في هذه الأثناء التي يحتفل بها العالم بكاتب الرواية العربية الأول الحاصل على جائزة نوبل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، يتراءى أمامي شريط من التحف التي قرأتها أو التي شاهدتها؛ فتركت ما تركت من أثر في نفسي، والحقيقة المدهشة أن نجيب محفوظ بعد أن انتقل إلى عالم السينما لم يتأثر أدبه بأي شكل من الأشكال؛ بل لعله كان المرآة التي نقلت أدبه إلى مَن لم يملك أن يقرأه ليراه أمامه. ما من عمل سينمائي أو تليفزيوني قرأته وعاودت مشاهدته على شاشة التلفاز إلا رأيت فيه هذا الأدب النجيباوي شاخصا لحما ودما أمامي؛ فالسيد أحمد عبد الجواد مثلا لم تختلف صورته على الورق بعد أن عكستها مرآة الشاشة الفضية؛ ولعل ذلك لأن محفوظ كان من قلائل الكتاب الذين أجادوا فن السيناريو؛ فكان يعالج أعماله التي يعرضها على التلفاز. لكن.. هناك معلومة عجيبة قد لاحت بخاطري، ولعلها لاحت بخاطرك أنت أيضا؛ وهي أن أواخر أعمال نجيب محفوظ التي تمّ عرضها على التلفاز -الفيلمية منها والدرامية- لم يكن هو كاتبها التليفزيوني؛ بل كان السيناريست محسن زايد!! لم أشعر بهذه المفارقة ولم أعبأ بها؛ إلا عندما شاهدت مؤخرا مسلسل "حديث الصباح والمساء"، ولم أكن أعلم حيقيقة أن هناك رواية لنجيب محفوظ بهذا الاسم.. ظللت طوال المسلسل أشم عبق نجيب محفوظ في إظهار الشخصيات والفلسفلة التي تكتنف القصة، وطريقة العرض، والاهتمام بالتفصيلات.. وكنت في غاية الدهشة؛ كيف لكاتب معاصر أن يتمثل خطى نجيب محفوظ بهذا الشكل المرآوي؟ وما إن انتهى المسلسل حتى وجدت اسم نجيب محفوظ يزين واجهة المسلسل، وتلاه اسم محسن زايد.. ولم يكن اندهاشي كبيرا ساعتها؛ لأني ظننت أن محسن زايد أجرى فقط مجرد معالجة على الموضوع؛ إلى أن تصادف بعدها بأيام أن وصل ليدي رواية حديث الصباح والمساء؛ فوجدتها مجرد فكرة خام، لم يتم تجهيزها بأي شكل من الأشكال حتى لمجرد القراءة؛ فكيف تمكّن هذا "الزايد" من أن يبثّ فيها الحياة لتصبح كائنا حيا من لحم ودم؟! وما لبثت أن شرعت في البحث عن أعمال نجيب محفوظ التي كتب معالجتها الدرامية محسن زايد؛ ففوجئت أنه قد كتب سيناريو: الثلاثية، وحديث الصباح والمساء، والسيرة العاشورية... إلخ، وكلها أعمال ضخمة وقوية لا تشعر بالفرق بين قراءتها وبين عرضها؛ وكأن كاتبيْها شخص واحد؛ بل إنك لتشعر بالتماهي بين المؤلف والسيناريست في هذه الأعمال كشعورك به وأنت تشاهد أو تقرأ على سبيل المثال: "القاهرة 30"، أو "اللص والكلاب"، أو "جعلوني مجرما" من تلك الأعمال التي كتب السيناريو الخاص بها نجيب نفسه. شعور بالاندماج الكامل كالذي تجده بين نزار قباني وكاظم الساهر على سبيل المثال. والأعجب من هذا أن محسن زايد كان له أعمالا خاصة كتبها لنفسه -وليست معالجة لنجيب محفوظ- تختلف عن أعماله تلك؛ وإن كانت آثار نجيب محفوظ لا تزال تلقي بظلالها عليه. وما يثير العجب حقا أن شخصيات نجيب محفوظ قد حملت بين جنباتها سحرا أضفته على من شارك في تمثيلها على الشاشة؛ فأصبحوا جميعا نجيب محفوظ وشخصيات نجيب محفوظ؛ لا فرق في ذلك بين الممثلين -وهم أكثر من أن يتسع المقام لسرد أسمائهم- أو المخرجين كصلاح أبو سيف أو وائل عبد الله. كان هذا ملمحا بسيطا عن طيف نجيب محفوظ الذي يسحرنا وينفذ من خلالنا دون أن ندري، ولا يمكننا القول أخيرا إلا أن أدب محفوظ كان من السحر والصدق؛ بحيث أصبح بشكل أو بآخر ينطبع على نفوس مؤديه؛ أفلا ينطبق على نفوس قارئيه ومشاهديه؟!