اعتمادا علي الموهبة والموقف اما شعراء الشباب ولكل منهم نصيب من اجتهاده فانهم لم يعيشوا ذلك العالم الثري الذي عشناه وتجاربنا السابقة من حروب إلي تغيرات سياسية إلي حوار بطول وعرض المجتمع لذلك فانه حين تتحرك مصر بصورة إيجابية نحو قضاياها المهمة فسوف يتحرك شعراؤها. * في رأيك كيف نستطيع الذهاب بالقصيدة العامية المصرية إلي أرض الحداثة دون أن نخون جذورها؟ ** نحن بالفعل نغتال ومنذ زمن طويل قصيدة الشعر العامي بأرض الحداثة( لكنها حداثة وطنية) واستوردناها سهلة لنعبر بها عن واقعنا حيث لا يمكن بأي عقل أو منطق أن تتطابق حياتنا مع حياة هؤلاء الشعراء في البلاد الأوروبية والأمريكية وغيرها التي سبقتنا علي طريق التقدم مسافات ومسافات.. القصيدة العامية لم تقف عند حدود الزجل أو عند قدماء شعراء العامية وانما هي تبتدع اشكالا جديدة بصورة مضطردة وتخلق حداثتها من واقع حياتنا ومن حيث نؤمن جميعا بأن للجمهور بعض الحق في قصيدتنا إن لم يكن له كل الحق. * الأغاني العاطفية التي تغني بها مطربونا في الستينيات كان لها تذوق أخر.. إلي من ينسب هذا النجاح الذي حالفكم حين ذاك للشعراء أم المطربين أنفسهم؟ ** كنا ابناء ظروفنا التاريخية والسياسية والفكرية والستينيات كانت مرحلة تسابق المواهب وشحذ الهمم والبحث عن افضل ما تحمله عقولنا وعواطفنا.. وكانت اعيننا علي شعوبنا.. الأغنية في ذلك الوقت لم تكن بضاعة استهلاكية وانما كنا نزرع اشجارا ونؤمن بأن كل ما نزرعه سيعيش وقد كتبنا الأغنيات الوطنية والعاطفية ومعي حمدي شفيق كامل, مرسي جميل عزيز, حسين السيد, مأمون الشناوي, كامل الشناوي وبيرم التونسي والعديد من الشعراء الكبار وكانت هناك الظروف السياسية المتغيرة والمتقلبة.. ومن هنا كتبنا اغنيات جيدة سمعها الإنسان المصري قبل أن يلوث بالانفتاح الاقتصادي وبضاعته المغشوشة التي اورثتنا الأمراض.. فقد كنا والمطربون معنا نعتبر انفسنا جنودا في قضايانا التي نحملها.. فكانت تعرف اغانينا طريقها دون افتعال أو مبالغة أو دعاية وانما كانت عاطفة صادقة يحكمها وعي حقيقي. * في رأيك.. هل اقترب مسلسل حليم من حياته بشكل جيد.. وما رأيك في دراما السير الذاتية بشكل عام؟ ** هذا المسلسل هو أقرب المسلسلات لحياة عبدالحليم حافظ الحقيقية وبشكل عام لا يمكن ان يطابق العمل الفني الواقع تماما.. وفي مثل هذه الأعمال أحيانا لو حكينا حقيقة الرموز التي نحبها ربما نكرهها.. لاننا كبشر نحمل الجانبين.. الطيب وغير الطيب.. ونحن في صراعنا مع الحياة نرتكب الكثير من الأعمال التي ربما لو عرفها الناس للفظونا ولكن تبقي منا في النهاية الخطوط العامة في الحياة وابداعنا الذي انتجناه.. وهذا ما حدث ايضا في مسلسل ام كلثوم ومسلسل أسمهان. * كيف تفسر ما يتعرض له بعض الشعراء من التهديد بمصادرة أعمالهم.. وهل تري بينهم من يتجاوز حدود الإبداع من أجل الظهور والشهرة؟ ** نحن ضد المصادرة تماما.. وعلي أي مستوي سواء كانت جريدة او مجلة او كتابا او حتي فيلما سينمائيا وضد الاعتداء علي حق الفنان والأديب في التعبير عن ذاته بجميع طرائق التعبير ولكننا نحمل بعض امراضنا خاصة في تكوينتنا النفسية والأدبية ايضا وننحرف في بعض الأحيان انحرافات تضر ولا تأتي بأي اضافة للواقع الشعري او الإنساني وهذا يضعنا في موقف بالغ الغرابة والحرج.. إذا كنت ضد القصيدة وضد المصادرة فمع من اقف هل أقف مع الشاعر وأنا أدرك انه ارتكب خطأ لا مبرر له.. ام أقف مع سلطة غاشمة تعتبر المصادرة من أقرب اشكال السلوك لديها.. وبنظرة لجميع المصادرات التي تمت قبل ذلك فقد كنت ضد مصادرة اعشاب البحر لأسباب خاصة بالرواية اذ حاولت نقل الواقع بلغته وموضوعاته في جنوب افريقيا ومن المحال ان يفك احد الغاز هذه اللغة العامية الشعبية وبالتالي فإن من يطالعها ويفهمها قليلون ومثقفون ومدركون ولن تأخذهم لانحراف او لتقليد أو مثل هذه الأشياء الصغيرة لا يمكن ان يصادر من أجلها عمل. * وماذا تري في المطالبة بمصادرة ألف ليلة وليلة؟ ** القضية هنا تختلف لان هذا التراث مهم وعالمي وقد خرجنا إلي الحياة فوجدناه وهو من أوائل الأعمال التي رسمت لنا دوائر الخيال اللامحدود واسهمت في أن نصبح مبدعين ونحن ندين لها بتكويننا الشعري وأذكر انا وصديقي امل دنقل ان الف ليلة وليلة من اوائل الأشياء التي قرأناها وعندما قدمه طاهر ابو فاشا في الإذاعة كان من أهم الأعمال التي حققت جماهيرية في تاريخ الراديو.. اما عن الألفاظ الموجودة بالعمل فهي الفاظ نستخدمها في حياتنا اليومية.. فلما هذا النفاق الكاذب اعتقد ان كل هذا خلفه الرغبة في السيطرة علي العقل المصري والعودة به إلي عصور الظلام, فلا يمكن ان يحتفي اجدادنا بعمل ونأتي نحن في بداية القرن الحادي والعشرين لنقف امامه ونصادره وعن نفسي معجب جدا بالموقف الذي اتخذته وزارة الثقافة مع هذا العمل. * كيف تنظر كشاعر إلي قضية ترجمة الأدب العبري من خلال سلسلة اعرف عدوك التي بدأت في الستينيات؟ ** أحمد الله انك سألت هذا السؤال هذا اليوم الذي تم فيه اقتحام بواخر الحرية من قبل القوات الاسرائيلية.. فاسرائيل بهذا الاقتحام تفصح عن أهدافها الحقيقية وكينونتها العدوانية التي لا تضع اعتبارا لأحد ولا لأي دولة فتقتل كما قتلت وتصيب كما أصابت ولذلك فان من يعتقد أن الفكر يتيح لنا عقد علاقة مع هذا الكيان الشرير الذي لا يعرف شيئا اسمه السلام فانه يكون قد سلم نفسه تماما لعدوه.. واري لا مانع من ترجمة طبعات محددة ومحدودة نعرف من خلالها اعداءنا بصورة جيدة وان تتم هذه الترجمة من لغات اخري اي لا نتعامل معهم مباشرة. * بعد مقاطعة دامت لعشرين عاما بينك وبين عمار الشريعي واصرارك علي عدم التعاون معه ما أسباب العودة خاصة وقد جاء هذا التعاون لصالح أجيال جديدة لم تتعامل معها من قبل؟ ** عرض علي من قبل عدة مسلسلات وكنت عندما أعلم ان الملحن هو عمار الشريعي ارفض ولكن حسني صالح اصر علي عقد هذا الصلح مهما كلفه الأمر.. وقد عرف كل منا خطأه وعدنا للتعاون مرة أخري. * ألم تشعر بالقلق وانت تتعاون مع شباب جديد في أولي تجاربهم الدرامية تأليفا وإخراجا؟ ** عبد الرحيم كمال كتب الرحايا بخبرة ألف عام, فقد استطاع ان يحصر قضايا الصعيد كلها بصورة حديثة, وعميقة جدا ومختلفة عن كل ما قدم في الدراما الصعيدية هو عمل شديد العمق والحقيقة به كم عجيب من الصدق وقد كتبت اغاني المسلسل احتفاء بكتابة عبد الرحيم كمال لأنني لم أكن قد رأيت إخراج حسني صالح من قبل وبعدما رأيت ابداعه في إخراج هذا العمل, واستمتعت بألحان عمار الشريعي ادركت انني اتخذت القرار الصائب. * وماذا عن مسلسل شيخ العرب همام الذي تكتب أغانيه الآن.. هل يصل لمستوي الرحايا في التناول والكتابة؟ ** هذا سؤال بوليسي ولن اجيبك عنه اما عن الأغاني فقد انتهيت من كتابة الأغاني التي ستغني داخل العمل بعضها لحن وسجل كما يوجد بالمسلسل شخصية شاعر ربابة حتي الآن لم نتفق من سيؤدي اغانيه.. وبقي امامي المقدمة والنهاية.. وعن المطرب التي سيؤدي الأغاني قال الأبنودي.. دائما نحتاج في مثل هذه الأعمال الكبيرة لصوت المطرب علي الحجار لأنه يستطيع ان يعبر دراميا من خلال صوته القوي ووعيه بما يغني. * ابنتاك أية ونور.. من منهما تحمل صفات وحس الأبنودي؟ ** من حيث الحس الاثنتان ابنوديتان.. ومن حيث الاتجاه فابنتي الصغري نور تكتب الشعر باللغة الإنجليزية وابنتي الكبري آية تخرجت هذا العام من الجامعة الامريكية قسم إعلام وتريد استكمال دراستها بالخارج..( هم بناتي ومش بناتي).. مثلما كنت أنا ابن الشيخ الأبنودي ولست ابنه. كان هو شاعرا كبيرا وأزهريا ومنفلتا من خيمة عربية قديمة ورجل دين وأنا شاعر عامية وعكسه تماما.. وأنا لم ارغب ان أمارس عليهما ما مارسه علي الشيخ الأبنودي واعطيتهما الحرية كاملة في أن تختارا طريقهما.. فقط املك النصيحة حين أسأل.