ب100 ألف طالب وطالبة.. انطلاق امتحانات «صفوف النقل» بالإسكندرية غداً    رئيس خطة النواب: الحرب الروسية الأوكرانية والتغيرات الجيوسياسية تؤثر على الاقتصاد المصري    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية التجارة    9 صور من مشروع الغلق الآمن لمقلب السلام العمومي "أول مشروع إغلاق آمن لمقلب نفايات في مصر"    تنويه عاجل لسكان القاهرة.. هيئة المساحة تكشف التفاصيل في بيان رسمي    رئيس "خطة النواب" يستعرض تفاصيل الحساب الختامي لموازنة 2022- 2023    رئيس البورصة: إطلاق مؤشر الشريعة الإسلامية خلال الربع الثاني من 2024    «تصديري الصناعات الغذائية»: نمو صادرات القطاع بنسبة 31% بقيمة 1.6 مليار دولار في 4 شهور    تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية اللازم لإدارج بيانات الرقم القومي 1 أغسطس    «الجيل» يحذر من مغبة اقتحام مدينة رفح الفلسطينية: الأوضاع ستكون كارثية    مسؤولون إسرائيليون: إعلان حماس الموافقة على صفقة التبادل فاجئنا    مسؤول إسرائيلي: العملية في رفح ستكون محدودة    إعلام أمريكي: إدارة بايدن أجلت مبيعات الآلاف من الأسلحة الدقيقة إلى إسرائيل    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدًا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    اعتقال 125 طالبا.. الشرطة الهولندية تفض مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين بجامعة أمستردام    تغيير إمام وبديل معلول.. التشكيل المتوقع للأهلي في مواجهة الاتحاد السكندري    "كرامتي أهم".. كريم حسن شحاتة يكشف لأول مرة أسباب استقالته من البنك الأهلي    "تم عرضه".. ميدو يفجر مفاجأة بشأن رفض الزمالك التعاقد مع معلول    تين هاج: هزيمة مانشستر يونايتد مستحقة.. ونشكر الجماهير على الدعم    قطار يدهس سيدة في المنيا    نشاط رياح وفرص أمطار.. الأرصاد تعلن حالة الطقس اليوم بدرجات الحرارة    التعليم: الانتهاء من طباعة أسئلة امتحانات الترم الثاني لصفوف النقل    حفلات وشخصيات كرتونية.. سائحون يحتفلون بأعياد الربيع بمنتجعات جنوب سيناء    محافظ بني سويف يراجع مع مسؤولي التعليم الاستعداد لامتحانات نهاية العام غدا    اليوم.. بدء محاكمة المتهم بقتل «طفلة مدينة نصر» (تفاصيل)    ضبط 18 كيلوجرامًا لمخدر الحشيش بحوزة عنصر إجرامي بالإسماعيلية    ياسمين عبد العزيز تتصدر تريند "إكس" بعد حلقتها مع إسعاد يونس    إيرادات «السرب» تتجاوز 16 مليون جنيه خلال 6 أيام في دور العرض    موعد وتفاصيل عرض 18 مسرحية لطلاب جامعة القاهرة    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    غدا.. مائدة مستديرة في احتفاء الأعلى للثقافة باليوم العالمي لحرية الصحافة    أقيم الليل وأسمع الأغاني هل على ذنب؟.. أمين الفتوى يجيب    «الصحة» تحذر من أضرار تناول الفسيخ والرنجة.. ورسالة مهمة حال الشعور بأي أعراض    في اليوم العالمي للربو.. تعرف على أسبابه وكيفية علاجه وطرق الوقاية منه    إصابة 3 اشخاص في حادث تصادم سياره ملاكي وموتوسيكل بالدقهلية    «معلومات الوزراء»: توقعات بنمو الطلب العالمي على الصلب بنسبة 1.7% عام 2024    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024    لقاح سحري يقاوم 8 فيروسات تاجية خطيرة.. وإجراء التجارب السريرية بحلول 2025    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    لاعب نهضة بركان السابق: نريد تعويض خسارة لقب الكونفدرالية أمام الزمالك    إصابة الملك تشارلز بالسرطان تخيم على الذكرى الأولى لتوليه عرش بريطانيا| صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    «أنا مركزة مع عيالي أوي».. ياسمين عبدالعزيز تكشف أهم مبادئها في تربية الأبناء    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    عملت عملية عشان أخلف من العوضي| ياسمين عبد العزيز تفجر مفاجأة.. شاهد    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    شكر خاص.. حسين لبيب يوجه رسالة للاعبات الطائرة بعد حصد بطولة أفريقيا    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متى نحتفل بمئوية الشاعر محمود حسن إسماعيل؟
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 11 - 2010

عندنا فى مصر وزارة طويلة عريضة اسمها وزارة الثقافة، يتولاها وزير ما يقرب منذ ربع قرن أدام الله بقاءه اسمه فاوق حسنى، وهذه الوزارة تضم فى إهابها الواسع مؤسسات ثقافية كبرى، يديرها مثقفون وأكاديميون ونخبة، وهذه المؤسسات بالتالى تتفرع إلى لجان وشعب وقصور وما إلى ذلك، أى أن الوزارة بجلالة قدرها ذات حول وطول كبيرين، فهى تقيم المهرجانات والمؤتمرات، وترسل وفودا ثقافية إلى بلاد بعيدة لتمثيل ثقافتنا عموما، ولدينا فى هذه الوزارة لجنة للشعر يرأسها الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، وهذه اللجنة تضم شعراء كبارا أيضا مثل فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبوسنة وغيرهما، وهناك أيضا بيت للشعر يرأسه أيضا الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى، ولكن كل الهيئات والفروع واللجان لم تتذكر شاعرا كبيرا أو استثنائيا هو الشاعر محمود حسن إسماعيل، الذى ترك آثارا عميقة فى تجارب الشعراء المصريين جميعا، بل هو ظله إلى خارج مصر، فكتبت عنه الشاعرة الرائدة نازك الملائكة.. ولن أبتعد بعيدا، سأحاول الاحتماء ببعض ما كتبه كبار الشعراء عنه، وأولهم أحمد عبدالمعطى حجازى فيكتب. (لقد فتنت بشعر محمود حسن إسماعيل منذ أخذت أقرأه فى آخر الأربعينيات وأول الخمسينيات، فأدمنت قراءته حتى شكل خياله خيالى، وطبعت لغته لغتى، وبدت قصائدى الأولى وكأنها تنويعات على شعره، وأنا بذلك معتز مغتبط، أتحين فرصة تتيح لى أن ألقاه لأعبر له عن إعجابى وانتمائى لعالمه)..
وكتب أمل دنقل قصيدة فى ذكراه يقول فيها:
(واحد من جنودك يا سيدى
قطعوا يوم مؤتة منى اليدين
فاحتضنت لواءك بالمرفقين
وأحسبت لوجهك مسشتهدى!
واحد من جنودك يا أيها الشعرُ
هل يصل الصوت
...
واحد من جنودك يا أيها الشعرُ ؟
كل الأحبة يرتحلون
فترحل شيئا فشيئا عن العين ألفة هذا الوطن)
والقصيدة فى تضاعيفها واستطراداتها مليئة بالمعانى والأفكار التى تبعث تجربة الشاعر محمود حسن إسماعيل الممتدة لما يقترب من نصف قرن، منذ بداياته فى أوائل عام 1930، وحتى رحيله مغتربا فى الكويت فى أبريل عام 1977، وهناك من الشعراء الذين وصفوه فى مكانة عالية، وشبه مقدسة مثل الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفى مطر، والشاعر صلاح عبدالصبور عندما قارنه بعلى محمود طه، وذهب إليه فى جلسة، وعرض عليه شعره، وأسمعه إياه بعد تنحنح واستئذان كما كتب صلاح ولكن محمود حسن إسماعيل كان أكثر من متحفظ، وكان صلاح عبدالصبور كما كتب ما يراه شاعرا متفجرا، فيكتب: (أما فتنتى فكانت بمحمود حسن إسماعيل).. ولا أريد أن أسترسل فيما كتب عنه كبار الشعراء والنقاد، فقد حظى شاعرنا بدراسات ومتابعات ورسائل علمية / اكاديمية كثيرة، ولكن حتى الآن لم تحتف به وزارة الثقافة الاحتفاء الذى يليق به، ولم تتذكره، ولكى لا أكون مجحفا فقد أصدرت هيئة الكتاب هذا العام مجلدا يضم ثلاثة دواوين له هم: (أغانى الكوخ قاب قوسين رياح المغيب)، فى سلسلة المئويات، وكفى، دون مقدمة تذكر، ودون دراسة مصاحبة، ودون أى تعريف يخص الشاعر، وكأنها دواوين لقيطة ليس لها المتابعة النقدية اللائقة بالشاعر، هذا كل ما فعلته وزارة الثقافة مع شاعرنا الكبير.
ولد الشاعر محمود حسن إسماعيل فى 2 يوليو عام 1910 بقرية النخيلة، بمحافظة أسيوط، ويقول عن نشأته: (نشأت فى قرية صغيرة فى أعماق الصعيد اسمها (النخيلة)، ولها من اسمها نصيب فيكثر فيها النخيل والبساتين المطلة على حافة نهر النيل من الجانب الغربى، ولم أولد فى بيت علم ولم أواجه فى طفولتى مكتبة تشكل ثقافة مبكرة تعيننى على أى معرفة، وأول ما سمعت من اللغة العربية لغة القرآن، وقد حفظته فى سن التاسعة، وأول ما سمعت من الشعر الأنغام الجنائزية التى كان يتصايح لها المنشدون أمام النعوش)، ويسترسل الشاعر فى شهادته البديعة ليرصد أشكال تطوره وتأثره، فى طفولته وصباه، حتى يصل إلى القاهرة، ويدخل كلية دار العلوم، ويلتقى بحفنة من مثقفين، حيث كان يعانى من أزمة نفسية عميقة كادت تحمله على العودة إلى القرية كما يكتب صديقه عباس خضر ركب القطار لأول مرة فى حياته ونزل العاصمة فرأى عالمها الصاخب تتجسد على أرضها صور الترف ونسيان الإنسان الذى هو فى الغيط يستخرج منه لأهل القاهرة خبزهم الطرى، فى ذلك الوقت التقى بأستاذة الدكتور مهدى علام، الذى أنقذه من الضياع، واكتشف فيه موهبة غير عادية، وطاقة شعرية استثنائية، فشجعه، وقدمه إلى رفاقه فى الكلية، وهذه كانت بداية محمود حسن إسماعيل الأولى، عندما كتب رسالة فى 20 مارس 1934 إلى أستاذه، وتركها على مكتبه، ماذا تقول الرسالة: «أستاذى المحترم مهدى علام، هذه وريقات تحمل قصيدة من أدب دار العلوم المطمور الذى يشق طريقه إلى العقول فى صمت عميق أخشى أن يفنيه الضجيج من دعاة الشعر والأدب فى هذا البلد، أبعثها لكم لعلها تظفر فى عضدكم الأدبى المشهود به ظفر الزهرة الصديانة فى لهب الضحى بنسيم رفاء، فامنحوها إذا رضيتم عطفكم خمس دقائق فى زمن المدرج»، ويوقع الشاعر: محمود حسن إسماعيل ثانية فصل 4 بدار العلوم العليا، ويتلقف الأستاذ الرسالة، ويقرأ القصيدة: (الفردوس المهجور)، ويعجب بها أشد الاعجاب، ويرى أن القصيدة لا تستحق مجرد خمس دقائق من زمن المدرج، بل تستأهل وقتا خاصا بها، وكان له أن انشدها عقب المحاضرة.. يقول مطلع القصيدة:
(تفجر فى صفحتيه الجمال
ورف على جانبيه الخلود
وطوق رحيانه فى الجنان
وفى كل منضورة بالوجود
يفتش عن روضة برَّة
يضىء الظلال الرطيب الرغيد)
وبهذه الخطوة أصبح محمود حسن إسماعيل اسما معروفا، بل ومرموقا، فعند صدور الديوان بعد ذلك بشهور، جاء الأستاذ الدكتور مهدى علام، حرك الأقلام الصديقة لإجراء دراسات تطبيقية على الديوان، وأقام حلقة دراسية سماها «حفل تكريم»، وتحدث فى هذا الحفل، مهدى علام، ثم زكى مبارك، وحافظ محمود، ومحمود البشبيشى، وسيد قطب، ومحمد برهام، ومحمود رمزى نظيم، إذن كتبت للديوان وللشاعر سطور تدفعه للأمام، وتضعه فى صدارة المشهد، وهذا أعطى للشاعر ثقة كبيرة، دفعته ليذهب إلى دار صغيرة، فى ميدان السيدة زينب، وفى مدخل حارة عمره شاه، اجتمع شعراء شباب، والتفوا حول الشاعر الدكتور أحمد زكى أبوشادى، وكونوا جماعة «أبوللو» ، وذلك قبل رحيله بأيام وقال فيها:
«أبوللو.. مرحبا بك يا أبوللو فانك من عكاظ الشعر ظل» وانخرط الشاعر بكل ثقله فى الجماعة، ونستر أشعاره الأولى فى مجلتها، وأصبح من فرسانها ومنظريهما، والزائدين عنها، بل دخل معارك من أجلها، فناطح العقاد وهاجمه، ولم يخش العقاد، وما أدراك ما العقاد فى الحياة الأدبية آنذاك، وكان ذلك عندما كتب العقاد فى جريدة الجهاد مقالا هاجم فيه ديوان الشاعر إبراهيم ناجى، وكان الديوان هو (وراء الفحام) وتعامل عليه، وأنكر جوانبه الفنية، بل إن العقاد اتهم ناجى بأنه انتحل معانى بعض القصائد من الشاعر محمود سامى البارودى، فكتب محمود حسن إسماعيل مقالا فى عدد ديسمبر 1934 من مجلة أبوللو، وبعد تفنيده لاتهامات العقاد أنهى مقاله بفقرة قوية يقول فيها: (شاء العقاد أن يغض من شاعرية ناجى، فركز نفسه وشعره وسجل على الأدب عار الفساد فى نقده، وعلى الجمهور عار التعزير به! ولقد سقط مستوى النقد الأدبى فى مصر سقوطا فاحشا، هذا مثل واضح منه، فمن أراد أن يقف على شاعرية شاعر فلينحرف عن تلك الحملات المغرضة إلى حيث يسلم النقد من الدخل والفساد). هكذا ترسخ اسم محمود حسن إسماعيل عبر مجلة أبوللو، وصدر الديوان الأول «أغانى الكوخ» فى يناير عام 1935، كما هو مدون أمامى فى طبعته الأولى، لأن هناك من يقول إنه نشر فى 1934، ومن يقول إنه نشر فى 1936، وجاء الديوان قويا مصحوبا ببيان نقدى من مؤلفه، يوضح فيه منهجه الشعرى والإبداعى عموما، ويتحدث عن تجربة الديوان فيقول: (لم تكن الروح التى أوحت أغانى الكوخ فيما طالعت من شعر الطبيعة بهذا الديوان، وليدة عام أو عامين أو أكثر، ولكنها فى الحقيقة وليدة شباب كامل حضنته الطبيعة، فى ريف مصر منذ الطفولة اللاهية إلى عهد قريب تغلغلت به روحى الشابة فى جميع مظاهر الطبيعة، وأسرارها).
عمل بعد ذلك الشاعر فى الإذاعة المصرية، وظل ينشر قصائده فى جميع المجلات المرموقة بعد إغلاق أبوللو، فنشر فى الرسالة، وفى الثقافة وفى الكتاب وفى الكاتب المصرى وفى مجلة (الراديو)، وله قصائد كثيرة لم تجمع، ثم نشر ديوانه الثانى: (هكذا أغنى)، وهناك ديوان أسقطه الشاعر من حسابه تماما، وهو ديوان (الملك)، وإذ كان الديوان لم يختلف كثيرا عن القاعدة العامة فى ذلك الوقت، ففى هذه المرحلة كان الملك فاروق محبوبا لكثير من الناس، ولم يكن فساده ظهر بقوة، ثم إن قصائد محمود حسن إسماعيل لم تتوقف عند مديح الملك فقط، بل تعدت القصائد إلى الحديث عن الريف، ورسم صور البؤس، ثم هو يحرض الملك على فعل الخير فيكتب له قائلا:
(يا أيها الأمل الفتى لأمة
كادت يشيبها الشباب السادر
قُدها إلى الجوزاء، أنت شبابها
ومعين حكمتها الرفيق الزاخر
واسبح بها فوق النجوم، فطرفها
أبد الحياة بنور عرشك ناظر)
وللحقيقة فإن الشاعر أسقط هذا الديوان من حسابه، ولكن دار سعاد الصباح أعادت نشره عام 1993، ولكننى اكتشفت مفاجأة أخرى، وهى أن الشاعر له ديوان آخر مجهول تماما، ولم يتحدث عنه أحد على الإطلاق، وهو موجود فى مكتبى، وعنوانه: (بين يدى المليك)، وفيه قصائد إضافية فى المعنى ذاته، وعموما فهذه قضية لا تخص محمود حسن إسماعيل وحده، بل تخص شعراء كثيرين آخرين، فالشاعر شارك فى مناسبات وطنية عارمة، مثل تشييع جنازة الشهيد محمد عبدالحكم الجراحى، وأنشد فى 18 نوفمبر 1936 فى ذكرى الشهداء قصيدته فى تشييع الشهيد يقول فيها:
(يا وادى الموتى.. بشطك راقد
حققت له الأرواح بالصلوات
ما ضمه حدث هناك، وانما
حضنته دنيا النور فى هالات
سهرت عليه من السماء ملائك
تضفى عليه سوابغ الرحمات)
كانت العقيدة مؤثرة، وجاذبة، وحاشدة للحضور، ومؤججة لمشاعر الوطنيين، وهكذا كانت أشعار محمود حسن إسماعيل طوال حياته، وتكفى أغانيه التى شدا بها مطربون ومطربات، مثل قصيدة (أنا النيل مقبرة للغزاة أنا الشعب نارى تبيد الطغاة).. والتى غنتها الفنانة نجاح سلام، كما صدحت بقصائده سعاد محمد، وفايدة كامل، ونازك، وكوكب الشرق أم كلثوم التى غنت له قصيدة بغداد، وقصيدة الصباح الجديد ولحنها رياض السنباطى وكان مطلعها:
(رأيت خطاها على الشاطئين
صباحا ينور فى المشرقين
يبث الخلود، ويحيى الوجود
ويبنى الحياة على الضفين)
كان شعره دوما يبث روحا وطنية عارمة، يشعر المرء بعد تلقيه لها بامتلائه، وكان عندما يغنى للعروبة تميد معه ثوابت الوجدان، فيشكل الروح كما يريد، فدواوينه (لابد) و(نار وأصفاد) و(هدير البرزخ) وغيرها من دواوين تشهد له بهذه العبقرية الفريدة فى الإبداع المصرى،إنه كان رسول الشرق الشعرى، الذى به يصاغ الوجدان، وعبره تتشكل الأرواح.
وكما دخل الشاعر معارك مع العقاد وغيره، أريد أن أكشف النقاب عن معركة أخرى بينه وبين شعراء الأغنية عندما كان يرأس لجنة نصوص الأغانى بالإذاعة المصرية فى الخمسينيات، كان محمود حسن إسماعيل متشددا لدرجة أزعجت الشعراء وكاتبى الأغانى، فكان يتحفظ كثيرا، وكان يريد أن ينقذ دولة الأغانى من التسيب والانحلال كما كان يصرح بذلك، ولكن الشعراء ضجوا، فكتب الشاعر مرسى جميل عزيز مقالا ناريا فى مجلة صباح الخير فى العدد 18 بتاريخ 10 مايو 1956، وكان عنوان المقال: (مطلوب بوليس النجدة لانقاذ الأغانى من هذا الرجل).. وكتب مرسى جميل المقال بطريقة حادة وساخرة فى آن واحد.. يقول: (هناك جناية، فعلا.. هناك السيد محمود حسن إسماعيل وبطانته فى لجنة النصوص مهمتها تقطيع أوصال الفن الغنائى وحرق أعصاب المؤلفين المساكين، وقتل ثقتهم بأنفسهم.. لجنة تحيى وتميت وتعدل وتبدل فى الأغانى كما يطيب لها الهوى، وتصدر أحكاما كأحكام الآلهة لا رجعة فيها ولا تفاهم).. وبعد استقصاء وإيضاح الكثير من دعاوى مرسى جميل عزيز، هذه الدعاوى بالطبع التى يختلف عليها، ولكن تناقض الأذواق فى النهاية هو الذى يولد تلك الخلافات، فى نهاية المقال.. يناشد جميل وزارة الإرشاد، ومصلحة الفنون ومدير الإذاعة.. ويقول لهم: (النجدة.. النجدة.. انقذوا الفن الغنائى من مكارثية محمود حسن إسماعيل ولجانه).. بل ينهى مقاله بعبارة قاسية جدا، فيكتب: (أما أنا فأقولها صريحة: إننى أكره هذا الرجل.. أكرهه لأنى أحب فن الغناء).. ولم تنته المعركة عند ذلك، بل جاء فى العدد 20 بتاريخ 24 مايو 1956 فى نفس المجلة ببيان تضامنى مع مرسى جميل عزيز.. جاء فيه: (نحن إزاء هذا الحق الذى كفله لنا القانون وازاء التعديل والتحوير بل التشويه الذى يتكرر من الأستاذ محمود حسن إسماعيل، والذى يقع كل يوم على أغانينا لا يسعنا بعد اليوم إلا نضم صوتنا إلى صوت زميلنا الأستاذ مرسى جميل عزيز).. وكان من بين الموقعين فتحى قورة وإمام الصفطاوى، وحسن عبدالوهاب، وكمال منصور، وصلاح عبدالصبور الذى كان يكتب الأغانى فى ذلك الوقت.
وبالطبع هذه معركة توضح الصرامة التى كان يتسم بها الشاعر، وربما نكون فى صالحه أكثر مما نكون ضده، فهو بالفعل قد منع الكثير من الأغانى الهابطة، وليتنا الآن يكون بيننا محمود حسن إسماعيل آخر ليمنع ويوقف سيل الأغانى المنحطة والمسفه والتى مزقت وجدان الناس.. وأفسدت أذواقهم.
أريد فى النهاية أن أنوه على أن الشاعر كتب قصصا قصيرة، فله (صلاة زائفة)! و(من شعاع الحياة (قلب)، ودرس قاس! وعلى رنة الدينار، ودموع الندامة، وصفحة من حياة عاشق (الدماء الذكية).. وقد نشر هذه القصص فى مجلة النهضة الفكرية فى أوائل الثلاثينيات.
محمود حسن إسماعيل بحر زاخر، غنى وأنشد فى جميع المراحل الوطنية، أنشد من قلبه بروح صافية، وفنانة، وعبقرية، وجسد صورا فذة قادرة على انتشال هذا الوجدان المصرى من الغرق، لماذا تبخسون حق الرجل، إننى هنا لا أناشد ولا أرجوكم، ولا أتمنى عليكم، بل أطالبكم أيها السادة الأفاضل والأحامد والأشاوس والقادة فى وزارة الثقافة، والتى أموالها هى من ضرائب الشعب، أعيدوا للرجل اعتباره، وأقيموا له احتفالا يليق به، ويليق بنا، ويليق بحركتنا الشعرية المصرية، استقيموا بعد اعوجاج طويل، يرحمكم الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.