منذ عامين تقريبا كنت تدخل إلى أي من المكتبات فتجد في الرفوف الأولى كُتبا تندرج تحت مسمَّى "الأدب الساخر"؛ حيث أصبحت متربّعة على عرش الكتب الأكثر مبيعا، ومحببة لدى المقبلين على سوق الكتاب، يقتطفون منها، ويسعون إلى اقتنائها، وباتت ظاهرة محيّرة، لا سيما أنها برزت فجأة، وبأسلوب مغاير عن الكتابة الساخرة المألوفة لنا، والمعروف أساتذتها؛ كأحمد رجب ومحمد عفيفي وأحمد بهجت. ثم أخذ البعض يُدرج أسماء كجلال عامر وبلال فضل وعمر طاهر تحت مسمّى ذلك النوع الأدبي، وكأنّ القراء يطوعون هؤلاء الكُتاب حسب أهوائهم.. وأذكر أن في حديث لي مع هؤلاء الثلاثة بالتحديد، كانوا يرفضون تماما مسمّى "الكاتب الساخر"، لأنّه الكاتب لا يُصنَّف. وتبقى للمسمّيات والتصنيفات ولع عند الشعب المصري بشكل عام؛ فأي شخص يتحدّث إعلاميا لا بد أن يعرف المتلقّي انتماءه وهواه، قبل أن يسمع حديثه، فإن كان في تيار لا يشابهه نفر من الحديث، وإن كان متفّقا معه قبله وطرب لما يقول، لكن في النهاية اصطلحت تسمية "الكتابة الساخرة" على الأدب الطيار الذي يُضحك الناس؛ سواء بالتعليق على حدث معيّن، أو تناول قضية ما بطريقة فكاهية؛ فالشعب المصري "ابن نكتة"، ويحبّ الضحك والسخرية من أي موقف مهما كان هذا الموقف شديد الظلامية. وظهرت أسماء شابة جديدة تبرع في هذا المضمار، ورأينا كتبا كثيرة ذات عناوين صادمة يُبتغى منها الضحك؛ مثل "أمّك اسمها حنفي" و"حمرا"، لكن الجدير بالملاحظة أن قارئ هذه الأعمال لم يكُن يقرأ كثيرا، لكنّه يريد شيئا ما ليُضحكه، بعيدا عن أي تعقيد، في غمار ما كان يعيشه من بؤس وشقاء. ثم جاءت الثورة وغيّرت كثيرا بهذا الأمر، وأصبح فيس بوك وتويتر ويوتيوب بديلا عن الكتب الساخرة وكُتّاب الأعمدة الساخرة في الصحف المختلفة، وانقلب الأمر حتى صارت الصحف هي من تنقل من أناس عاديين في مواقع التواصل الاجتماعي، وتضع ما يكتبون في صحفهم في أعمدة خاصة مثل "فيس وملح" في جريدة التحرير مثلا، أو مقالات وتغطيات خاصة في شتى الجرائد المصرية للشعب الفيسبوكي، ورأيه فيما يستحدث من قضايا، وبات الحدث ردّة فعله و"الإفيهات" المختصة به، مترقّبة في صورة "status"، أو “page”. وأرى أن ذلك التحوّل قد بدأ منذ خطاب التنحّي تحديدا، حينما أُنشئت صفحة "الراجل اللي ورا عمر سليمان"، وصار ذلك الرجل غير المعروف عبر صفحة "فيسبوكية"، هو أشهر رجل في مصر على الإطلاق، واحتلّت صورته كل وسائل الأنباء العربية والعالمية، لمجرّد أن أحدهم عبر موقع التواصل الاجتماعي قد لفت نظره أن يسخر من رجل يقف بهيئة مثيرة للسخرية من خلف عمر سليمان أثناء إلقائه الخطاب الأهم في العقود الأخيرة. وينطبق الأمر بصورة أخرى على "الراجل أبو جلابية" الذي هبط في مباراة الزمالك والإفريقي التونسي مع المئات، بعد اقتحام الجماهير لملعب المباراة.. كل وسائل الإعلام وقتذاك نظرت للفعل، لكن جمهور مواقع التواصل رأى الحادثة من منظور ساخر تماما، وصنع أحدهم page لهذا الرجل، وبات معروفا، واستضافته وسائل الإعلام ليصبح هو حديث الساعة بدلا من الحادث الأساسي. وحين بدأ شباب السلفيين الاجتماع عبر الإنترنت للسخرية من بعض الأوضاع المشينة، وشيّدوا صفحة تخصّهم تحت اسم "سلفيو كوستا"، تحوّل الأمر لصورة جدية ليكونوا أشبه بحزب غير معلن، يعبّر عن كتلة وتوجّه إسلامي لا يُستهان به. وفي موقع تويتر، نجد الأمر أكثر تحديدا؛ ففي هذا الموقع يلتزم الشخص ب140 حرفا كحدّ أقصى في كل تغريدة يكتبها، لذا تجد نوع السخرية مكثّفا وموجزا، ويحمل طابع "القفشة" التي تُطلق عابرا، ونجد أن البعض قد أنشأ حسابات خاصة من أجل السخرية فقط؛ كالذي يمتلك حسابا باسم "باراك حسين أوباما"، ليقوم بالاستهزاء من الرئيس الأمريكي، ويتخيّل رؤيته للأحداث التي تجرى بطريقة ساخرة، وانتشر هذا "الأكونت" عبر الإنترنت، وانتقل ذلك لوسائل الإعلام بصفة عامة. وعلى هذه الشاكلة نجد حسابات شخصيات عامة على غرار يحيى الجمل وسوزان مبارك وتوفيق عكاشة، وكلها حسابات تتقمّص هذه الشخصيات وتكتب على لسانهم، ولكن في الطبيعة لا يعرفهم أحد؛ فهم متوارون أمام شاشات من أماكن مغايرة، لكن الحس الساخر هو محرّكهم الذي يجمع حولهم مئات الألوف؛ سواء في صورة followers في تويتر، أو friends عبر فيس بوك، والاثنان يقومان بدورهما في share الذي يُؤدّي إلى نشر ما يُكتب بصورة مذهلة. وفي فيس بوك كذلك نقابل بعض الحسابات التي تختصّ فقط بالسخرية وإطلاق النكات على كل حدث مهما كان؛ مثل "سامح سمير" الذي يترقّب مستخدمو فيس بوك تعليقاته على أي حدث بفارغ الصبر، فقد تربّع على عرش السخرية باقتدار، لا سيما أنّه لا يتأثر برأيه الخاص في تعليقاته، وهذه هي السمة الأبرز في كل من يصطلح على تسميتهم ب"ساخري المواقع الاجتماعية"، أن انتماءهم السياسي لا يحوّل دفة استهزائهم. أمّا يوتيوب ذلك الأرشيف الناري للفيديوهات؛ فقد أنتج لنا أحد أهم مكاسب الثورة حتى الآن، ألا وهو الإعلامي الساخر باسم يوسف؛ حيث إن يوسف بدأ عقب الثورة من أجل السخرية من الإعلام المصري وتغطيته للأحداث، فلم يجد خيرا من الإنترنت وسيلة تقوم بهذا الدور، فأنشأ قناة عبر يوتيوب، فانطلق الناس في عمل share لكل حلقة جديدة يصورّها، حتى امتلك متابعون عبر الشبكة العنكبوتية يقدرون بالملايين، فتهاتفت عليه وسائل الإعلام. وأصبحت السخرية عبر الإنترنت هي الوسيلة الأولى للانتشار والوصول إلى كل منزل، وذاع صيت عدّة قنوات ساخرة في يوتيوب مثل "خرابيش"؛ حيث يتولّى أمرها رسّام الكاريكاتير والمخرج أشرف حمدي الذي أخرج عدّة فيديوهات سخرت من محاكمة مبارك وموقعة الجمل والمحاكمات العسكرية وحوادث أخرى كثيرة تستجدّ على الساحة السياسية المُتابعة من السواد الأعظم من الشعب المصري، لنجد أن السخرية اتخذّت مجالا متحرّكا أيضا، لتنزوي بعد ذلك كتب الأدب الساخر؛ إذ لا تأتي بجديد أمام هؤلاء الساخرين المجهولين للعامة المعروفة "قفشاتهم" للأغلبية.