يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) صدق الله العظيم – مريم 93 – 95. فى هذه الآيات الكريمة يقرر القرآن الكريم الحقيقة الكونية الإلهية العظمى ؛ أن كل من فى السموات وكل من فى الأرض عبد لله ، شاء منهم من شاء ، وأبى من أبى ، وهو سبحانه وتعالى قد أحصاهم وخبر أحوالهم وقرر مصائرهم من قبل أن يخلقهم ، ويوم القيامة سيأتى كل منهم ليقف أمام الرحمن فردا. تتحدث هذه الآيات الكريمة عن خلق الله فى السموات والأرض ، وخلق السموات بالطبع أكثر كثيرا من خلق الأرض ، فالله تبارك وتعالى قال: ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ) – الشورى 29 ، وهو قادر على أن يخلق ما يشاء من صور الوجود ، فهو الخالق البارئ المصور ، وقد خلق كل ما على الأرض من مادتها ؛ التراب ؛ وله تبارك وتعالى القدرة المطلقة على خلق أى شئ بأن يقول له: كن فيكون ، ( وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) – النحل 8 ، ومن طبائع الأشياء أن يكون المخلوق عبدا لخالقه الذى أوجده من العدم. ولا يظن إنسان أنه قد يكون - كعبد له - بعيدا عن عين الله ، فالله يرى كل ما يعمل ، ويسمع كل ما يقول ، ولقد سخر سبحانه وتعالى ملائكته ليكتبوا ويسجلوا ما يعمل بنو الإنسان لكلٍ فى كتابه ، لا لكى يعلم الله ما عمل خلقه ؛ فهو عالم الغيب والشهادة ، ولكن ليتلقى الإنسان الفرد كتابه يوم القيامة ، وليكون كل إنسان شاهدا على نفسه ، ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) – الإسراء 13 و 14، كتابه الذى كتبه الملك الذى وكل به ؛ سُطر فيه كل ما عمل ؛ صغيرا أو كبيرا ، تذكره أم نسيه ، المهم فى هذا الموقف الرهيب كله أن الإنسان سيقف فيه فردا. والفردية فى الحساب يوم القيامة هى من نعم الله تبارك وتعالى على الإنسان ، فالفرد لا يتحمل وزر ما عمله غيره، وهو مسئول عما فعله هو فقط، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) - المدثر 38 ، وذلك برغم أن حياة الإنسان لا يتأتى أن يعيشها فردا ، بل إنه يقضى حياته منذ ولادته في التعامل مع غيره ، أى إنه فى حياته ليس فردا ، ولكنه يأتى يوم القيامة ليحاسب فردا على ما قدمه فى حياته مع الجماعة ، والجماعة قد تكون أسرته ؛ والداه وإخوته وأولو القربى ، ثم تتسع دائرة التعامل لتشمل المحيطين به ومن يتعامل معهم فى قريته ومدينته وبلده والعالم كله من الناس ، والأمم الأخرى التى خلقها الله تبارك وتعالى. وكل تكاليف الدين بلا استثناء تحوى داخلها تعاملاً مع الآخرين ، فصلاة الإنسان إن لم تنهه عن الفحشاء والمنكر مع من عداه ومع نفسه ؛ فلا صلاة له ، أى إن الله تبارك وتعالى لا يقبلها ، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) – العنكبوت 45 ، والزكاة هى حق غير القادرين فى ما يملك القادرون من مال ومتاع ، فهى إذن علاقة وثيقة بين الفرد ومجتمعه ، وعن صيام رمضان ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إنى صائم إنى صائم ) ، وورد فى الأثر أنه رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، فهو لا يحسب له صومه إلا أن يعامل الناس بخلق حسن ؛ فلا يعتدى ولا يرفث ولا يفسق ولا يسب ولا يلعن ، تماما مثل ما طُلب ممن يقوم بشعائر الحج. وكذلك كل تكاليف الدين ؛ عبادات أو معاملات ؛ فى البيع والشراء ، فى الزواج والطلاق ، فى العمل والسمر ، فى الوصايا والميراث ، فى الحرب والسلم ، تفاعل مستمر بين الفرد والجماعة ، ليمر العمر سنينا معدودة ، يُفضى الإنسان بعدها إلى بارئه فردا ، فيحاسبه الله تبارك وتعالى على ما عمله وما قدمت يداه. ومما لا شك فيه أن كون الإنسان فى الدنيا ذكرا أو أنثى ؛ هو من أدوات الاختبار التى مُنحها ، فلا يد لأحد فى اختيار جنسه حين يولد ، وحين كلف الله تبارك وتعالى بنى الإنسان بالعمل الصالح ؛ كلف كلا من الذكر والأنثى على حد سواء ، فلا فرق بينهما فى التكليف ، ومن ثم لا فرق بينهما فى معايير الحساب ، فكلهم آتيه يوم القيامة فردا ، بلا جنس ، وبلا تميز ، حين تنزع من الإنسان صفته الجنسية الدنيوية ليصبح فردا لا جنس له ، فيحاسبه الله تبارك وتعالى على عمله ، ويؤمر به إما إلى الجنة وإما إلى النار. وقد حفل القرآن الكريم بالآيات التى تصف أحوال الآخرة ، ونلاحظ فى هذه الآيات الكريمة أن الله تبارك وتعالى لم يفرق بين الناس يوم القيامة تبعا لكونهم ذكورا أو إناثا ، بل إن المصير النهائى لكل إنسان ؛ ذكرا كان أم أنثى ؛ يحدده عمله ، ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) – غافر 40 ، فمعيار الحساب يوم القيامة هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، بغض النظر عن الجنس. فإذا تساءلت بعض النساء عما أعد الله تبارك وتعالى للمؤمنات منهن مقارنة بما أعد للرجال ؛ فإن الرد عليهن يجب أن يكون من هذا المنطلق ؛ أن الجنس صفة إنسانية دنيوية ، والإنسان تنزع عنه يوم القيامة كل صفات بشريته وإنسانيته ، فيصبح فردا ، ينتظره حسن الجزاء أو سوء المصير ، فهو فى الجنة فرد ؛ لا ذكر ولا أنثى ؛ ينعم بحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، ويستمتع بأنهار اللبن والخمر ، وينال كل ما يشتهى من المتع الأبدية ، وإن كان من أهل النار ؛ والعياذ بالله ؛ فهو فرد ؛ لا ذكر ولا أنثى ؛ يأكل من شجر الزقوم الذى ينبت فى أصل الجحيم ، ويصب على رأسه عذاب الحميم من كل لون ، وكلا الفردين يبقى على حاله إلى الأبد ولا موت .وصدق الله العظيم: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) - الزلزلة 7 و 8.