عندما يُعرض فيلم لمخرج حصد من قبل سَعْفة «كان» تزداد التوقعات، بل أحيانا يتجاوز خيال الناس إمكانيات المخرج ويلعب الترقب دائما دورا سلبيا، لأننا فى العادة ننتظر ما هو أبعد وأعمق وأروع، وبالصدفة كان موعدنا أول من أمس، مع اثنين من حمَلة سَعْفة «كان» المخرج النمساوى ميشيل هانكا وفيلمه «حب»، حصل المخرج على سعفة المهرجان بفيلمه «الشريط الأبيض» 2009، وبعدها بأقل من 12 ساعة المخرج الإيرانى عباس كيروستامى وفيلمه «مثل من يقع فى الحب» حصل على السعفة عن فيلمه «طعم الكرز» 1997. والفيلمان يجمعهما الحب إلا أن الحقيقة بقدر ما كان ميشيل هانكا قادرا على أن يتوازى مع التوقعات بقدر ما خابت الظنون هذه المرة مع كيروستامى.
الفيلم الإيرانى يستحق فى كل الأحوال أن نتناوله بشىء من التفاصيل فى مقال قادم، نقترب أكثر من فكر كيروستامى عندما يغادر الحدود ويقدم فيلما خارج الشروط الشكلية للسينما الإيرانية مثلما قدم قبل عامين فيلمه «نسخة مصدقة» لنكتشف أن الاختلاف فقط هو أن النساء لا يرتدين الحجاب إلا أن الفيلم به كل ملامح كيروستامى.. ولكن دعونا الآن نستكمل نشوتنا بفيلم «حب» إنتاج ألمانى فرنسى نمساوى مشترك.
نحن أمام زوجين تجاوزا الثمانين يعيشان فى حالة امتزاج يجمعهما حب الموسيقى، فلقد كانا أستاذين لتلك المادة قبل الإحالة إلى المعاش.
الفيلم يبدأ برجال الشرطة يقتحمون منزلا ويضعون كمامات على وجوههم دلالة على مضى بضعة أيام على وقوع الجريمة ونكتشف جثة امرأة ملقاة على السرير وحولها الزهور.
اللقطة الثانية فى المسرح، حيث كان الزوجان الحبيبان يحضران حفلا موسيقيا، ونعود بعد ذلك إلى الموقع الرئيسى للأحداث والكاميرا لا تغادر البيت، نظل داخل هذا المكان الضيق والكلاسيكى فى ملامحه نتابع تلك العلاقة بين الحبيبين. السيناريو كتبه المخرج ليس على الطريقة البوليسية من أجل التشويق وزرع تساؤل عمّن الجانى؟ ولكن تلك الجريمة برهافة إحساس المخرج وقدرته على بناء السيناريو لم نتذكرها إلا مع ارتكاب البطل لحادثة القتل لتستحوذ علينا الحكاية العاطفية بكل تفاصيلها وتداعياتها!
الإحساس العاطفى بين الزوجين العجوزين لم يتوقف، يتناولان الإفطار ونلحظ أن المرأة غابت لحظات عن الوعى وعندما تسترده تكتشف أنها عادت للمنزل بكرسى متحرك ويصبح على الزوج أن يتولى رعايتها.. تتدهور الحالة وتفقد قدرتها على الحركة وتفقد أيضا ذاكرتها ويقدم المخرج مشهدا عميق الدلالة للزوج، وهو يخشى من فقدان الذاكرة فيبدأ فى تدوين حياته وحياتها على الورق وتزداد الزوجة تعثرا فى النطق ويلمح الزوج رغبتها فى الموت يضع الوسادة على رأسها حتى ينهى حياتها.
الفيلم لا ينتهى هنا ولكن نعيش الحلم مع الزوج عندما يرى فى منامه زوجته فى المطبخ وهما فى طريقهما لمغادرة المنزل، وكأن المخرج يريد أن يحقق للمتفرج نهاية سعيدة لم تحدث على الشريط السينمائى.
الكاميرا لم تغادر المنزل إلا فى مشاهد نادرة، واحد فى المسرح وآخر أمام باب الشقة، ولكن يظل المنزل هو البطل المسيطر على الإحساس العام.. الكاميرا غادرت فقط المكان شكليا عندما انتقلت على الحائط لنرى اللوحات التشكيلية، وكأنها تفتح أمام أعيننا مجالات للرؤية، ولكن يظل المنزل على ضيقه الموضوعى قادرا على أن يمنحنا مساحات رحبة من التأمل.
المكان هو بالتأكيد أحد عوامل تفرد السينما، بل إنها تلعب دائما بهذا السلاح الذى تمنحه لها الكاميرا ورغم ذلك نشهد فى العالم تجارب نادرة لأفلام تقيدت بالمكان وانطلقت إلى ما هو أبعد مثل فيلم للمخرج البريطانى سيدنى لوميت «اثنى عشر رجلا غاضبا» الحائز على الأوسكار قبل نحو 60 عاما، جرت أغلب أحداثه فى غرفة المحلفين فى أثناء نظر القضية أمام المحكمة.. كما أن المخرج صلاح أبو سيف قدم فيلم «بين السماء والأرض» وأحداثه داخل المصعد.. الضرورة الدرامية هى التى تحدد الرؤية فى النهاية، ولكن على المخرج أن ينطلق بخيال الجمهور وأن يزيد من جرعات التأمل ليشعر المتفرج أنه بقدر ما أحكم القيد على المكان بقدر ما شعر برحابة الفكر الذى يحمله العمل الفنى.
العمل الفنى الرائع من حقه أن يتطلع إلى جائزة الفيلم بدأ بجثة وانتهى بجريمة، ولكن ما تبقى فى وجداننا هو حالة حب أفضت إلى قتل.
لمن السَّعْفة الذهبية؟ حتى كتابة هذه السطور أقول لكم إنها لفيلم ميشيل هانكا «حب» وحتى إشعار آخر، أقصد حتى فيلم رائع آخر!